الطائفية في العهد العثماني (الفصل الثالث)

د. عبد الخالق حسين

بقلم :عبدالخالق حسين
إن الشعب العراقي، كمعظم شعوب العالم، يتكون من أعراق وديانات ومذاهب متعددة، وهذه التعددية هي نتاج التاريخ والجغرافية. وقد تعايشت هذه المكونات البشرية مع تعدديتها الأثنية والدينية في البلاد عبر قرون، متآخية ومتعايشة بسلام في معظم الأحايين، ولكن كان الحكام ومعهم وعاظ السلاطين وبعض المتطرفين يقومون بإشعال الفتن والصراعات الطائفية بين حين وآخر. لذلك كان الصراع بين الطائفتين (السنة والشيعة) يمر بمد وجزر حسب توجهات السلطات الحاكمة. و تصاعد هذا الصراع في عهد حكم الاحتلال العثماني منذ بداية القرن السادس عشر، ومما زاد في الطين بلةً وقوع الحروب بين الدولة العثمانية السنية، والدولة الصفوية الشيعية (1501 -1740) التي اتخذت من العراق ساحة لصراعاتهما.

الأتراك والصفويون
في الوقت الذي كانت الدولة العثمانية تتعاظم على أثر فتح القسطنطينية، كانت قد ظهرت الحركة الصفوية في آذربيجان التي شكلت خطراً جسيماً على الدولة العثمانية، وكانت  هذه الحركة مزيجاً من البكتاشية، والتشيع الإثني عشري. وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري) تولى قيادة الحركة الصفوية شاب في الثالثة عشرة من عمره يدعى إسماعيل الصفوي، الذي استطاع خلال سنوات معدودة أن يؤسس دولة قوية في إيران، ويضم إليها العراق وما وراء النهر وجزءاً كبيراً من قفقاسيا.

عمد هذا الرجل إلى فرض التشيُّع على الإيرانيين بالقوة لغرض سياسي وهو مواجهة الدولة العثمانية السنية، فجعل شعاره سب الخلفاء الثلاثة (أبي بكر وعمر وعثمان)، وكان شديد الحماس ويقال أنه قتل حوالي مليون نسمة من الإيرانيين لإرغامهم على تغيير مذهبهم من السنة إلى الشيعة.

يروى الوردي عن جون بيرج، أن السلطان سليم العثماني، والشاه إسماعيل الصفوي، كانا كلاهما من أتباع الطريقة البكتاشية. وفي شبابهما كانا جالسين بحضور "بالم سلطان" الشيخ البكتاشي المشهور، فأتفقا فيما بينهما على أنهما حين يصلان إلى الحكم يسعيان نحو توحيد المسلمين في عقيدة واحدة (البكتاشية). فلما وصلا إلى الحكم كتب إسماعيل إلى سليم يذكره بوعده، فأجابه سليم معتذراً بأن وزراءه سنيون وأنه مضطر إلى التباطؤ في تحقيق وعده. فكان هذا الاعتذار سبباً لغضب إسماعيل عليه حيث وصفه بأنه كذّاب وأنه لا يلتزم بكلمته. ومن هنا اشتد العداء بينهما. (علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج1، ص46.)

ومهما كان مبلغ الصحة في هذه الرواية، فإنه كان من سوء حظ الشعب العراقي أن يُبتلىَ بهذين القائدين المتعطشين للدماء بشكل مفرط، وكان العراق ساحة لإشباع نهمهما. إلا إن السلطان سليم بدأ في عام 1514 معركة طاحنة على مقربة من تبريز، أنتصر فيها على الصفويين وقد أمر السلطان بذبح جميع الأسرى وصنع هرماً من جماجم القتلى في ساحة المعركة - كما هي عادة المنتصرين في ذلك الزمن. (نفس المصدر، ص47.)

دخل المحتلون الصفويون بغداد عام 1508م، فبدأ الشاه إسماعيل الصفوي بهدم ما كان فيها من قبور أئمة أهل السنة، وذبح جماعة من علمائهم. وتشير أكثر المصادر التاريخية، إلى إنه فعل بأهل بغداد، مثلما فعل بالإيرانيين من قبل، فأعلن سب الخلفاء، وقتل الكثير من أهل السنة، ونبش قبر أبي حنيفة. (نفس المصدر، ص43).

