ليالي فيروز الحزينة

بقلم: مجدي الدقاق

وكأن البعض يستكثر علينا الفرح‏,‏ ويريد أن يضيف علي أحزاننا العربية الكثيرة‏,‏ حزنا وجرحا جديدا‏,‏ ويطفيء ما تبقي من شموع الأمل في حياتنا‏.في أواسط السبعينيات من القرن الماضي وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية‏.
,‏ ظهرت عشرات المحطات الإذاعية الناطقة باسم الاحزاب والطوائف والميليشيات‏,‏ فكانت هناك إذاعة صوت لبنان‏,‏ صوت الجبل‏,‏ صوت الشعب‏,‏ صوت الجنوب‏,‏ لبنان الحر‏,‏ لبنان العربي‏,‏ بيروت‏.‏
وكانت لكل إذاعة من هذه الإذاعات حزبها وطائفتها‏,‏ وتشن الحملات اليومية علي الحزب المعادي لها وتنتهي نشرة الاخبار أو التعليق السياسي أو البيان العسكري لهذه الإذاعة أو تلك‏,‏ بصوت فيروز الذي يغني‏,‏ بحبك يا لبنان‏,‏ أو أغنية وطني‏,‏ ووسط نيران الحرب والاشتباكات المسلحة والانقسام السياسي‏,‏ كان اللبنانيون يبدأون يومهم بصوت فيروز‏,‏ وينامون علي ترانيمه‏,‏ اختلف اللبنانيون حول كل شيء‏,‏ في السياسة والاقتصاد‏,‏ والطائفة‏,‏ وفي الحرب‏,‏ وفي السلام‏,‏ ولكنهم اتفقوا علي شيء واحد ورمز واحد وقيمة غالية‏,‏ هي فيروز‏,‏ فصارت فيروز هي لبنان‏,‏ وصار لبنان هو فيروز‏,‏ توحد اللبنانيون حول فيروز‏,‏ أو بالأصح وحدت فيروز لبنان‏,‏ وجمع صوتها كل اللبنانيين من صور حتي صيدا‏,‏ وحفظ ملايين اللبنانيين أغانيها في الداخل‏,‏ وفي بلدان المهجر‏.‏

كانت فيروز عنوانا للأمل لوطن صغير في مساحته‏,‏ كبير في حجم عطائه ورسالته الثقافية والحضارية‏,‏ وغنت نحو ألف أغنية‏,‏ وقدمت نحو‏20‏ عملا مسرحيا غنائيا‏,‏ وعددا من الأفلام السينمائية‏,‏ وفيها كانت فيروز هي عطر الليل في أيام فخر الدين‏,‏ ولولو الفتاة المظلومة‏,‏ وهيفا في يعيش‏,‏ ووردة في سهرة حب‏,‏ والملكة في بترا‏,‏ ونجلا في عودة العسكر‏,‏ والقروية البسيطة منتورة في الليل والقنديل‏,‏ وهي زاد الخير في ناطورة المفاتيح‏,‏ وغربة في جبل الصوان‏,‏ وماريا في ناس من ورق‏,‏ وبائعة البندورة في الشخص‏,‏ وبائعة الأقنعة في هالة والملك‏,‏ وقرنفل في صح النوم‏,‏ وريما في بياع الخواتم‏,‏ وبين الفتاة الفقيرة التي تخبيء أسرار الاسوارة أو البائعة التي ترفض ظلم حاشية الملك أو التي تبحث عن العدل والحب وتنتظر بائع الخواتم‏,‏ عبرت فيروز عن أحلام أجيال كاملة بمفردات غنائية وألحان جديدة ومتطورة‏,‏ وصوت ملائكي دخل قلوب وعقول كل المستمعين العرب‏,‏ واستطاعت أن تحتل مكانة رفيعة بجوار عمالقة الغناء العربي غنت فيروز للحب وللقمر وللبحر وللسماء ولأرصفة الشوارع وحدائق العشاق‏,‏ وغنت للمدن‏,‏ لبيروت والقاهرة والقدس ومكة ودمشق وبغداد‏,‏ ولم تغن يوما لرئيس أو ملك أو سلطان‏.‏

ارتبط صوتها بفلسطين ومساجدها وكنائسها‏,‏ وتركت القدس وديعة في قلوبنا وأقطارنا‏,‏ وغيرت بصوتها إسم جسر اللاجئين أو الأحزان واسمته جسر العودة‏.‏
فاختلط الأمر علي البعض‏,‏ أهي أردنية أم سورية أم فلسطينية‏...‏؟‏!‏ فجاءت مواقفها وأغانيها لنؤكد أنها كل ذلك مع لبنانيتها وصوتها العربي الذي يمتد من جبال اليمن حتي سماء المغرب العربي الكبير‏.‏ أثناء الحرب اضطر آلاف اللبنانيين للهروب من لبنان والعيش في باريس أو دمشق أو القاهرة‏,‏ ولكن فضلت فيروز البقاء في بيروت ورفضت مغادرة لبنان التي تغنت به وله‏.‏
شكلت فيروز وزوجها عاصي وشقيقة منصور‏,‏ ظاهرة فنية قلما تجتمع أو تتكرر‏,‏ وذاب الرحبانية في صوت فيروز‏,‏ وأصبحت هي بدورها جزءا لا يتجزأ من إبداع الرحبانية‏.‏ الغنائي والموسيقي‏,‏ وأصبح لهذا المثلث قاعدة وأضلاع لا يمكن الفصل بين أركانه الثلاثة‏,‏ وبرغم غناء فيروز لأعمال غنائية أخري قدمها لها الموسيقار محمد عبد الوهاب‏,‏ وفيلمون وهبي‏,‏ وحليم الرومي وغيرهم‏,‏ إلا أن هذا المثلث فيروز ـ عاصي ـ منصور‏,‏ يظل هو الأهم والأبرز في كل المراحل الفيروزية التي تخللتها أعمال بارزة للعبقري زياد‏,‏ الابن النجيب لفيروز وعاصي وتلميذ عمه الرائد منصور‏.‏

وقد يكون ما حدث من أبناء منصور الرحباني مؤخرا ومطالبتهم بحقوقهم المادية من جراء عرض فيروز لمسرحية يعيش يعيش مرة أخري‏,‏ سليما وقانونيا وبه قدر من حفظ الحقوق لأبناء الراحل منصور أحد أضلاع مثلث الرحبانية‏,‏ وهو حق وأمر لا يمكن منعه أو رفضه سواء منا أو من أبناء فيروز وعاصي‏,‏ فالحقوق القانونية لا يمكن مناقشتها أو الجدل حولها‏,‏ ولكن كنا نتمني ألا يصل الأمر بين أبناء الرحبانية للتراشق القضائي والاعلامي‏,‏ واستصدار حكم قضائي بمنع فيروز من عرض المسرحية‏,‏ فقد كان يمكن في إطار الأسرة الواحدة‏,‏ حل جميع القضايا العالقة بين أبناء العمومة مع حفظ جميع الحقوق للجميع‏,‏ فلا أحد يستطيع منع فيروز من الغناء‏,‏ فهي ليست ملكا لأحد‏,‏ بل هي ملك لكل اللبنانيين والعرب‏,‏ وإبداع الرحبانية‏,‏ ليس حكرا علي أبناء عاصي أو منصور‏,‏ بل هو ملك للحركة الثقافية والموسيقية العربية والعالمية‏,‏ ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن منع مسرحية‏,‏ أو أغنية أو فيلم أو قصيدة شعر بحجة النصيب من الميراث‏,‏ فالحديث عن الميراث والورثة ونوع العملة وتقسيم أراضي الضيعة شيء‏,‏ والحديث‏,‏ عن الكلمة والابداع والموسيقي والغناء شيء آخر‏.‏ الأول يمكن تسويته وهذا حق‏,‏ بالحوار والقانون‏,‏ أما الثاني فهو معني ورمز وتراث لا يستطيع ولا يملك أحد إدعاء ملكيته أو منعه وحجبه‏,‏ وعلينا أن نتخيل لو أن أحد أقارب سيدة الغناء العربي أم كلثوم‏,‏ اختلف مع أسرته علي نصيبه في الميراث‏,‏ فطالب بمنع أغانيها‏,‏ حتي يحصل علي حقه من المصاري‏!!‏ وفعل شخص آخر نفس الموقف مع أعمال السيدة العظيمة فاتن حمامة السينمائية‏.‏

أم كلثوم وفيروز وحليم وفريد وعبد الوهاب ونجاة ومحرم ورشدي ووديع الصافي ونصري شمس الدين وصباح فخري‏,‏ وشادية وفايزة أحمد‏,‏ وصباح وسعاد محمد وعشرات المطربين والمبدعين العرب‏,‏ ليسوا مجرد مصاري أو نقود‏,‏ ولا يمكن اختصارهم في ميراث أو تركة ولهذا فإن ما يحدث مع فيروز هو جرح أدمي قلوبنا‏,‏ وما يحدث الآن لا يرضي بالتأكيد لا عاصي ولا منصور‏,‏ فهما شركاء في مثلث الابداع الفيروزي الرحباني‏,‏ وبعيدا عن الوقفات والتصريحات التي أساءت إلينا جميعا‏,‏ علينا العودة لصفوت العقل والحكمة والتفريق بين الميراث والتراث‏,‏ لذلك يجب حل القضية في إطارها الصحيح‏,‏ فقضية الميراث والحقوق يجب أن تأخذ شكلها القانوني العادل‏,‏ أما التراث فيجب التعامل معه وفقا للأصول الفنية‏.‏ ففيروز هي عصفورة الشمس وزهرة الحرية ويكفينا حزننا عندما تغني أغنيتها ليالي الشمال الحزينة‏,‏ ولا نريد أن نضيف إلي أحزاننا حزنا جديدا وخصوصا عندما يكون حزنا مقدسا يأتينا عبر صوت فيروز‏.‏

نقلا عن الاهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع