منير بشاي
بقلم: منير بشاي
ارتبطت طفولتي وشبابي المبكر بثورة 23 يوليو 1952. ومثل ملايين المصريين الذين يمكن اعتبارهم أبناء الثورة تعرضنا لتأثير أبواق دعاية الثورة المكثفة والمسلطة على الشعب المصري على مدار الساعة. ومن ناحية أخرى تأثرنا أيضًا بالستار الحديدي الذي فرضته الثورة على المجتمع المصري والتي عزلته عن العالم الخارجي وسيطرت على أذهاننا نظرية المؤامرة من قبل ما اعتبروه قوات الشر في الغرب متمثلة في الرأسمالية العالمية المتعاونة مع الصهيونية بغرض فرض نفوذهم الإمبريالي الاستعماري لامتصاص دماء الشعوب النامية.
ولم يكن ضحية هذا التأثير الأطفال والشباب الناشئ فقط بل طال أيضًا بعض كبار الأدباء والمفكرين. ولا أنسى عندما توفى عبد الناصر فجأة عن عمر لم يتجاوز الخمسين كيف هبت الملايين من جماهير الشعب على اختلاف طبقاتها تبكى البطل الذي فارق الحياة قبل أن يتمم رسالته ويحقق حلمنا.
كانت أكبر جنازة عرفتها مصر بل ربما العالم كله، وكتب كبار الكتاب يرثون عبد الناصر. وأذكر أن كاتبًا كبيرًا وهو "توفيق الحكيم" دعا إلى عمل تمثال لعبد الناصر من أموال الشعب تخليدًا لذكراه. ولكن الغريب أن نفس هذا الكاتب بعد فترة قصيرة من الحدث عاد فكتب كتابًا عنوانه عودة الوعي (على غرار كتابه عودة الروح) ذكر فيه أن عبد الناصر كان مثل ساحر سحرنا بكلامه وجعلنا نصدقه. والآن وبعد موته بدأ الوعي يعود إلينا من جديد لنفيق من الأوهام التي جعلنا نعيش فيها.
والآن بعد أن مر على الثورة 58 عامًا يستطيع معظم -إن لم يكن كل- مَن عايشوا تلك الفترة أن يدركوا كيف نجحت ماكينة دعاية الثورة في أن تغسل أمخاخ الشعب وتقنعه أن العالم الغربي كله كان يتآمر ضدهم وأن هذا هو سبب كل المشاكل التي عانتها مصر. ولكن بعد عودة الوعي استطعنا أن نعرف الحقيقة وهى أننا كنا نعيش أكذوبة كبرى بل مجموعة من الأكاذيب، كل أكذوبة تتبعها أكذوبة أخرى تشرحها وتبررها.
أول أكذوبة صدقناها هي أن ما حدث كان ثورة مع أن الثورة هي عمل شعبي ينبع من وجدان الجماهير وليس انقلابًا عسكريًا يقوم به عناصر متمردة في الجيش. ولكننا عدنا وصدقنا عبد الناصر عندما فسّر لنا أن الجيش كان هو طليعة الثورة ولكن الشعب هو الذي قام فعلاً بالثورة.
ولا شك أنه كانت هناك عوامل ساعدت على نجاح حركة الضباط في الوصول للحكم، منها وجود قدر من الديمقراطية والحريات (في العهد السابق الذي سمى بالبائد) أستغله هؤلاء الضباط لينشروا تمردهم على الأوضاع القائمة.
ومن سخريات القدر أنه بعد قيام الثورة وتحت مسمى حماية الثورة ألغيت كل هذه الحريات وأنشأت أجهزة للتجسس والتنصت على الشعب وفُتحت المعتقلات وأصبح مَن يجرؤ على الكلام يصبح عُرضة أن يذهب إلى ما وراء الشمس. وأيضًا ربما كان السبب أن الملك فاروق – على عكس ما صوروه لنا- كان إنسانًا دمث الخلق ولم يرضى أن يدخل في مواجهة دموية معهم تؤدى إلى إزهاق أرواح بريئة.
كما أنه من المؤكد أن وجود رجل محترم مثل اللواء محمد نجيب على رأس هذه المجموعة كان عاملاً كبيرًا في نجاحها. ولا أظن أن قواد الجيش ذوى الرتب الرفيعة كان يمكن أن يستمعوا إلى مجموعة من الضباط يحمل معظمهم رتبة صاغ ويحمل كبيرهم رتبة بكباشى.
وأعتقد أن اللواء محمد نجيب لو كان قد أستمر في قيادة الثورة لكان الوضع قد تغير كثيرًا. فكان الرجل ذو عقلية متزنة ولا يميل إلى التطرف. وقد عرفنا برنامجه لإصلاح مصر على أنه يريد أن يبدأ ببناء شخصيتها وأخلاقها عندما رفع شعار: الإتحاد والنظام والعمل. وحدث أول صدام له مع مجلس الثورة من الشباب عندما أعترض على قانون تحديد الملكية وهى أخذ الأراضي الزراعية المملوكة للأثرياء وتوزيعها على فقراء الفلاحين بواقع خمسة أفدنة لكل أسرة. وقد ثبت أن هذا العمل كان خطأ كبير أساء إلى عملية الزراعة في مصر.
هذا لأن الملاك الجدد لم يكونوا من الكفاءة التي كانت لأصحاب الأرض الأصليين في حسن استعمال هذه الأراضي. بالإضافة إلى أن الزمن كان كفيلا بتفتيت تلك الأراضي بعد تداولها بالوراثة من جيل إلى جيل وانتقالها من أسرة واحدة إلى عشرات الأسر بحيث أن أحفاد هؤلاء الفلاحين أصبحوا الآن لا يمتلكون إلا على بضع قراريط للأسرة الواحدة من تلك الأفدنة الخمسة.
وهذا ينطبق أيضًا على عمليات التأميم التي قامت بها الثورة والتي نهبت ثروات ومنشآت وتجارة ومصانع أثرياء مصر وسلمتها إلى بيروقراطية حكومية فاسدة قضت عليها لتصبح في النهاية عبئًا على الدولة اضطرت أخيرًا إلى خصصتها ببيعها إلى ملاك جدد بأثمان بخسة.
وباستيلاء الجيش على سدة الحكم أصبح رجال الجيش هم الذين يديرون البلد. الوزارات المتخصصة والإدارات الحكومية التابعة لها أصبحت تحت إشراف ضباط لا يفهمون في أعمالها شيئًا!!
فماذا يفهم ضابط حديث السن في مسائل متخصصة مثل التعليم أو الهندسة أو الصحة أو الاقتصاد أو السياسة؟ هذا بالإضافة إلى تصرفاتهم الهوجاء غير المدروسة بالنسبة لقضايا مصيرية والتي كانت تتخذ من وحى الساعة. مثال هذا تحويل النظام الاقتصادي لمصر من رأسمالي إلى نظام اشتراكي لمجرد رفض أمريكا تمويل السد العالي. وبدلاً من القيام بالمزيد من التفاوض مع أمريكا ذهب عبد الناصر في الحال ليرمى بنفسه في أحضان الإتحاد السوفييتي وليصبح الجيش كله تحت إمرة الخبراء الروس وأصبح سلاح الجيش روسي متدني، ثم بعدها ألغى ناصر الالتزامات المصرية الدولية وقرر تأميم القناة من طرف واحد. وبذلك بدأ العد التنازلي لخراب مصر.
ولكن الخراب الداخلي الذي حدث لمصر على يد من تنقصهم الخبرة لا يقاس بالخسائر التي تكبدتها مصر نتيجة المغامرات العسكرية الفاشلة التي أدخلوا مصر فيها. وإذا جاز لنا أن نلتمس لهم العذر في عدم درايتهم بإدارة الحكومة في كل تخصصاتها فأي عذر يمكن أن يقدموه عن جهلهم بالأمور العسكرية التي هي صميم تخصصهم؟
كانت طموحات عبد الناصر أن يبنى إمبراطورية عربية إسلامية كبرى في الشرق الأوسط على غرار الولايات المتحدة الأمريكية. وأعتقد أنه في طريقه إلى تحقيق حلمه عندما تنازل له "شكري القوتلى" عن منصبه كرئيس لسوريا ليتمكن ناصر من إنشاء نواة الجمهورية العربية المتحدة بعلمها الجديد الذي بدأ بنجمتين تمثلان مصر وسوريا على أن تضاف له نجومًا أخرى في المستقبل بعد انضمام بقية الدول العربية. ولكن هذا الحلم تحوّل إلى كابوس عندما أجهض بواسطة انقلاب سوري. وأتضح أن القومية العربية كانت وهما لا وجود حقيقي له في وجدان الأمة العربية المفككة.
ثم أقتنع عبد الناصر أن العلاج هو في مساعدة الانقلابات العسكرية في الدول العربية. فأرسل جيوشه إلى اليمن لمساعدة الانقلاب ومن هناك حارب السعودية، وحاول أن يتدخل في انقلابات العراق وليبيا وغيرها ولكن هذا كان أكثر مما يستطيع.
أما حروبه مع إسرائيل فقد كانت فضيحة كبرى وكان جهازه الإعلامي يصور لنا أنه إذا أراد يستطيع أن يمشى إلى أن يدخل إسرائيل ويحرر فلسطين ويرمى دولة إسرائيل إلى البحر!!
وجاءت فرصته في سنة ۱٩٥٦ في الاعتداء الثلاثي على مصر ممثلاً في إسرائيل وفرنسا وإنجلترا، وكان هدفهم الاستيلاء على القناة بالقوة بعد أن كان عبد الناصر قد أعلن تأميمها. من الشرق استولت هذه الجيوش على سيناء ومن الشمال استولت على بورسعيد وكان في إمكانها أن تزحف لتستولي على القناة بل وإذا أرادت كانت تستطيع أن تستولي على مصر كلها وتقبض على عبد الناصر. ولكن الذي أنقذ عبد الناصر إنذار روسي وأمر من الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" للجيوش الثلاثة بالانسحاب من مصر.
وكانت حرب ۱٩٦٧ أخر فصول مسرحية الثورة وبعدها أسدل الستار على مغامرات الناصرية في مصر ولم يعيش عبد الناصر بعدها طويلاً. بل إن الهزيمة في هذه الحرب حطمت الروح المعنوية للكثيرين من الشعب المصري وقد قرأت أن الفنان الفكاهى "صلاح جاهين" الذي أضحك الملايين برسوماته وزجله وكان كاتب أغاني الثورة التي أنشدها عبد الحليم حافظ والتي طالب ناصر فيها بالعودة ووصفه بأنه أدها وأدود يا بطل موعود. ولكن بعد الهزيمة دخل في حالة اكتئاب خطيرة لم يكتب بعدها أغاني أو أناشيد وطنية إلى أن وافته المنية.
وقبل الحرب كنا كالعادة نعتقد أننا منتصرون بلا أدنى شك، ومع الساعات الأولى من المعركة كانت إذاعة صوت العرب بصوت أحمد سعيد تذيع لنا أخبار عشرات الطائرات التي أسقطناها للعدو. وربما كان الأصح هو عدد الطائرات التي ضربها العدو للطيران المصري وهى على الأرض. وبينما كانت بياناتنا في صوت العرب تعلن أن طائراتنا تدك قلب تل أبيب كانت إذاعة صوت أمريكا تعلن وصول العدو إلى مشارف القناة. ثم تكلم عبد الناصر وأخذ يقدم الأعذار عن الهزيمة (التي أسماها نكسة) مرة يتهم أمريكا بالحرب في صالح إسرائيل (طيب ما كان عارف وقال قبل الحرب متوعدًا أنه إذا دخلت أمريكا الحرب سيحاربها)، ومرة أخرى يتهم إسرائيل بالخداع لأننا كنّا نتوقع أن يأتونا من الشرق حيث كنا في انتظارهم ولكن (الوحشين دول) خدعونا وأتوا من الغرب، ومرة ثالثة يعزو الهزيمة إلى أسباب دينية وهى لأننا لم نتطهر (وكأن العدو قد انتصر لأنه كان أكثر طهرًا).
والنتيجة ضياع سيناء والجولان وغزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، واستطاعت مصر بعد حرب أخرى ومفاوضات شاقة استرجاع سيناء مع توقيع معاهدة سلام كامب دافيد وتقديم تنازلات.
والآن يحاول بقية الأطراف استرجاع ما خسروه في هذه الحرب والاحتمالات للوصول لهذا صعبة -إن لم تكن مستحيلة-، ناهيك عن ما كانوا يحاربون أصلاً من أجل تحقيقه ولم يعودوا يطالبون به.
ولكن الخسارة الكبرى في حسابات الثورة أدت بمصر أن ترهن حاضرها ومستقبلها لدفع فاتورة حساب الخسائر عن النكسة التي تكبدتها مصر ووضعتها ضمن قائمة الدول المتأخرة بسبب مغامرات ضابط حديث السن ومحدود الخبرة لم يحتمل صولجان السُلطة فركبه الغرور، وأخذ يشتم ملوكًا ورؤساء عظامًا ويهدد دولاً كبرى دون إدراك للعواقب، وهو البكباشى "جمال عبد الناصر" وزملائه الصاغات، وحركة الضباط الأحرار التي أطلقوا عليها اسم ثورة 23 يوليو سنة 1952.
Mounir.bishay@sbcglobal.net
http://www.copts-united.com/article.php?A=20571&I=510