والمعروف عن الشعوب الإيرانية أنها كانت من أهل السنة، ولكن الشاه إسماعيل أرغمهم بالقوة على تبديل مذهبهم، واستخدم في سبيل تحقيق هدفه هذا السيف والقلم معاً. كما فعل الشيء نفسه الشاه عباس فيما بعد. (نفس المصدر، ص48).
ثم تلاه نظيره التركي السلطان مراد الرابع بعد 15 عاماً بإبادة من يستطيع الوصول إليهم من النصف الآخر من عرب بغداد لأنهم شيعة. وسبقت مجزرة مراد عاصفة من وباء الطاعون الشامل قضت على الألوف من أهل العراق المنكوبين سنة 1635م. (حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية، ص 48-49).

بالإضافة إلى الخسائر البشرية والمادية بسبب هذا الصراع الدموي بين الإيرانيين والأتراك، فإن بغداد تعرضت إلى خسائر ثقافية لا تثمن. فما تم إنقاذه من الكتب والآثار من غزو المغول أتى عليه الدمار بسبب الحروب بين هاتين الدولتين، فلم يكتف الفريقان، الصفويون والعثمانيون، بقتل عرب العراق من السنة والشيعة لأسباب طائفية فحسب، بل راحوا يدمرون المعالم الحضارية في بغداد. فقد دمِّروا ما تبقى من سور بغداد والكثير من الأبنية التاريخية العباسية، والكتب الإسلامية. فعندما يحتل الصفويون، كانوا يشعلون النيران في مكتبات أهل السنة، وعندما ينتصر الأتراك يحرقون ما عثروا عليه من كتب في مكتبات الشيعة.

وإذا ما أجهرت السلطة العثمانية بعدائها للشيعة واعتنقت المذهب الحنفي، فإن ذلك لأسباب سياسية بحتة. ويقول الوردي في هذا الخصوص: "وفي الحقيقة لم يختلف سلاطين الصفويين اختلافاً أساسياً عن سلاطين العثمانيين. كلهم كانوا يعبدون الله وينهبون عباد الله. ولم يكن الفرق بينهم إلا ظاهرياً. إذ كان جل همهم منصباً على تشييد المساجد وزخرفة جدرانها وتذهيب منائرها. ومن مفارقات التاريخ أن يكون العراق منبع هذا النزاع في أول أمره، ثم يكون في آخر الأمر موضع تشاد وتنافس بين دولة سنية ودولة شيعية. وبهذا وقع المجتمع العراقي بين طابقي رحى. (علي الوردي، لمحات إجتماعية، ج2 ، ص249.)

سبب عداء العثمانيين للشيعة 
لقد حكم الأتراك البلاد العربية باسم الإسلام. وأعلن السلطان التركي نفسه خليفة على المسلمين خلافاً للفقه الشيعي الجعفري الذي لا يجيز الخلافة في غير العرب، مستندين إلى الحديث النبوي الشريف "الخلافة في قريش". فيما تعتقد المذاهب الإسلامية الأخرى، أي أهل السنة، وخاصة المذهب الحنفي، انه يجوز للمسلم من غير العرب أن يكون خليفة إذا توفرت فيه شروط الإمامة (الخلافة).. الفقه والعدل والاستقامة..الخ.

فالمجتهد الشيعي ينظر إلى الحكام نظرة تختلف عن نظرة الفقيه السني إليهم، وقد اتضح هذا في القرون الأخيرة حين اتخذ السلطان العثماني لقب "الخليفة" وخوطب بـ"أمير المؤمنين"، حيث أصبح السلطان واجب الطاعة لدى أهل السنة باعتباره ولي الأمر الذي ورد وجوب طاعته في القرآن. أما عند الشيعة فولي الأمر الواجب الطاعة هو الإمام الثاني عشر الذي غاب عن الأبصار، وهم يسمونه "صاحب الزمان"، وينوب عنه إثناء غيبته المجتهدون، ولذا فإن المجتهدين في نظر الشيعة أولى بالطاعة من الملك أو السلطان. وإذا لم يحصل الملك على إذن منهم في الحكم كان حكمه باطلاً.

ويستشهد علي الوردي في هذا الخصوص بقول الشيخ سليمان ظاهر العاملي قوله: "إن المجتهدين جامعي شروط الاجتهاد هم نواب الإمام… ومن وظيفتهم أن لا يقرّوا ظلم ملك ظالم في الرعية، وأن لا يكتموا حكماً من أحكام الشريعة شريطة التمكين وأن لا يجر إلى فساد وإهراق الدماء…". (د.علي الوردي، لمحات اجتماعية ج3 ص82، عن فز دبليو فرنو، يقظة العالم الإسلامي، ترجمة بهيج شعبان- بيروت- ج2، ص205).

استغلال العثمانيين للدين
وعلى الرغم من كون ساطع الحصري، أحد المساهمين في تأجيج الطائفية في العراق في القرن العشرين، ومن موقف غير ديني، لأنه كان علمانياً وقومياً غير متدين أساساً، وسنأتي على ذلك لاحقاً، إلا إنه كشف في مؤلفاته عن مدى استغلال سلاطين آل عثمان للدين في ظلمهم الشعوب الإسلامية التي حكموها وخاصة الشعوب العربية.

يشير الحصري، في كتابه الموسوم: (البلاد العربية والدولة العثمانية) في تتبعه للنزعات الأساسية في السياسة الداخلية للإمبراطورية العثمانية، إلى أن الآيديولوجيا الدينية ورجال الدين المسلمين كانوا ركناً هاماً من أركان الدولة العثمانية، ويؤكد أن السلاطين العثمانيين الذين كانوا يمدون يدهم إلى رجال الدين ويسعون إلى استرضائهم، قد استخدموهم في بسط نفوذهم وسيطرتهم على البلاد العربية، فكان الدين ستاراً يغطون به على ما لهم  من سلطة مطلقة، "فيحاولون أن يدعموا أعمالهم ويبرروا تصرفاتهم بفتاوٍى شرعية يستحصلونها من هؤلاء..

فكان السلطان العثماني يتمتع بسلطات مطلقة، لا يحدها أي حد، والأمر يصدر من بين شفتيه كان يكفي لإعدام الأشخاص، ومصادرة أموالهم دون محاكمة وسؤال.. في الواقع أن أعمالهم كانت تبدو مقيدة -بصورة نظرية - بأحكام الشريعة الإسلامية، إلا إن رجال الدين قلما كانوا يتأخرون عن إيجاد الأحكام وإصدار الفتاوى التي تخدم مآرب السلاطين، وتضفي على أوامرهم وتصرفاتهم صفة شرعية". (ساطع الحصري، البلاد العربية والدولة العثمانية، ص 26-27).

وعلى سبيل المثال، يشير الحصري، بهذا الصدد إلى "الفتوى" التي نصَّت على جواز قتل جميع أخوة السلطان الجديد يوم اعتلائه عرش السلطنة، حتى وقال رجال الدين بوجوب ذلك "منعاً لحدوث فتنة في المستقبل".
وعلى نحو مماثل أمر السلطان سليم الأول، عندما قرر محاربة الشاه إسماعيل الصفوي، بقتل جميع الشيعة الموجودين في البلاد العثمانية، مستنداً في ذلك إلى "فتوى" صادرة من رجال الدين، تعتبر هؤلاء مرتدين عن الإسلام.

والحق يقال أن الحصري كان ضد خلافة آل عثمان، ولكن جاء موقفه هذا في وقت متأخر من حياته الفكرية. ففي معرض الرد على أنصار الخلافة وقولهم بعصمة الخليفة وبأن مخالفة أوامره كفر، ينوه بتهافت التعويل على الدين في أمور سياسية كهذه، وبأن انتقاد أوامر الخليفة ومخالفتها حق للمؤمن إذا رأى فيها "ما يخالف العقل والمنطق". وهنا يورد الحصري ما تجمع عليه مصادر التاريخ الإسلامي من أن عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، قال في خطبة شهيرة له: "أيها الناس، من وجد منكم فيَّ اعوجا فليقوّمه". وعندما قال أحد الحاضرين: "لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا"، عقب على ذلك بقوله: "الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوّم اعوجاج عمر". (ساطع الحصري، أبحاث مختارة في القومية العربية ج2 ص134).

