القس. سامي بشاره
بقلم: القس سامي بشارة جيد
اللون الرمادي هو طيف وسط بين اللون الأبيض والأسود، ومن أول نظرة فاحصة ماحصة للألوان المنتشرة هذه الأيام سواء ألوان السيارات أو الأجهزة الكهربائية أو ألوان أجهزة الكمبيوتر والتليفون المحمول نجد أن اللون الغالب في هذه الأشياء هو سيادة اللون الرمادي، وهذا يعكس واقعاً سلوكياً حياتياً وأيضاً طابعاً روحياً داخلياً يمكن من خلال تأمله وتحليله استخلاص بعض العبر وطرح بعض الفكر عبر هذا الرصد لموجة من ثقافة الحياة الرمادية، فهل ارتياح وإقبال الناس على هذا اللون يعني نوعاً من الإعتدال أم الوسطية؟ وما انعكاس ذلك على سلوكنا وواقعنا الروحي؟
الوسطية تختلف عن الإعتدال وتختلف أيضاً عن الواسطة التي هي سمة من سمات كثيرة سلبية تملأ جنبات ثقافة حياتنا اليومية العملية في المصالح الحكومية والقطاع الخاص والتعليم...إلخ، والإعتدال هو فضيلة بين رذيلتين هما الإسراف والبخل أما الوسطية فتعني أن هناك صراعاً ما للإختيار بين نقيضين كلاهما مر، فيلجأ الإنسان إلى حل توفيقي وسط بين نارين، إما الإقدام وإما الإحجام أوحسب علم النفس توتر الأقدام والأحجام، وهذا يعني أن هناك خللاً في معطيات حياتنا اليومية مما يصيبنا بنوع من توتر هذا الصراع، فأصبح الطلب والإقبال على المنتجات ذوات اللون الرمادي ليعكس هذا السلوك الشرائي بعداً روحياً داخلياً يبلور علاقات الناس ببعضهم البعض في هذا الزمان عصر التنوع والتعدد والتعقيد العولمي، وفي الأساس علاقتهم بالخالق التي هي المحك والمنبع لكل العلاقات الأخرى.
أما البعد الروحي للأغلبية في المجتمع المصري فهو سيادة التفكير القائم على الفتاوى، ففي كل شاردة وواردة ينتظر أنصار هذا التوجه من يقول لهم هذا الأمر صحيح وذاك خطأ هذا حلال وهذا حرام، خصوصاً في وقت تنامي الفتاوى الفضائية كنتيجة وتجلي إعلامي خطير وهام من تجليات العولمة المتعددة سواء السياسية والإقتصادية والإجتماعية والإتصالية، وبالنسبة للبعض الآخر وهم أقلية يعتبر هذا التوجه سلوكاً غير مقبول، إذ تعتبر الحالة الوسط إما تردداً وإما فتوراً وفي بعض الأحيان رياءاً، فليس دائماً خير الأمور الوسط... فبالنسبة للإيمان لا توجد حالة وسط كالتدين مثلاً بين الإيمان وعدم الإيمان وإن وُجدت فهي غير محببة فإما مؤمن أو غير مؤمن، أما حال كون الإنسان متديناً يعرضة للوقوع تحت الرفض وربما الدينونة كما يقول الكتاب المقدس "أنا عارف أعمالك أنك لست بارداً ولا حاراً ليتك كنت بارداً أو حاراً! هكذا لأنك فاتر أنا مزمع أن اتقياك من فمي" (رؤ 4: 15-16)، وأيضا رجل ذو رأيين متقلقل في كل طرقة، فالحب لا يمنع الحزم والحسم والحياة عبارة عن مجموعة اختيارات كما قال أحدهم "نولد بلا اختيار ونموت بلا اختيار وبين الميلاد والموت نختار" ومرات كثيرة التنازلات الصغيرة تقود إلى أخرى كبيرة، فالنجاح في الحياة مع الله وفي الحياة العملية يتوقف علي كيفية صنع واتخاذ القرار.
لقد رفض السيد المسيح رياء الكتبة والفريسين المرائين إذ اعتبرهم كالقبور المبيضة من الخارج التي تظهر للإنسان أنها جميلة ونظيفة ولكنها من الداخل ملآنة عظام و كل نجاسة أي كل من يلمسها يتنجس طقسياً, كما رفض السيد المسيح جميع حلول إبليس على جبل التجربة رفض الحل السريع للشبع في عالم الرغبة الملحة للثراء السريع فليس بالخبز وحدة يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله، ورفض الحل الديني أو التدين أو حلم الطيران فوق الواقع والإبهار الإعلامي الذي يقدمه كسوبر مان ورفض المغامرة الغير محسوبة والمقامرة بالحياة في سوق تجارة البشر، كما رفض أيضاً الحل السياسي بمقايضة ما لله بما للعالم عندما رفض السجود لإبليس مقابل ممالك العالم ومجدها، رفض بحسم وحزم واعتبر هذه الحلول حلولاً خاطئة اإ كانت مؤقتة بل وسطية إذ هي أنصاف حلول وفضل، وقدم الحل الأصعب والأفضل والأمثل حل الصليب، ليكون ملكاً بلا قصر غير قلوب البشر وسلطاناً بلا تاج ملوكي سوى إكليل الشوك وأميراً بلا رداء قرمزي غير رداء البر, البر الذي بالإيمان فبدون إيمان لا يمكن إرضاء الله وإيمان بدون أعمال ميت، بالداخل الإيمان القلبي وبالخارج السلوك العملي الحياتي كنتيجة وترجمة لهذا الإيمان، أما الأعمال التي لا تنبع من الإيمان فهو رياء وتمثيل وادعاء مغرض ومرضي ورغبة في إرضاء الناس لا محبة في الله ولا ممارسة لحضوره.
وفي صراعنا اليومي مع معطيات حياة صعبة تزداد صعوبة يوماً تلو الآخر يجد الإنسان نفسه أمام حيز ضيق تكاد تنعدم فيه مساحة الحرية، وتضيق أمامه سلة الإختيارات حتى يجد نفسه وحيداً في فراغ، إذ تدور عجله الأيام ويدور معها إنسان هذا الزمان كالثور حول محيط رغيف الخبز فيجد نفسه جائعاً ومريضاً وأمياً فينكفئ على ذاته ويتقوقع ويتطرف ليبحث عن عالم خيالي من صنعه هو يتوحد فيه ويتعبد لإله من فرديته هو، وهذا ما يسمى بالهروب أو الإنسحاب من عالم الواقع إلى عالم الخيال، تماماً كما تفعل جرعة الحشيش الذي يملأ فكر الشارع المصري بعقل الباشا الدرويش إذ لا تخلو مناسبة مفرحة أو محزنة من خدر سيجارة بانجو أو سكر كأس خمر...
وفي العالم الروحى يكون ذلك عن طريق زياده الإنفعال والتركيز على المشاعر في العبادة من دون المزج بين أعمال الذهن وأعمال الروح معاً في بوتقة واحدة، كما يحدث في حاله تعاطي الحركة الكاريزماتيه، إذ تركز على جو مليء بحالة وجدانية مشتعلة مع إبطال لدور العقل وتسحب الإنسان لخدر جو خيالي بعيداً عن الواقع بكل آلامه وتحدياته، وأصبحت هذه السحابة هي الواقع الروحي للأغلبية تماماً كواقع سحابة قش الأرز في دلتا مصر، إذ أصبح تعاطيها أحد مكونات الحياة اليومية في سماء الدلتا مما يضطر بعض الصدور العليلة إلى الهجرة إلى هواء الإسكندرية العليل لعل فيه الراحة والشفاء.
وكما وهب النيل إلى مصر النماء والخضار والتربة الخصبة فمصر هبة النيل كما قال المؤرخ هيرودوت، وهب أيضاً الشخصية المصرية طبيعة النيل الهادئة الساكنة فأصبح قاسماً مشتركاً عند المصريين التواكل والرضا بالمقسوم فهو عباده، والإذعان للمقدر والمكتوب فالمكتوب على الجبين لا بد وأن تراه العين والقضاء والقدر جزء أصيل من ثقافه الحياة الرمادية، فالإنسان مصيراً وليس مخيراً مما يعطي فسحة كبيرة لعدم الرغبة في التغيير، فليس في الإمكان أفضل مما كان وعدم الرغبه في التطوير وانعدام الإبداع والإبتكار، فكل جديد بدعة إلى أن يثبت العكس وهذا على حساب الزمان بعد أن يكون قد فات الأوان، فروح الإبداع والمغامرة والرغبة في التطوير والتغيير هبة من هبات واهب النيل يعطيها بفعل روحه القدوس روح الحكمة والإعلان الذي يغير دواخلنا وواقعنا عن طريق سكناه فينا وسكنى الكلمة الحية المحيية بغنى في عقولنا وأذهاننا، وهذا يتطلب انفتاحاً على عالم الواقع لنحوله إلى واقع عملي أفضل وأجمل من الخيال، واقع يرفض الوسطيه ويتمرد على التطرف ويمحو الواسطة حتى يكون إما أبيض وإما أسود حار أو فاتر، وليس كما تمليه ثقافة هذا الجيل ثقافة الحياة الرمادية.
القس سامي بشارة جيد
ماجستير مسيحية الشرق الاوسط
pastorsamymg@yahoo.com
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=1997&I=55