عزت بولس
بقلم: عزت بولس
قادتني ظروف الحياة لمعايشه أنماط مختلفة من المجتمعات،وهذه الفرصة التي مُنحت لي ساعدتني كثيرًا على إدراك المعنى الحقيقي لمفاهيم كالتطور والتمدن والرقي وكذلك التخلف والرجعية والجمود.
الخبرات الحياتية والفكرية مجتمعة التي أُضيفت إلي من معايشة المتناقضات منحتني القدرة على الوقوف بوضوح على الأسباب التي تدفع بمجتمع لأن يكون متمدينًا وبأخر لأن يكون "متخلفًا"عفوًا للفظ لكنه الأكثر صلاحية برأيي لرصد حالة التدني التي تعيشها حاليًا المجتمعات الشرقية الجامدة.
المجتمع الراقي المتطور المتمدن هو ذلك الكيان الذي يعتمد على فكر النهضة، ومن ثم مساعده أبناءه بوسائط اتصاله بهم على بناء عقل علمي منظم يدفعهم-أبناء تلك المجتمعات- لانتهاج المرونة والانفتاح مع الأطروحات الفكرية والأخلاقية التي تُفرز مع مُستجدات كل عصر، وبذلك النمط تعيش تلك المجتمعات في دينامكية تغيير مستمرة لا تعرف الثبات على الإطلاق،وهم محقين كل الحق في تفكيرهم المتطور هذا، فلما الإبقاء على قاعدة أو فكر ما كان سائدًا ونافعًا بمرحلة زمنية بعينها لها ظرفها التاريخي والعلمي والاجتماعي المغاير تمامًا لواقع اليوم؟!
هنا يجب أن أشير لنقطة هامة ألا وهى أن تلك المجتمعات المتطورة المتمدينة لا تُغير قيمها الأخلاقية بمرور الزمن وإنما فقط تُغير سلوكها الأخلاقي،بمعنى أن القيمة الأخلاقية ثابتة لا تتغير مع الزمن،فالصدق والأمانة والعدل والمساواة قيم أخلاقية ثابتة لم ولن تتغير،لكن فهمنا للفعل أو السلوك الأخلاقي هو الذي يتغير ومن ثم نتطور،وسأذكر أمثلة عامة من التاريخ لإيضاح الفكرة، بالماضي عندما كان يُنهى رجل حياة امرأة من عائلته لكونه غير راضي عن سلوكها أو اختياراتها بالحياة أيًا كانت،يتم وصف فعله بأنه " سلوك أخلاقي" مع الوقت والحراك الاجتماعي أتضح لنا أن ذلك الفعل لا يصح أن يوصف إلا بالجريمة.
المجتمعات المتمدينة المتطورة هى التي تمنح أبنائها حرية التفكير دون وجود حاجز لتلك الحرية،فهي مجتمعات قوية بدرجة أنها لا تخشي ما يمكن أن نصفه نحن بالشرق "شطحات" فكرية لأبنائها، فُتقدم لهم بتلك المساحة الغير محدودة بأيه أسوار دينية كانت أو سياسية التربة الخصبة للإبداع،لإيمانها –أي تلك المجتمعات- بأن كل فرد من أبنائها عنصر فكري مستقل يحمل جديد سيجعل نسق المجتمع الفكري ككل أكثر ثراء وإضافة.
سويسرا واحدة من المجتمعات المتمدينة المتطورة، والتي لامست من واقع معيشتي بها نحو ثلاثين عام الكثير من أشكال التطور الكبير الذي مر به ذلك المجتمع فتحول وتبدل من بعض الضيق حول بعض الأفكار للرحابة الغير محدودة وسأذكر مثالين عاصرت تفاصيلهم سنوات من حياتي.
** بسبعينات القرن الماضي اجتاحت العمالة الإيطالية سويسرا لظروف تدني اقتصادي بإيطاليا، وكانت تلك العمالة لا تخرج في نشاطها المهني عن نطاق الأعمال"البسيطة" والتي تحتاج لمجهود بدني ليس إلا...بطبيعة الشعب السويسري في ذلك الوقت، والذي كان يحمل عداء كبير لكل ما هو أجنبي، عاني الإيطاليين من نبذ ورفض قاسي من المجتمع السويسري، بل و استهزاء يمكن وصفه بأنه" احتقار" يقوم به كل أفراد المجتمع وبكل الأماكن حتى بدور الحضانات للأطفال.
تنبه لذلك الخطر الكثير من المثقفين السويسريين والإعلاميين وعدد من هيئات التدريس بالجامعات وبدئوا معًا حملة ضمنية لمخاطبة العقل السويسري وتضييق الهوة بين الضائف والمضيف، ودعوته لأن يتفهم أن العمالة الايطالية"بني آدميين" يشعرون لهم طموحاتهم وأزماتهم وعاداتهم وأفكارهم، وليسوا مجرد ماكينات لأداء الأعمال التي هى بواقع الأمر تخدم المجتمع السويسري،النظرة للعربي في ذلك الوقت كذلك بسويسرا لم تكن أفضل حالاً من وضع الإيطاليين فكلمة"عربي" كانت مساوية في معناها الاجتماعي الدارج داخل سويسرا، لمعاني سلبية متدنية كالكسل والخمول وعدم النظافة والتخلف وغيرها من صفات مؤذية لمن يجدها ملتصقة بها لا لسبب سوى إنه" عربي"...وأتذكر جيدًا في ذلك الشأن الدعوات التي أطلقتها أحد الأحزاب المعادية للوجود الأجنبي لـ"تطهير" المجتمع السويسري على حد وصفهم من الأجانب،ولكن هيهات فقد فشلوا في بث جمودهم وتحجرهم بالعقل السويسري الذي رأي أن العزلة ليست حلاً وأفكار الماضي الخلاص منها هو السبيل الوحيد لأخذ مكانة متقدمة بعالم اليوم.
ولأن السويسري عظيم بقدرته على التغيير أعتنق الفكر الجديد وحقق لوطنه التنوع الثقافي والمزج الحضاري الذي دفع بسويسرا للأمام وليس الخلف.
** ببداية عملي الهندسي بسويسرا كلما تقدمت لعمل أجد خانة عجيبة باستمارة التقدم يجب أن أدون بها عقيدتي الدينية أو تحديدًا طائفتي الدينية" كاثوليك،بروتستانت.....".
أذكر كذلك أنه كان من غير المقبول على الإطلاق بسويسرا منذ ثلاثين عام أن يتزوج أبناء الطوائف الدينية المختلفة من بعضهم البعض...الآن الحال تبدل تمامًا ليس هناك أي خانات للعقيدة الدينية بأية أوراق ثبوتية سويسرية، بل لا تجد بالأساس أحد يسألك عن ماهية عقيدتك الدينية ؟ المجتمع تبدل أعتنق أفكار جديدة تخلى عن القديم الغير مجدي لعصر اليوم،بمساندة من يملكون وسائل الاتصال ومن ثم التغيير "الإعلام والتعليم" وهنا أؤد الإشارة إلى أن الفرد السويسري ذاته بذل مجهود مع ذاته لتغيير أفكاره القديمة لأنه إنسان والتغيير للفكر ليس بضغطه إليكترونية.
الأجنبي الآن بسويسرا له ذات الحقوق وعليه ذات الواجبات التي يقوم بها السويسري طالما كان مندمجًا مع المجتمع ولا ينفصل عنه بأفكار إرهابية أو عدائية ضد أي جنس أو أتباع دين أو معتنقي فكرها بعينها،فالحق الإنساني هو القيمة العليا بالمجتمع السويسري وليس أي انتماءات أخري أيًا كانت.
لننتقل لحديث الشجون ألا هو المجتمعات الجامدة-مصر واحدة منها- والتي أنجبت نتيجة للجمود الذي تعيشه حالة من التخلف المتمثل في التدهور أو بمعنى أدق انحدار ثقافي واجتماعي وأخلاقي كبير يُطلق عليه مجازًا لحفظ ماء الوجه" نمو" أو بلدان نامية،في حين أن ذلك غير سليم بالمرة فالنمو وفق ما أفهمه يصاحبه محاولات للرقي الفكري والتحضر الاجتماعي والتنوع الثقافي،لكن الواقع يقول أن تلك البلدان مازالت تقيدها بشمل يدمي القلب أغلال تقاليد بالية وسجن نصوص ثابتة على نحو جعلنا نستحق أن نوصف وعن جدارة بـ"الأمم المتجمدة فكريًا".
المفاهيم الاجتماعية وما تشمله من عادات وتقاليد لا ينبغي لها أن تظل محل تقدير وتبجيل واحترام طوال الوقت منا كما يرهبنا "المتحجرون" والذين اعتادوا النمطية وأحبوها، ولم يتركوا خلية واحدة من أدمغتهم ألا وصنعوا لها سياجًا من أصنامهم الفكرية التي عبدوها لسنوات طويلة،هؤلاء يرفضون أي شيء جديد أي فكر جديد ويعتبرون من هم خارج "كهوفهم التاريخية" ليسوا إلا "شواذ ذهنيًا" وذلك الإقصاء والرفض منهم ليس له أساس منطقي أو سند عقلي،لأنه بمجتمعات الجمود والتخلف الاتهامات معلبة في انتظار الترويج،والنقاش ممنوع لأن مسلمات الأجداد قالت وأوردت وأوضحت وأشارت وأكدت وووو ومن ثم فعلينا أن نحيا اليوم بفهم الأجداد الكبار المفكرين البارعين ليموت الإبداع في مجتمعاتنا بمرض التجمد الذي يشل مطلقه أولاً تمهيدًا للقضاء عليه.
ألا ندرك أن الثبات على تنفيذ موروث ما أيًا كان مصدره دون تغيير يعنى قتل قدراتنا على صنع "الحضارة" بعالم اليوم،ألا نخجل من أنفسنا ونحن مُستقبلين فقط للمنجزات التكنولوجية وغيرها لأبناء حضارة اليوم ونستخدمها ولا نجرؤ يومًا على ابتكار مثيلتها، لأننا أبناء فكر الماضي بأجساد تحيا اليوم، وعقل مغيب في الدوران حول مدى صلاحية بديهيات حُسمت من عهود عده بمجتمعات أخري.
استقرارنا على موروثاتنا البالية ما هو إلا تأكيد على رغبتنا في تعميق ركودنا وجهلنا وتخلفنا لننفتح"تكفيريًا" وليس تفكيريًا عبر التأثر بمفاهيم قادمة إلينا من الصحراء بروح بدوية جاهلية...كيف لنا نحن أبناء النيل وحضارة الفراعنة أن نروج لأفكار هؤلاء بل وندافع عنها وكأنها الحقيقة المطلقة التي عثرنا عليها بعد طول ضياع؟
أتدركون أن نتيجة حماقاتنا تلك أتجه أصحاب العقول المبدعة بمجتمعاتنا القهرية، للابتعاد والهرب بعيدًا خوفًا من بطش قوى الجمود المتحكمة في عقلية الجموع.
المبدع فكريًا الذي ينادي بالتغيير على كافة المستويات للعبور للمستقبل لا يجد سوى اللفظ والعزل من المجتمع بكافة هيئاته وتحديدًا الدينية،تلك الهيئات التي جعلت المصري محدود الفكر يدور بشكل مستمر في دائرة ضيقة مفرداتها الحق والباطل ...الحلال والحرام...اللائق دينيًا والغير لائق دينيًا... مجتمع يفكر أفراده بتلك المحدودية التي لا يحيد عنها لن ينمو ولن يتماشي أو يتفاعل مع تحديات العصر وما تفرضه تلك التحديات من عبء على أفراده.
أسلوب الحياة المتطور هو وحده الذي يخلق مواطن سوى صالح منتج منتمي لوطنه وإنسانيته ومن ثم سائر الانتماءات الأخرى، وبدونه لن يتحقق لنا شيئًا.
كفي إلى هذا الحد السير بعصر اليوم بعقل وقوانين الماضي، فالثوب البالي القديم لا ينبغي علينا استمرار ارتداءه وتمسكنا به سُيزيد من قهرنا لحق الفرد في أن يكون حرًا،وسيزيد انغلاقنا ورفضنا للتعددية الحقيقة تحت دعاوي حماية مشاعر الأغلبية الدينية أو العرف الاجتماعي وما شابه...ليبقي السؤال هل نريد مستقبلاً يتألق من خلاله المبدعين أم سنترك الساحة لمبدعي الحناجر الذي يحتلون منابرنا الدينية وغيرها لبث أفكار أو سموم الماضي السحيق لتدمير اليوم وغدًا بالتبعية؟
http://www.copts-united.com/article.php?A=19901&I=492