ظلم مضاعف
على أية حال، كان ظلم الدولة العثمانية شاملاً على شعوب الإمبراطورية، وخاصة في البلاد العربية، سنة وشيعة، ولكن ظلمهم على الشيعة كان مضاعفاً، بسبب موقف الفقه الشيعي من الخلافة كما مر بنا، الأمر الذي جعل الدولة العثمانية تناصب العداء للشيعة وتضمر لهم الكراهية، ونكلت بهم خلال أربعة قرون من حكمها. ورغم كون الشيعة في العراق يشكلون الأغلبية العربية، إلا إنهم حرموا من الرعاية والثقافة إلى جانب الاضطهادات الأخرى.
يصف كامل الجادرجي وضع الشيعة أيام الحكم العثماني في كتابه (من أوراق كامل الجادرجي، ص 80) قائلاً: "كانت الطائفة الشيعية تعد في زمن السلطان عبد الحميد، وبالحقيقة في زمن الدولة العثمانية أقلية تنظر إليها الدولة بعين العداء. فلم تفسح لها مجالات التقدم في أية ناحية من نواحي الحياة العامة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك إنها كانت لا تقبل لها تلميذاً في المدرسة الحربية، ولا يقبل منها فرد في وظائف الدولة، إلا ما ندر وعند الضرورة القصوى، وحتى في مدارس الدولة الإعدادية القليلة، كانت توضع العراقيل في طريق دخول أبناء الطائفة فيها.".

وتأكيداً لطائفية الحكم العثماني ضد الشيعة، أرى من المفيد نقل قصة طريفة رواها الراحل عبدالكريم الأزري، بشيء من التفصيل في كتابه (مشكلة الحكم في العراق)، عن تحول أسرة نوري فتاح باشا، من شيعة جعفرية إلى سنة حنفية، أذكرها نظراً لأهميتها و بإيجاز شديد. قال الأزري أن جمعته الصدفة مرة بنوري فتاح باشا، في عمان عام 1975، (وكلاهما من وزراء العهد الملكي)، بعد أن اضطر على مغادرة بيروت بسبب نشوب الحرب الأهلية، وكان في أيامه الأخيرة وقد تجاوز الثمانين حيث توفى بعد أشهر من ذلك اللقاء، فسأله: "هل أسرتك من طوز خورماتو كما يقال؟" فأجاب: "كلا، أن أصل أسرتنا من قرية تسعين، وهي من ضواحي كركوك". فقلت له: "ولكن سكان قرية تسعين جميعهم شيعة جعفريون". قال: "نعم نحن كنا في الأصل شيعة جعفريين، فتحولنا إلى المذهب السني الحنفي. ولتحولنا قصة. إن جدي كان يعمل في كركوك وكانت له معرفة بالمتصرف، وكان شديد الرغبة في إدخال ابنه فتاح، أي والدي، في المدرسة الرشدية لكي يتخرج منها ويدخل الكلية العسكرية ويتخرج منها فيصبح ضابطاً في الجيش العثماني. فسأل جدي المتصرف ماذا يتوجب عليه أن يفعل لكي يحقق أمنيته؟ أجابه المتصرف أن الدخول في المدرسة الرشدية محظور على الشيعة، وأن السبيل الوحيد لإدخال ابنه في المدرسة الرشدية هو أن يبدل مذهبه الشيعي الجعفري بالمذهب الحنفي، ويذهب إلى المحكمة ويسجل التبديل فيها، ويحصل على شهادة بهذا التبديل، ويقدمها إلى مدير المدرسة الرشدية لكي يمكن قبول ابنه تلميذاً فيها. ومتى فعل ذلك عندئذ سيبذل المتصرف ما في وسعه لمساعدته. ونفذ الجد تعاليم المتصرف، وقبل فتاح في المدرسة، ومن ثم في كلية أو مدرسة عسكرية في كركوك وتخرج منها بتفوق، ثم أرسل إلى اسطنبول (الاستانة) ودخل كلية الأركان وتخرج منها بتفوق، وتدرج في الجيش العثماني حتى وصل إلى رتبة أمير لواء التي يتمتع بلقب باشا. وهكذا أصبح والدي فتاح باشا". ثم قال: "هذه هي القصة الحقيقية لأسرتنا." ويعلق الأزري: "ومنها يتبيَّن أن الشيعة كانوا ممنوعين من الانخراط في المدارس الحكومية." (عبدالكريم الأزري، مشكلة الحكم في العراق، ص 346).
والسؤال هنا، كم من كفاءات بشرية حرِّمتْ من الاستثمار بسبب التمييز الطائفي، سواءً في العهد العثماني أو العهود الأخرى التي تلته؟

الطقوس الشيعية
إن الطقوس الشيعية المعروفة من حيث إقامة مجالس العزاء وإخراج المواكب الحسينية وما أشبه، كان قد أسسها الصفويون في إيران منذ القرن السادس عشر وانتشرت هناك دون أن تأتي للعراق، فقد كان الولاة العثمانيون يمنعونها من الدخول إلى العراق، واستمروا على ذلك أكثر من قرنين حتى جاء الوالي على رضا باشا عام 1831 والذي كان بكتاشياً يكن حباً شديداً لأهل البيت والأئمة الإثنى عشر، فكان هذا أول الولاة الذين سمحوا لها. وقبل ذلك كانت تقام مجالس التعزية في السراديب ويجعلون إمرأة تدير الرحى في صحن الدار لكي لا يسمع المارة في الشارع صوت من في المجلس، خاصة في عهد داوود باشا الذي كان متشدداً ضد الشيعة. (علي الوردي، لمحات إجتماعية، ج2، ص109.)

إن أول رجل استطاع أن يقيم مجلس تعزية في العراق كان من أهل النجف اسمه الشيخ نصار بن سعد العبسي. والظاهر أنه اغتنم فرصة الصلح الذي عقد في عام 1821 بين داوود باشا وحكومة إيران الذي  توسط فيه الشيخ موسى كاشف الغطاء، فأخذ يقيم مجلس التعزية في داره، واقتدى بعض سراة النجف تدريجياً. أما في بغداد فقد بقي المنع سارياً حتى مجيء على رضا باشا الذي انتصر على داوود باشا.
وجرى الولاة بعد علي رضا باشا على سنته، فكانوا يتساهلون في أمر انتشار الطقوس الشيعية، ماعدا مدحت باشا الذي حاول منعها ولكنه لم يوفق، ويقال أنه سأل إسطنبول في أمرها فكان الجواب: "دعهم يفعلون ما يشاؤون ما داموا لا يؤذون سوى أنفسهم". (علي الوردي، لمحات اجتماعية،ج2، ص110، نقلاً عن علي الخاقاني (شعراء الغري) النجف 1954-ج12 ص324.)

أما موضوع زيارة الشيعة لقبر الحسين، والأئمة الآخرين، فقد بدأت في مرحلة مبكرة، أي منذ العهد الأموي، والزيارة هذه تحمل معها نوعاً من التبرك بأهل البيت، وقد حاول المتوكل منعها بتدمير قبر الحسين وغمره بالمياه، إلا إنه فشل في ذلك كما مر بنا في الفصل السابق.

وقد رافقت الزيارة مواكب العزاء التي تحمل في طياتها الثورة ضد الحكام. إذ كان الشيعة في حالة ثورة دائمة ضد ظالميهم من الحكام وعلى مختلف المراحل منذ العهد الأموي وحتى عهد صدام حسين. ويفسر الوردي هذه الظاهرة كما يلي: "يزور الشيعة قبر الحسين بمئات الألوف كل عام. ثم يرجعون من الزيارة كما ذهبوا- لم يفعلوا شيئاً غير النواح واللطم. إنهم اليوم ثوار خامدون. فقد خدَّرهم السلاطين، وحوّلوا السيوف التي كانوا يقاتلون بها الحكام قديماً إلى سلاسل يضربون بها ظهورهم وحراب يجرحون بها رؤوسهم. ومن يدري فقد يأتي عليهم يوم تتحول فيه هذه السلاسل والحراب إلى سيوف صارمة من جديد. إنهم لا يحتاجون في ذلك إلا إلى فرد مشاغب من طراز إبن سبأ".

ويضيف: "إن موسم الزيارة في كربلاء يمكن تشبيهه بموسم الحج لكثرة الوافدين إليه. هذا ولكن الزيارة الشيعية تختلف من بعض الوجوه عن الحج، إذ هي تحمل في باطنها بذرة من الثورة الخامدة، ومن يشهد هرج الزوار في كربلاء يدرك أن وراء ذلك خطراً دفيناً...". (علي الوردي، وعاظ السلاطين، ص 255).

أجل، أينما وجد الظلم فهناك احتمال الثورة عليه، والشيعة كانوا مظلومين في جميع العهود، لذلك فهم في حالة ثورة دائمة. ويشرح الوردي ذلك فيقول: "شبهنا التشيع في وضعه الراهن بالبركان الخامد. فهو قد كان في يوم من الأيام بركاناً ثائراً، ثم خمد على مرور الأيام وأصبح لا يختلف عن غيره من الجبال الراسية إلا بفوهته والدخان المتصاعد منها. والبركان الخامد لا يخلو من خطر رغم هدوئه الظاهري. إنه يمتاز على الجبل الأصم بكونه يحتوي في باطنه على نار متأججة ولا يدري أحد متى تنفجر هذه النار مرة أخرى". (علي الوردي، وعاظ السلاطين، ص 255).

هذا الوصف يكشف لنا عمق فهم الوردي لظاهرة التشيع وتنبؤه بالثورات القادمة، إذ كتب الكلام أعلاه قبل ما يقارب النصف قرن، وما انتفاضة آذار 1991 وما تلاها من أحداث، إلا تأكيداً لما قاله الوردي. فهل تعلَّم الحكام أي درس من هذا العالم الجليل؟ وهل يستخلص الآخرون دروساً وعبراً من هذه التحذيرات؟

وما تلك المواكب الحسينية والصدامات بينها وبين القوات الأمنية في عهد حكم البعث إلا شكل من أشكال التحضير للثورة وإنذار بانفجار البركان، وإحدى المصادمات التي نالت انتباه الإعلام العالمي هي عندما تحدت الجماهير أوامر السلطات البعثية في منطقة الفرات الأوسط، وراحت تحظر بمئات الألوف لصلاة الجمعة في جامع الكوفة بإمامة المجتهد السيد محمد محمد صادق الصدر الذي أعاد تقليد خطبة صلاة الجمعة في المذهب الشيعي. وقد تعرض في خطبته في جامع الكوفة في شباط 1999، قبيل إستشهاده، بنقد شديد لإجراءات السلطة البعثية لمنع مسيرات الجماهير الشيعية لزيارة ضريح الحسين في كربلاء، مما أدى إلى إغتياله وإثنين من أبنائه من قبل النظام البعثي عند عودته من جامع الكوفة إلى بيته في النجف الأشرف مساء 19 شباط 1999.
وقد أدت جريمة الإغتيال إلى ردود أفعال عنيفة، حيث خرجت الجماهير الغاضبة في مظاهرات ضد السلطة وحصلت مصادمات مسلحة في عدد من المدن الجنوبية مثل البصرة، والناصرية، وكذلك في مدينة الثورة في بغداد (مدينة الصدر بعد سقوط حكم البعث). وتناقلت وكالات الأنباء أخبار النشاطات الجماهيرية والتي واجهتها السلطة بمنتهى الوحشية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصول السابقة:
الطائفية السياسية في العراق (مقدمة: لماذا هذا الكتاب؟)أنقر هنــا
الفصل الأول: دور الطائفية في الأزمة العراقية* أنقر هنــا
الفصل الثاني: جذور الانقسام السني – الشيعي في الإسلام* أنقر هنــا

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع