الحسد

إستير أبيحائل

بقلم إستير أبيحائل
من أقوال سقراط:
"الحسد هو وليد الكبرياء، هو مؤلف القتل والإنتقام، هو منجب الفتنة الخفية، هو المعذب الدائم للأخلاق الحميدة. الحسد هو الوحل القذر الذي تسقط فيه النفس  هو سم يأكل الأجساد ويجفف العظام"٠
 
لماذا اكتب عن الحسد؟ وهل للكلام عن الحسد مكان في سياق دراستي وكتاباتي عن الحريات واحترام حقوق الإنسان واهمية التعددية في المجتمع؟
اسئلة راودتني عندما بدأت ارى الحسد وهو يعيث فسادا في وسطنا . عندما رايته يتغذى على الافراد وينتقص من كفاءاتهم ويستشرى في المجتمع ويعرقل مسار شعبنا .. وكلما امعنت النظر في الحسد كلما زادت قناعتي بان الحسد هو احد اكبر معطلات الحريات واحترام فردية الإنسان.  واخيرا وبعد محاورات كثيرة مع نفسي وصراع كبير مع قلمي  قررت مواجهة ذلك المفسد.

عندما كنت في سن صغير كنت احسب الحسد غولا أسودا، لا يمكننا رؤيته بالعين المجردة، ولكنه يخرج من عيون الناس الاشرار ليصيب الاشياء رائعة الجمال والناس بالأذى. ولا اذكر انني اخذت مفهومي هذا من الاساطير الخرافية التي كانت تحكيها لي جدتى، بل ترسخ هذا المفهوم عندي من ممارسات وثقافة المجتمع من حولي. فكنت ارى كثيراً من الناس يخافون من الحسد.  فقد اتابع حوارا تلفزيونيا مع احد الأغنياء و اجده يرفض بشدة ان يبوح عن حجم ثروته خوفا من الحسد! أو ادخل الى محل تجاري ناجح فأجد صاحبه يجلس على كرسي وقد علق خلفه على الحائط قطعا من الحجارة الزرقاء لأنه يخاف من الحسد!!  و كلما لبست فستانا انيقا اسمع القول "ربنا يحفظك من الحسد"٠

و لكن عندما وصلت إلى سن النضوج وتوسعت خبرتي بالناس من حولي وامتدت معرفتي بما يدور في داخل نفسي وتوسع بحثي ودرايتي، اكتشفت ان الحسد ليس هو ذلك الغول الاسود الذي يخرج من عيون الحساد ولكنه مرض خبيث من امراض النفس.  هو مرض يصيب الناس في نفوسهم ولا يصيبهم في اموالهم واجسادهم.  كما قال سقراط "الحسد هو وحل قذر، سم يسمم، هو مؤلف القتل والانتقام". وعرفت ان الحسد يصيب كل البشر: الفقير، والغني، والمتعلم، والجاهل، والأبيض، والأسود، والافريقي، والأمريكي...  وعرفت انه يأخذ لنفسه مسكناً في افكارالناس وفي قلوبهم. وعرفت ان الحسد لا يصيب المحسود بالاذى، انما هو يتغذى ويترعرع على دمار نفس حامله.

الحسد كما يعرفه علماء النفس هو تمني زوال الخير من الآخر بدافع الحسرة على النفس وهو لا يتوقف عند هذا الحد بل يمتد الى الرغبة في اقتلاع الخير من الغير وإمتلاكه وهذه ليست نهاية الحسد فالحسد يجد راحة في إلحاق الضرر بالآخر!. واذا ما اعطى الإنسان فرصة للحسد، يسرع الحسد لتسخير كفاءة ذلك الانسان لتدميرالآخر ثم تدمير الحاسد نفسه.

قد تقول  "الحمد لله انا ما بحسدش حد!". انتظر قليلاً من فضلك.انتظري سيدتي. دعني اعرض عليكم عوارض الحسد اولا.  فالحسد هو غصة المرار التي تشعر بها في داخلك عند سماع خبر تفوق منافسك.  هو ذلك الشعور بالحسرة على نفسك .. الحسد هو تنهد الراحة - الغير مقصود - الذي يأتي من داخلك عند وقوع ضرر او فشل عند الآخر.

خلط الكثيرون بين الحسد والغيرة رغم انهما يختلفان.  فالغيرة تشارك الحسد في كثيرمن المرارة. ولكن الغيرة قد تعود ببعض الفائدة لحاملها .. فغيرة التلميذ قد تدفعه للمنافسة ولتحقيق درجات اعلى من تلميذ آخر. الغيرة هي هذا الشعور الداخلي بالرغبة في امتلاك ما يملكه الآخر.  "يا لروعة فستانها الأحمر.. يا ليتني امتلك مثله" أو "إنه يتكلم الإنجليزية بطلاقة.. يا ليتني كنت مثله" أو "ربنا يفتح علينا زي ما فتح عليكم" أو " كتب مقالاً رائعاً .. تمنيت لو كانت لي كفاءته "  هذه هي الغيرة.   فالغيرة تود امتلاك الشيئ المعادل لما عند الآخر وقد تدفع الانسان لتحسين ما عنده دون ان تتمنى انقاص تفوق الآخرين.  الغيرة لا تتمنى الضرر للآخر.  من الغيرة ما هو حسن، إلا ان الحسد يتميز بانانية مفرطة ويجد راحة في الحاق الضرر بالآخر.  الحسد مرارته رهيبة كئيبة.  ليس في الحسد قطرة واحدة من الحلاوة وليس فيه اي منفعة لحامله او للجماعة.

الحسد يتمنى اقتلاع الشيئ من عند الآخرين والحاق الضرر بهم.  الحسد هو ذلك الضيق الذي تشعر به - رغماً عنك - عندما يعلن احد زملائك خبر اعتلائه لمنصب اعلى من منصبك.. أو منصبا كنت تحلم انت باعتلائه.  الحسد هو ذلك المر الذي يقول في داخلك  "خسارة فيه التعليم" .. "انت فاكر نفسك ايه " أو "معقول ياخدوا ده .. ويسبوني انا؟ " أو "يدي الحلق للي بلا ودان" او " مش عارفة ايه إللي عاجبهم فيها دي .. مش شايفين وشها عامل ازاي؟" أو "اخيرا عمرها بان على وشها" أو" هه .. حرقت الطبخة!" أو " ده خاين  عميل  يستاهل حرقة!" أو "ليه انا؟  ليه مش هو؟؟" الحسد يتمنى الضرر للشخص الآخر ويشفق على حال حامله.. الحسد يملأ نفس حامله بالضيق ولا يدفعه الى التفوق بل إلى تحطيم نفسه والآخرين.  الحسد يقود الى الانقاص من انجازات الآخرين وبالتالي من انجازات الجماعة

قبل أن يقتل قايين اخاه هابيل، لماذا لم يذهب قايين إلى الحقل ويقدم ذبيحة حيوانية مرضية لله مثل ذبيحة اخيه ؟ انه الحسد الذي سلبه تفكيره وصور له ان الله رضي عن اخيه ورفضه هو . رغم ان الله لم يرفض قايين بل رفض تقدمة الاثمار .. ولم يحدد الله عدد الذبائح المقبولة فكان فى مقدور كلاهما تقديم ذبائح حيوانية مقبولة.  و لكن الحسد همس "يا أنا .. يا هو" الحسد يشوش على المفهوم الصحيح للعمل الجماعي ويصور للشخص ان الطريق الوحيد للنجاح هو فشل الآخر.

و للحسد وجه آخر.  الحسد يستنكر حق الغير في النجاح والتفوق.  الحسد يبغي احتكار النجاح كله.  فتجد الطاهية الماهرة تستنكر على غيرها مهارة الطهي .. بل انها قد تذهب إلى تضليل صاحبتها بإعطائها مقادير خاطئة أوتتعمد تناسى ادراج بعض المواد المستخدمة في طريقة طهى احدى الأكلات. رئيس أو مؤسس جمعية قد يحتفظ بمنصبه لعشرات السنين ظناً منه انه احق الناس في هذا المنصب.  وتجد ان الحسد يدفع الكاتب الشهير أو الأديب المعروف لتحطيم كل موهبة جديدة او يتجاهلها.

هل تذكرون قصة المرأة التي راحت في نوم عميق وانقلبت فوق رضيعها فمات، فقامت في الليل وسرقت رضيع صاحبتها بينما كانت أُمه نائمة.  و لم تكتف بذلك بل وضعت ابنها المائت على صدر صديقتها ..تقول القصة انه في ضوء النهار عرفت ام المولود الحى ان ابنها هو المولود المسروق وانه لم يمت، و طالبت بابنها. اشتدت المشاجرة بين السيدتين حتي اتفقتا على الذهاب الى الملك سليمان ليحكم بينهما.  تقدمت كل واحدة بدعواها في ملكية الرضيع.  فلحل الخلاف طلب الملك ان يحضروا له سيفا .. ثم أمر الملك  "اشْطُرُوا الطِّفْلَ الْحَيَّ إِلَى شَطْرَيْنِ، وَأَعْطَوا كُلاًّ مِنْهُمَا شَطْرا"  فأسرعت أم الرضيع الحى بالتنازل عن الرضيع لصديقتها في مقابل الا يموت رضيعها.  واما حاملة الحسد فقالت  "لَنْ يَكُونَ لَكِ وَلاَ لِي: اشْطُرُوه" هذا هو الحسد مدمر النفس و قاتل تقدم الشعوب وهو لا يكترث بالآخر فاذا فقدت انا طفلي فلتفقد هي ايضا طفلها .. لماذا انا؟؟ لماذا لم يمت طفلها هي؟؟ " لتذق هى المر الذي ذقته انا"٠.
هل شعرت يوما بتلك الغصة المُرَّة عندما تفوق الآخرين عليك؟  عندما نظرت الى صديق ناجح في حياته العائلية والعملية وتحسرت على حظك العاسر. الم تكن انت اكثر كفاءة من هذا الصديق؟ الم تكن انت احق بما حققه هو من نجاح في حياته الزوجية والعملية؟.

الحسد لا يكتفي بانزال الضرر على الآخرين و لكنه يلحق ضرراً بالغاً بحامله الذي يعجز عن التحصيل والتقدم حيث ينشغل بالحسرة على نفسه.  وينتقل الحسد من داخل الإنسان إلى خارجه، ومن خارج الفرد إلى المجتمع.  وإذا ما استشرى الحسد بين افراد الجماعة ينقص من تقدمهم ومن قدرة هذه الجماعة في تسلق السلم الحضاري الذي يتطلب تفوق الكثيرين في شتى المجالات.  فالحقيقة هي ان تفوق الآخر به منفعة كبيرة ليس فقط له بل لكل افراد المجتمع.
الحسد يهرب من القلب المطمئن الذي يعرف ان الله يحبه ويعتني به.  الحسد لا يجد مكانا في قلب يدرك ان لكل انسان مكان في قلب الله، وان لكل منا دورا ليلعبه. يقول الحكيم سليمان "حياة الجسد هدوء القلب ونخر العظام الحسد" أمثال 14:30
 
خلاصة القول أن الشعور بالغيرة شىء يمكن أن يكون طبيعيا لو كان بقدر معقول ويؤدى الى محاولة التفوق وتقليد النجاح. ولكن الحسد المريض هو الذى يولد الكراهية ضد الآخرين ويتمنى لهم الشر. وفى النهاية يصيب صاحبه بالمرض النفسى والعضوى.

وفى مجال العمل القبطى الحقوقى نرى ظاهرة الحسد واضحة فى التعامل بين النشطاء وبسببها يتعرقل العمل. وربما ما يساعد على إطلاق طاقة الحسد عند البعض هو ظهور نزعة الغرور عند البعض الآخر. ولذلك على من ينجح أن لا يصيبه الغرور وينسى أن نجاحه كان نتيجة اسهامات من سبقوه والذين يعملون من حوله.  ومن ناحية أخرى على الجميع أن لا يحسدوا الناجح بل أن يفرحوا بالنجاح الذى حققه واحد منهم لأنه نجاح للقضية التى يعملون جميعا من أجلها بغض النظر عن من كان حظه أن يقوم بالخطوة الأخيرة التى حققت النجاح النهائى.
اتقدم بجزيل الشكر لأُستاذي الفاضل منير بشاي لتفضله بمراجعة هذا المقال و اضافة خلاصته
estherabihail@gmail.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع