حكايتى مع الأقباط

نبيل شرف الدين

بقلم:نبيل شرف الدين
فى مناسبة الاحتفال بعيد القيامة، وبعيداً عن العبارات المُمّلة التى فقدت صلاحيتها عن النسيج الواحد والصور النمطية المستهلكة لتعانق الهلال مع الصليب، سألوذ بتجربتى الشخصية مع أهلنا الأقباط المسيحيين، وهى حكاية بها ما يستحق أن يُروى، ليس فقط من باب المجاملات الركيكة، بل أيضاً لأنها تتضمن سلسلة مصادفات قدرية، لا يملك المرء لها تفسيراً إلا لحكمة يعلمها الله وحده.

نشأت فى عائلة يطلق عليها «بيت علم»، فوالدى من أوائل المتعلمين فى محيطنا الاجتماعى، وجدى من الحاصلين على شهادة العالمية من الأزهر، وهناك العشرات من أقاربى اعتلوا المنابر خطباء، وتصدوا للإفتاء والإمامة، وواظبت على الصلاة قبل أن أبلغ الحلم، وحفظت القرآن الكريم كاملاً حتى قبل أن ألتحق بالمرحلة الابتدائية.

أكتب هذا لأقطع الطريق على لعبة المزايدات الرخيصة بأفضلية هذا الدين أو ذاك، لكن المعنى الأهم الذى ينبغى للأمم المتحضرة أن ترسخه، هو الاحترام المتبادل والعيش المشترك بين معتنقى الأديان والمذاهب والطوائف كافة، لأننا فى النهاية بشر قبل أن نكون مسلمين أو مسيحيين.

قبل التحاقى بمدرسة رائعة أسهمت فى تنشئتى، كان شفيعى للالتحاق بها مدرس قبطى أقنع أبى بالأمر وتكبد عناء الإجراءات كافة عن طيب خاطر، وحين التحقت بكلية الشرطة أتت التزكية الحاسمة من وزير قبطى شهير كانت تربطنا به علاقة عائلية، وحين نشرت أول موضوع صحفى، وكنت حينئذ لم أزل ضابطاً، كان بتشجيع أستاذنا مفيد فوزى، إبان رئاسته تحرير مجلة «صباح الخير».

وهكذا توالت المحطات الفاصلة فى حياتى، وكانت إرادة ربانية دائماً تضع فى طريقى قبطياً يمنحنى الفرصة عن طيب خاطر ودون مقابل ولا حسابات، اللهم إلا قناعته بالأمر، حتى صرت أسيراً لشبكة كاملة من المحبة القبطية، لا يجمع بين خيوطها رابط سوى روح مصر التى أحسب أن الأقباط حرسها الحديدى، وإحدى أجمل أيقوناتها، لدرجة لا أتخيل معها مصر يوماً وقد خلت منهم، تحت ضغوط مناخ سياسى واجتماعى طارد، وفى ظل الاطراد المتنامى لهجرة الشباب القبطى.

 من هنا فالعدل لا يعنى فى هذه الحالة أن يحصل الأقباط على كامل الحقوق واحتضان المجتمع لهم، بل يمتد لحد المطالبة بما يعرف قانونياً بالتمييز الإيجابى، أى تهيئة ضمانات تكفى لانخراط الأقباط فى الحياة السياسية، وأن نحسب لهم ألف حساب فى كل خطوة وقرار، لأنهم شركاء وليسو ضيوفاً.

حين أقرأ للمهووسين دينياً عن اتهامات صريحة أو مبطنة للأقباط بأنهم «طابور خامس»، يسرح خيالى بعيداً ليستدعى من قاع الذاكرة صورة رفيق الصبا المسيحى «مكرم»، وهو حالة نموذجية للقبطى الضارب بجذوره فى مصر حتى الفراعنة، فهو ابن لأسرة فقيرة واضطر والده للعمل بمهنة شاقة ليؤمّن نفقات الحياة وتحقيق حلم عمره بتعليم أبنائه بالجامعات حتى لا يجدوا أنفسهم مضطرين لمكابدة ما عاش ومات «عم معوض» يكابده.

 فأن يجتمع فى المرء الفقر بالوراثة مع انتمائه لأقلية مهمشة، واضطراره للعيش فى قرية نائية بصعيد مصر، فإن المأساة تكون قد اكتملت أركانها، وهو ما ترك جروحاً غائرة فى روح صديقى تلازمه رغم اجتيازه بوابة الحاجة بارتقائه سلم المجتمع حين أصبح طبيباً كبيراً، لكنه ظل يعترف بأن الفقر والشعور بالتهميش سيلازمانه طيلة حياته، وأنه فشل فى تجاوزهما، وغاية ما يحلم به ألا يحمل اطفاله هذه «العاهات النفسية»، على حد تعبيره.

وأخيراً فإذا كنا ننتقد السياسات الحكومية المائعة وقصيرة النظر فى هذا الملف، ونتصدى للتيار المتطرف لمواقفه العنصرية وخطابه التحريضى ضد المسيحيين، فإن الكارثة تتبلور فى مواقف النخبة التى ينبغى عليها التخلى عن تراثها الشمولى، وتكف عن مداهنة الغوغاء، لأن مهمة النخبة فى أى مجتمع هى توعيته وقيادته، لا الانسياق وراء الدهماء، لانتزاع الإعجاب والتصفيق، فكلمة الحق ثقيلة لا يجرؤ على التصدى لها إلا نفر قليل، لكن عزاءهم أن أجيالاً قادمة ستجنى ثمار هذه المواقف النبيلة، تماماً كما جنينا حصاد جيل آباء النهضة، مثل طه حسين وأحمد لطفى السيد ومحمد عبده وغيرهم.

nabil@elaph.com
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع