كمال غبريال
بقلم: كمال غبريال
خلصنا من رحلتنا عبر تاريخ الأقباط في عالم متغير، إلى أن تيار الحضارة الإنسانية يسير قدماً، نحو تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، على الأقل منذ بداية القرن السابع عشر، وإن تباطأ في هذه الفترة أو تلك، وفي هذا الموقع الجغرافي أو ذاك، وفق ما يعترضه من عقبات، لكنه لا يتوقف تماماً، وأيضاً لا يتراجع إلا لكي يعاود التقدم. . رأينا كيف جرف تيار الحضارة الأيديولوجيات النازية والفاشية، ثم النظم الاشتراكية الشمولية، لينفتح طريق الشعوب التي وقعت أسيرة له لعقود، إلى الحرية وقيم حقوق الإنسان، بالإضافة إلى إلتحاق تلك الشعوب بالنظام الاقتصادي العالمي.
لذا لن يكون من قبيل التمنيات أو الأحلام، أن نرى أمام عيوننا في المستقبل المرئي، اندحار عقبات وإرهاب التأسلم السياسي، لتجتاح الحضارة كل أوكاره. . فنحن نشهد بالفعل الآن، نهاية العمر القصير لتلك التوجهات المغرقة في التخلف. . فالمسافة التي قطعها موكب الحضارة، لم تعد تتيح إمكانية الارتداد عنها، بحيث لا يعدو ما نشهده من صيحات ونشاط للجماعات والتيارات المتعصبة والمتخلفة، أن تكون صحوة الموت، أكثر من أن تكون غفوة الحياة، كما قال الشاعر. . العصر إذن في مصر، وفي كل المنطقة، كما هو في العالم أجمع، هو عصر حقوق الإنسان، وعصر قيام المهمشين والمظلومين من كل الفئات والجماعات، سواء العرقية أو الدينية أو الجنسية (المرأة)، لا ليطالبوا بحقوقهم، وإنما ليساهموا بجهودهم وتكاتفهم مع قوى الاستنارة، لتأسيس وتشييد واقع جديد، وحياة جديدة تماماً، تقوم على أسس الحداثة.
تشهد مصر الآن حراكاً غير مسبوق من جميع الفئات، ولم يعد هناك مجال للصوت الواحد والفكر الواحد المهيمن، ولكن بالساحة الآن مجال لحوار -ولن نقول صراع- الأفكار، من أجل تشكيل هذا الواقع الجديد. . يعني هذا أن الفئة التي تجبن عن الخروج للساحة الوطنية، لأنها مازالت أسيرة مخاوف الماضي، أو أسيرة كهوفها، التي سبق أن شكلت لها الملجأ الذي أمَّن لها البقاء في عصور القهر والاستبداد. . مثل هذه الفئات الكسولة أو الجبانة، والتي تقبع في قواقعها منتظرة أن يأتيها المن والسلوى من السماء، تحكم هذه الفئات على نفسها بالانقراض، وعلى ما تعتبره حقها بالتجاهل، لأنها لم تبادر بتقديم نفسها، وليس فقط مطالبها على الساحة المقبلة على تغيرات جوهرية.
إذا كان لابد من وضع النقط على الحروف، فإننا نقول أن الأقباط إذا كانوا قد أحسنوا صنعاً في الفترات الماضية، بالهروب من الساحة الوطنية التي تضيق بهم، إلى داخل الكنيسة، ليحولونها من دار عبادة، إلى مركز لكل أنشطتهم الحياتية المجتمعية وحتى الاقتصادية، فإنهم يخطئون أو يجرمون الآن في حق أنفسهم، إن هم لم ينتبهوا إلى تغير العالم، وإلى الواقع الذي يصرخ ويطالبهم بالخروج إلى ساحة العمل العام بالمجتمع.
ليس هناك عذر للتقاعس عن التواجد في جميع مؤسسات البلاد الأهلية، بدءاً من الأندية الرياضية، مروراً بالنقابات المهنية والجمعيات الأهلية الخيرية والثقافية، وانتهاء بالأحزاب السياسية. . عوامل الطرد والتهميش التي لابد وأن تواجههم ليست عذراً مقبولاً بأي حال. . فليس من المفترض أن تكون الأرض سهلة مفروشة بالورود، لكي يتكرم الأقباط ويتهادون عليها. . الشرط الوحيد للنجاح فيما ندعو إليه هو توفر الإرادة القوية للفاعلية والتواجد في كل تلك المجالات. . فالعقبات في أي مجال لم تكن يوماً عذراً كافياً للقعود، بل فتور الهمة، والأفكار الانسحابية والسلبية التي تم شحن الأقباط بها، هي العامل الأساسي الذي جعل قيمة الأقباط داخل الوطن والعمل العام مساوية للصفر. . دليلنا هنا أنه رغم التعصب وكل عوامل الطرد الموجودة أبداً، فإن الأقباط متواجدون وبارعون في المجال الاقتصادي، وأعمالهم وتجارتهم ناجحة بأروع ما يكون النجاح، ويرجع هذا إلى عاملين بالتحديد، الأول هو تصميمهم الأكيد على كسب لقمة عيشهم، وإصرارهم على الصمود في وجه كل العقبات، والثاني هو إخلاصهم في عملهم، وتقديمهم لأفضل خدمة وأجود سلعة وأخلص أداء، بما يجبر حتى المتعصبين على الثقة بهم، وتفضيل التعامل معهم. . يعني هذا أن ذات العاملين لو توفرا في نشاط الأقباط الذي ندعو إليه في المجال العام، فلابد أيضاً أن يكون نجاحهم باهراً، بذات قدر نجاحاتهم الاقتصادية، وعندها سيكون مكسبهم بالوطن، ومكسب الوطن بهم رائعاً بما لم يتصوروا!!
علينا أن نطرح خلفاً كل الأفكار والتكتيكات القديمة، التي صورت لنا أننا "لسنا من العالم"، نعم نحن "لسنا مع الشر في العالم"، لكننا بالتأكيد مع "الخير في عالمنا"، مع القوى الساعية للخير والرخاء والحداثة لمجتمعنا ووطننا، بل نحن نسعى لأن نكون "ملح الأرض ونور العالم".
علينا أن نتخلى نهائياً عن تلك السياسة التي اتبعها الأقباط على مدى أربعة عشر قرناً، هي تاريخ سيطرة العرب والمسلمين المنفردة على البلاد. . تلك السياسة التي جعلت منا أهل ذمة، والتي بمؤداها صار الأقباط على ذمة بطريرك الكنيسة، وبطريرك الكنيسة على ذمة الحاكم المستبد، كما يتضح من أدائنا وتوجهاتنا طوال تلك القرون الطويلة. . علينا أن نسعى للتحول من أهل ذمة، أو رعايا مضطهدين ومهمشين ومستضعفين، إلى مواطنين صالحين وفاعلين.
الساحة الوطنية عامرة بالمستنيرين من أبناء هذا الوطن، بمختلف أديانهم وتوجهاتهم السياسية، وهم ينتظروننا ويمدون أياديهم لنا، لنبني معاً مصر المستقبل. . مصرالتي سيبنيها الرجال، وليس الأطفال المرتعبين والمختبئين في حضن آباءهم، أو في فرجيات الكهنة، خوفاً من مواجهة الناس والحياة، أو جبناً من تحمل المسئولية عن الذات، والبقاء أسرى أوهام أن بالساحة غيلان سوف تفترسنا، إذا ما خرجنا بأقدامنا إلى خارج أسوار الكنيسة. . أو أن الكنيسة كما يقولون لنا "سماء أرضية" أو "أرض سماوية"، وأننا إذا ما هربنا من العالم إليها، سوف تتولى الملائكة حراستنا، وربما نتحول نحن أيضاً إلى ملائكة، ولا داعي عندها لأن ننشغل بأمور العالم. . ذلك العالم الذي نعيش فيه نحن وأولادنا، وسيأتي إليه أيضاً أحفادنا. . لقد تم على مدى عقود وقرون، حقن الأقباط بخطاب تخديري، مدمر لهمتهم ولرجولتهم ونخوتهم، ليصيروا كما لو جثثاً هامدة، لا حول ولا قوة لها. . صرنا محل دهشة واستجان إخواننا في الوطن من المستنيرين المسلمين، وهم يتوسلون إلينا أن نضع أيدينا في أيديهم، لننقذ مصر مما يحاك لها علانية، وليس في الخفاء، فلا يجدون منا غير الخنوع والجبن والسلبية. . فهل ثمة أمل أن يستفيق الأقباط من غيبوبتهم؟
أتخيل وقد وصلت إلى هذه الكلمات أن الكثيرين يعدون الأحجار التي سوف يرجمونني بها، ورغم أنني مستعد بكل رحابة صدر لتلقي "طعنات أحبائي"، إلا أنهم ربما تخلوا عن بعض تلك الأحجار، إذا أوضحت لهم أنني بالقطع لا أدعوهم إلى مفارقة الكنيسة التي هي أمنا. . فكل ما أدعو إليه هو وصول الأقباط إلى مرحلة الفطام، والتوقف عن الرضاعة من ثدي الأم، والاختباء في أحضانها الدافئة. . وكما لا يمكن أن يعني فطام الطفل مغادرة أهله والتنكر لهم، فإن ما أدعو إليه لا يمكن أن يعني مطالبة الأقباط بهجرة الكنيسة، فالكنيسة هي الأم التي تستقبل أبناءها -الذين بلغوا سن الرشد- بالأحضان في كل وقت، وتسعد برجولتهم ونجاحهم.
الآن ما هي الخطوات العملية التي علينا المبادرة بها، ليتحقق ما نصبو إليه؟
هذا هو ما علينا جميعاً بحثه معاً، ومع سائر إخوتنا في الوطن، وما سوف نحاول تلمس بعض ملامحه في مقاربات قادمة.
kghobrial@yahoo.com
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=2142&I=59