أحمد الأسواني
بقلم: أحمد الأسواني
لم أكن أحب دروس التاريخ التي نتعلمها في المدارس؛ نتيجة ثقل دم المادة في الكتاب المدرسي الممل، وأيضـًا للمدرسين الذين يدرسونها وكانوا أكثر مللاً، واستمر ذلك حتى التحاقب بمدرسة "التوفيقية الثانوية" بشبرا في سنة 1974م، والتي قلبت حياتي رأسًاعلى عقب.
فقد تعرفت بمادة التاريخ الحقيقية على يد معلم حقيقي كان يشرح لنا التاريخ كأنه يمثل لنا فيلمًا سينمائيًا بوقائعه المشوقة؛ فتنغرس الأحداث التاريخية في أذهاننا بسلاسة ويسر، وكان يوجه مَن يريد أن يستزيد منا إلى كتب معينة نقرأها، وكنت أذهب أيامها إلى "مكتبة خلوصي" العامة لكي أظل بالساعات أقرأ لأستزيد من متعة التاريخ، وإذا لم أجد كتابًا معينـًا؛ كنت أذهب إلى دار الكتب في باب الخلق لأظل حتى موعد الغلق أنهل من ثروة الكتب العظيمة.
ولا أذكر من هذا المعلم العظيم إلا اسمه الأول "نجيب"، وأدعو الله أن يرحمه ويكرمه إن كان حيًا أو ميتـًا، وكان مسيحيًا كغالبية المدرسين المتميزين الذين تتلمذت على أيديهم في مراحل التعليم في شبرا، وخاصة في التوفيقية؛ والتي كانت في هذا الوقت من أكبر وأقدم المدارس المصرية.
وما زلت أذكر معامل الكيمياء والفيزياء وملاعب الكرة الواسعة، وعدد الطلبة المحدود في كل فصل، وتنافسنا للحصول على لقب الأول على الفصل، كل هذاوكانت مدرسة حكومية، وأيامها لم نكن نعرف الدروس الخصوصية، وكان مَن يلجأ لهذه الدروس يخجل من إعلان ذلك؛ لأنها عنوان الفشل في تحصيل العلم وسط عمالقة التدريس أيامها، والذين كانوا نادرًا ما يعطون دروسًا خصوصية.. إكتفاءًا بجهدهم الوافر في حصصهم العادية.
ما أريد أن أصل اليه من هذه المقدمة؛ هو أنني أصبحت من عشاق التاريخ ومن فئرانه التي تلتهم أي كتاب تاريخ تجده في طريقها، سواء تاريخ مصر أو العرب أو أوروبا أو أمريكا، وتعلمت أنك لكي تفهم ما يحدث في السياسة يجب عليك أولاً أن تقرأ في التاريخ؛ فهو المفتاح لفهم السياسة.
مناسبة هذا الكلام هو هذه الأيام التي يفيض فيها الكلام عن ثورة يوليو 1952، ونقرأ في الصحف الحكومية عن تجديد ثورة يوليو، وأفضالها ومثلها صحف "اليسار" و"الناصريين" و"القوميين"، بينما لا تجد هجومًا عليها إلا في بعض فصائل المعارضه القليلة؛ مثل "الوفد" و"الإخوان".
وقد أتاحت لي الظروف وعشقي للتاريخ أن اقرأ وأقتني غالبية ما صدر أو تُرجم بالعربيه عن هذه الثورة، سواء سرد وقائع شخصية أو سيرة حياتية أو دراسات تاريخية فيما يزيد عن مئات الكتب، وقد توصلت للقناعات التالية التي لا ألزم بها أحد غيري، والتي تؤكد أن بداية خراب مصر الذي نعيشه حاليًا بدأ مع هذه الحركة:
أولاً: لم تكن هناك ثورة، بل هي حركة إنقلابية قام بها بعض صغار ضباط الجيش، والتي نجحت بالصدفه نتيجة خطأ في التوقيت وقع فيه المرحوم "يوسف صديق"، عندما اقتحم مركز قيادة الجيش مبكرًا عن الموعد المقرر بساعة، في الوقت الذي كانت قيادة الجيش فيه تستعد لمواجهة الحركة التي وصلتها أخبارها.
ثانيـًا: لم يكن هؤلاء الضباط جادون في كلامهم عن الديمقراطية التي يريدونها، والدليل أنهم قربوا لهم منذ بداية الحركة بعض السياسيين من ألد أعداء الوفد، والذين زينوا لهم الإنقلاب على الديمقراطية وإلغاء الحياة النيابية؛ أمثال "على ماهر"، و"السنهوري"، و"سليمان حافظ"، وكان لهم "جزاء سنمار" فيما بعد عندما علموا مقدار الكارثة التي ساهموا في فعلها.
ثالثـًا: عملت الحركة على تشويه التاريخ المصري كله في التعليم والإعلام، فلم نعلم بأن "محمد نجيب" كان أول رئيس لمصر إلا في السبعينات بعد موت "عبد الناصر"، ولم نسمع عن "النحاس" و"سراج الدين" وسياسيين ما قبل الحركة إلا في السبعينات، حيث كانت كتب التاريخ في المدارس تتحدث باقتضاب عن العهد الملكي البائد، وفساد الساسة في هذا العهد.
رابعـًا: تم تزويرالتاريخ، وما زال التزوير فعالاً حتى لا تتم المقارنة الفعلية بين ما قبل الثورة وما بعدها، والتي قطعـًا وبكل المقاييس ليست في صالح حركة الضباط بأي حال من الأحوال، وبالمناسبة.. نحن ما زلنا محكومين بنفس نظام يوليو1952، وما زالت ملامحه الرئيسية هي المتسيدة مع محاولات التجميل هنا وهناك، ودعونا نقارن هذه المقارنة البسيطة ؛وسأطلق عليها لقب "ثورة" -الغير مقتنع به- لتسهل المقارنة:
قبل الثورة كان "الملك فاروق" ملك مصر والسودان وكردفان، ولم يكن هذا اللقب صوريًا.. بل كان السودان قطعة من مصر، وكان لـ "لنحاس باشا" تصريحـًا شهيرًا عن أنه يفضل أن تُقطع يده ولا ينفصل السودان، ولم يكن هناك بين السودانيين أنفسهم مَن ينادي بالإنفصال، بل كنا وكانوا أبناء وطن واحد، وكان مهندسو االري المصريين منتشرين على طول خط نهرالنيل حتى منابعه في استراحاتهم، يراقبون جريان النهر وروافده، ويرفعون علم مصر في مجاهل أفريقيا، وينشرون العلم والحضارة أينما حلّوا؛ لذلك كانت لمصر هذه السمعة والمكانة العالية في أفريقيا.
وكانت مصر قد خرجت من حرب 48 مع إسرائيل دون خسارة أي شبر من أراضيها، وبإتفاقيات هدنه جعلت لمصر الإدارة الكاملة لقطاع غزة الفلسطيني، حتى إقامة الدولة الفلسطينية مثلما جعلت للأردن الإدارة للضفة الغربية، بما فيها "القدس الشريف" لنفس السبب، وكانت مصر مُهابة وقوية بين العرب، يتطلع لها الجميع كصانعة حضارة ومتقدمة عن باقي العرب.
وعندما تقرر إنشاء جامعة الدول العربية، أتى القادة العرب إلى القاهرة وإلى "الملك فاروق" لكي تنشىء مصر هذه الجامعة، ويكون مقرها القاهرة، وأمينها العام مصريًا، وجميع القادة
العرب والزعماء الثوار منهم والمعتدلون جميعهم اتوا إلى القاهرة واحتضنتهم مصر، وكان المدرسون المصريون يخرجون من مصر للسعوديه وإمارات الخليج لنشر التعليم والمعرفة، وتُحوّل مرتباتهم إلى القاهرة، وكانت كسوة الكعبة الشريفة تخرج من القاهرة في موكب سنوي مهيب يتقدمه قادة الجيش المصري، ويحملون الخيرات إلى أهل الجزيرة العربية.
أما بريطانيا العظمى فبعد معاهدة 1936م، انحصرت قواتها في قاعدتهم بالإسماعيلية، وبعد أن ألغى "النحاس باشا" المعاهدة عام 1951، حاصر الفدائيون هذه المعسكرات بالمقاومة الوطنية الشريفة، والتي شاركت فيها كل القوى الوطنية المختلفة، ومن ورائهم حكومة الوفد تمدهم بما يحتاجون وتعوضهم عما يخسرونه.
كانت هذه هي صورة سياسة مصر الخارجية قبل قيام الثورة، فتعالوا نرى ما الذي تغير بعدالثورة؟
وقّع الثوار على معاهدة الجلاء مع بريطانيا العظمى على أن يتم الجلاء في 1956، وبالطبع وافقوا على ما سبق ورفضه الوفد وأحزاب الأقليات؛ وهو التخلي عن السودان وكردفان؛ لذلك..
وبعد ما رآه السودانيون من حكم العسكر في القاهرة من إلغاء للديمقراطية وسيادة الحكم البوليسي، وحتى اللواء "محمد نجيب" -الوجه المقبول للسودانيين- والذي كان نصف سوداني ونصف مصري، تم عزله والتنكيل به شر تنكيل، لذلك كله..
فعندما أُعطيت لهم حرية تقرير المصير اختار الجميع الابتعاد عن عسكر مصر، وحتى الأحزاب الوحدويه هناك لم تتمسك بالوحدة في ظل هذه الظروف، واستمر السودان وتدهور به الحال بعد أن عرف هو أيضًا حكم العسكر؛ حتى وصلنا إلى المجرم المُدان الذي يحكمه حاليـًا وهو "البشير"، والذي تسبب في قتل مئات الآلاف من شعبه، وسينقسم بلده إلى قسمين بعد فصل الجنوب؛ الذي دخل في حرب معه عشرات السنين، وليظل مشكلة مؤرقة للمصريين جميعـًا.
وبعد أن كانت حدود مصر من البحر المتوسط شمالاً حتى كردفان جنوبًا، ومن غزة شرقـًا حتى حدود ليبيا؛ ضاعت السودان وكردفان كما أوضحنا، ثم في كارثة 1967 ضاعت سيناء وضاعت غزة والضفة الغربية والقدس، ولولا ستر الله لعبرت إسرائيل القناة، ولاحتلت دلتا النيل في ظل ما حدث من جهل وغرور تسبب في تدمير سلاح الطيران المصري بأكمله في بضع ساعات.
وهي الكارثة التي لم يحدث تحقيق حقيقى حولها حتى هذه اللحظة؛ لنعرف مَن الذي تسبب فيها.. هل هو "ناصر" الذي كان يتفاخر بغرور أنه سيهزم إسرائيل وأمريكا وسيلقنهم درسًا قاسيًا، ولذلك سعى لهذه الحرب التي أذلت المصريين جميعـًا.. أم هو "عامر" الذي تمت ترقيته خمس درجات عسكرية في دقيقة واحدة، فقد تحول من رائد إلى مشير في سابقة لم ولن تحدث في العالم، وتحول إلى القائد العام للقوات المسلحة، وفي نفس الوقت نائبـًا لرئيس الجمهورية، ورئيسًا لاتحاد كرة القدم، ومشرفـًا على هيئة النقل العام وعلى اتحاد الصناعات، وعشرات المناصب الأخرى التص ليست لها أي صلة.
وقام "السادات" بعد توليه الرئاسة بحرب أكتوبر وبمبادرة السلام؛ ليسترد ما خسره رفاقه من قبل، ولكن هيهات.. فقد عادت سيناء باتفاقيات سلام ومعاهدات تعاون وتطبيع مع إسرائيل، وهو ما لم يقم به العهد الملكي البائد الذي لم يفرط في ذرة رمل من تراب مصر الحبيبة.
وإلى تكملة قريبة لآثار الثورة الملعونة على بلدنا الحبيب مصر.
http://www.copts-united.com/article.php?A=20719&I=514