القس. رفعت فكري
في ذات الوقت الذي ظهر فيه إستطلاع الرأي الذي أجراه معهد "جلوب" الأمريكي والذي شمل 143 دولة حول العالم، والذي إستخلص منه المعهد أن المصريين أكثر شعوب العالم تديناً, ظهرت بعض الأمور على الساحة المصرية تدعو للقلق والخوف على مستقبل مصر. فهذه الأمور تؤكد أن مفهوم التدين لدى معظم المصريين ليس تديناً شكلياً ومظهرياً وزائفاً فقط بدليل ما وصلت إليه مصرنا من فساد وعدم شفافية وتحلل أخلاقي وتحرش جنسي في الشوارع, ولكنه تدين –مع الأسف– أصبح مرتبطاً بالتطرف والتعصب والأصولية والظلامية الفكرية، وبالطبع نحن لا نُعمم ولكننا نتحدث عما آلت إليه الأمور عند شريحة غير قليلة من المصريين، ففي الأسبوع الماضي شهدت ساحة مسجد الحسين بمنطقة الأزهر عملية إرهابية استهدفت بعض الأفواج السياحية المترددة على المنطقة وقد لقيت سائحة فرنسية مصرعها وأصيب 31 فرنسياً و3 ألمان و4 مصريين بإصابات مختلفة نقلوا على أثرها إلى المستشفيات, وما حدث يجعلنا نتساءل هل عاد الإرهاب الدموي ليطل بوجهه القبيح على مصرنا من جديد؟!! وهل للإرهاب مرجعية فكرية؟!!
وفي مجلس الشعب وتحديداً داخل لجنة المقترحات والشكاوي، عندما بادرت النائبة الدكتورة إبتسام حبيب بالتقدم بإقتراح مشروع قانون لتوثيق عقود الزواج العرفي حمايةً للفتيات من التغرير بهن، انبري نائب الحزب الوطني عبد الرحيم الغول معترضاً علي مبادرتها، ولم يكن الإعتراض منصبّاً على الموضوع على إعتبار أنه قضية إجتماعية ملحة تحتاج لتداول الآراء، ولكن اعتراض النائب الموقر كان منصبّاً على الديانة ففوجئ الحاضرون بالغول يقول لابتسام -وفقاً لما نشرته إحدى المجلات الأسبوعية- «وإنت مالك يا مسيحية..» ونظراً لأن الكلمة كانت قاسية، فأراد سيادة نائب الشعب أن يعتذر عنها فقال «أنه قصد أن ذلك الإقتراح يجب أن يقدمه نائب مسلم»!! والغريب في الأمر أن هذا التصريح الطائفي لم يصدر من أحد أعضاء الجماعة المحظورة ولا من أحد المتطرفين الأصوليين، ولكنه مع الأسف صدر من قيادي في الحزب الحاكم الأمر الذي يدعونا لأن نقلق وبشدة على مستقبل مصر!!
ومن مجلس الشعب إلى وزارة التربية والتعليم، الكل في التعصب سواء، فرغم صدور قرار من النائب العام الأسبوع الماضى بالموافقة على نقض الحكم بضم التوأم المسيحى أندرو وماريو إلى أبيهما مدحت رمسيس الذي أشهر إسلامه، فإن سيادة وزير التربية والتعليم، يصر حتى الآن على إعتبارهما مسلمين في إستمارات إمتحان الشهادة الإعدادية، ملزماً إياهما بخوض إمتحان مادة التربية الإسلامية في نهاية العام، وهو القرار الذي أبلغه مدير مكتب الوزير لوالدة الطالبين, وما حدث من وزير التربية والتعليم يدعونا لأن نتساءل أين حرية الضمير والفكر؟ أين حرية الإعتقاد؟ وأين حرية أندرو وماريو في إختيار الدين الذي يستريحان للإيمان به؟!! وإذا كان هذا موقف الوزير فهل لنا أن نلوم رجل الشارع والخفير؟!!
وإذا تركنا مجلس الشعب ووزارة التربية والتعليم وذهبنا إلى أبرز قلاع الحريات، وإحدى ساحات الفكر والرأي أقصد نقابة الصحفيين نفاجأ بأن مجلس نقابة الصحفيين رفض الطلب المقدم من الدكتور محمد منير مجاهد لعقد المؤتمر الثاني لمناهضة التمييز الديني بالنقابة والذي سيكون تحت عنوان "التعليم والمواطنة"!! الأمر الذي يؤكد أن نقابة الصحفيين تسبح بقوة ضد المواطنة وضد الدولة المدنية الحديثة!!
فهل أُختُطفت نقابة الصحفيين؟!
ومن الذي خطف النقابة؟!!
وأي تيار سيطر على النقابة المحترمة؟!
ويعوزني الوقت إن تحدثت عن القضاء والقضاة والأحكام التي تتنافى مع المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان!!
كل هذه الأحداث وغيرها تدعونا لأن نتساءل في قلق وخوف: إلى أين تتجه مصر؟!وأي مستقبل ينتظرها؟!!
إن ما يحدث اليوم في مصرنا الغالية يؤكد بأن عقل مصرقد سُرق!! والذي سرقه هم المتطرفون والإرهابيون والأصوليون، فالتعصب ورفض الآخر أصبحا من سمات عدد ليس بقليل من المصريين، ومن المؤسف أن التعصب لم يعد مقصوراً على رجل الشارع فقط ولكنه امتد ليشمل الوزير والخفير، ورجال القضاء وقادة الرأي والفكر من إعلاميين وصحفيين ونواب للشعب و..و.. و....إلخ.
وهذا الظلام الفكري يذكرني بتلك المرحلة المظلمة التي مرت بها أوروبا في عصورها المظلمة في القرون الوسطى، فحالنا اليوم هو أقرب ما يكون إلى أوروبا في عصورها المظلمة قبل التنوير!! لذلك فإنه لا مخرج لنا من هذا النفق المظلم إلا بما خرجت به أوربا من تخلفها ألا وهو التنوير والإصلاح الديني, لقد جيّش كل فلاسفة أوروبا طاقتهم للقضاء على هذا المرض الخطير مرض التعصب والظلامية الأصولية. وكانت البداية للقضاء على الأصولية هو في كيفية التعامل مع النص الديني, فلا جدال في أن النص الديني هو محور الإرتكاز في كل أفق ديني سواء كان منغلقاً أو مستنيراً, لكن الإتجاه المستنير الذي يؤمن بقدرة العقل وبتغيير الواقع، يتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه ليتجدد مع الجديد ويصبح ملائماً لكل العصور ولكل الأزمنة والأمكنة فيكون الدين رسالة مستنيرة وشاملة حقاً لكافة مناحي الحياة.
والحكيم هو من يتعلم الدرس ممن سبقوه، لذا فإنه لا مخرج لنا من هذا النفق المظلم إلا بأن نعود إلى الوراء لنأخذ الدرس من أوروبا لنرى كيف حلت أوروبا مشكلتها مع أصوليتها، فمشكلة الأصولية هي مشكلة المشاكل بل وأم المشاكل!! والمشكلة لن تنحل من تلقاء ذاتها، وإنما تحتاج إلى جهود المفكرين والمثقفين في كافة المواقع.
إن مشكلة الأصولية الدينية هي إحدى المشكلات الكبرى التي تؤرق مصر والعالم من حولنا اليوم وكل مثقف لا يعتبر مشكلة الأصولية بمثابة المشكلة الأساسية لعصرنا الحاضر فليس في عداد المثقفين على أي حال!! لقد أصبح واضحاً أن الأصوليين يشنون حرباً شعواء على المجتمع المدني وعلى المواطنة وحقوق الإنسان وعلى روح العصر الحديثة، ويدقون إسفيناً عميقاً في صميم الوحدة الوطنية ويزرعون الفتنة والبلبلة داخل الوطن الواحد، ويريدون العودة بنا إلى القرون الغابرة، وإلى دولة ما قبل المواطنة، فهل ما يحدث يتطلب منا الإنتظار؟!! وحتى متى سنظل ننتظر؟!!
إنه لمن المؤسف أن المثقفين ظلوا يغضون الطرف عن التيار الأصولي السلفي بحجة أنه تيار شعبي وعلى اعتبار أنه تيار الأغلبية ومن ثم اتخذوا منه أحد موقفين: فإما أنهم غازلوه بغية البحث عن شعبية وجماهيرية، وإما أنهم تجنبوه إتقاء لشره وتجنباً للإغتيال المادي والمعنوي، ولكن حتى متى سيبقى المثقفون مكتوفي اليد؟!!
لا بد من (محاربة) الأصوليين المتزمتين على أرضيتهم، أعني أرضية التراث الديني، لا بد من إعادة تأويل وفهم وتفسير النصوص الدينية بطريقة تتماشى مع متطلبات حضارة القرن الحادي والعشرين، فبدلاً من القراءة المنغلقة، بل والإرهابية التي يقدمها المتزمتون للتراث، ينبغي أن يوجد المفكرون قراءة جديدة لنفس التراث كما فعل فلاسفة التنوير الأوروبي. فلو أن فلاسفة التنوير في أوروبا قالوا بينهم وبين أنفسهم: إن معظم شعبنا أصولي أو يتبع الأصوليين في تفسيرهم للدين، وبالتالي فينبغي علينا أن نلحق بالشعب ونستسلم للمقادير. لو قالوا ذلك لما حصل أي تطور في أوروبا. لكانت أوروبا حتى يومنا هذا ستظل جاهلة، متخلفة، تتخبط في حروبها الأهلية والمذهبية حتى هذه اللحظة، فالوفاء للشعب يعني إنقاذ الشعب من تصوراته الخاطئة، ومن أحكامه المسبقة المكرسة منذ مئات السنين لا اتباعه بشكل أعمى, وهنا يكمن الفرق بين المثقف ورجل الشارع، وعلى هذا النحو فهم فلاسفة التنوير مهمتهم ورسالتهم ولذلك فإنهم لم يدغدغوا عواطف الشعب أو غرائزه، وإنما صارحوه بالحقيقة، وهكذا أنقذوا شعوبهم من وهدة التخلف والإنحطاط، وارتفعوا بها إلى مستوى الحضارة والتمدن والرقي. ولا مخرج لنا من هذه المحنة إلا بنشر ثقافة التنوير والقيام فوراً بالإصلاح الديني قبل فوات الآوان.
إن عقل عقل مصر الذي سرقه المتزمتون والمتعصبون يحتاج لأن يُسترد، إننا اليوم في مسيس الحاجة إلى إعادة صياغة عقل مصر، ليصبح عقلاً منفتحاً متسامحاً يرفض الأحادية ويؤمن بالتعددية الفكرية والمذهبية والدينية, لذا فإنني أدعو الشرفاء والليبراليين وأصحاب الفكر والرأي الحر المستنير -الذين لا يبحثون عن شعبية أو جماهيرية- إلى الإسراع بتنوير العقول والأذهان قبل أن تقضي الأصولية الدينية على الأخضر واليابس معاً، وقبل أن نقف حداداً على مصرنا الغالية فحينئذ لن ينفع الندم ولن يجدي لطم الخدود!!
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا
refaatfikry@hotmail.com
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=2&I=1