بين وحشة القديم..وفرحة الجديد

أرنست أرجانوس جبران

بقلم: أرنست أرجانوس جبران 
ما أعجب بنى آدم..!! كتلة متحركة من المشاعر والأحاسيس..يحب الجديد ولكن هيهات أن ينسى القديم..فقد نبكى القديمَ لأن القديمَ له طابع خاص، يمتاز بتراثِ الأجداد الذين عاشوا فيه، والذى نشتم فيه أريج تعاليمهم، وطيب مقامهم، والذى يصعب نسيانه..
وهناك الجديد الذى ينبنى على أساس القديم..ولا يمكن فصل مشاعر القديم أو الاستغناء عنه؛ حتى فى حالة وجود البديل الجديد، والذى قد يفوق القديم جمالاً ومتعة..

 
وها هى..كنيسة قديمة بما فيها من مشاعر عميقة، عشنا بين جوانبها أفراحنا، ثم بكينا فيها أتراحنا..وكنيسة جديدة بما فيها من رائحة كل جديد..لها نشوة عطرة، بأحاسيس متميزة، تختلف عن القديم..ولكن فى النهاية، القديم له طعم خاص، والجديد له نكهته الخاصة..  
 
نعم، هكذا كانت مشاعر أحد المصلين، الذين اعتادوا أن يجلسوا فى مكان معين فى تلك الكنيسة العتيقة، أثناء فترة إقامته، والتى جاوزت العشرين عامًا، فى مدينة "هيوستن" بولاية "تكساس" الأمريكية..هو الذى اعتاد أن يجلس فى زاوية خاصة، وكأنما كان ذلك المكان محجوزًا لشخصه الضئيل، واقفًا أم جالسًا أم ساجدًا بين شخصيات لها نفس أمكنتها التى اعتادت عليها – وعندما نجد مكان أحدهم شاغرًا، نعرف أن صاحبه لم يحضر فى ذلك اليوم..وكم من أناس أصبحت أماكنهم شاغرة إلى اليوم وإلى الغد؛ لأنهم قد غادروا عالمنا الفانى هذا..فمازلتُ أذكر الشماس "أنيس جندى"، والمهندس "رمسيس غبريانوس"، والعم "راشد"، والأخ "نابغ رزق الله" وخلافهم.. 
 
ومازلتُ أذكرهم كل يوم أحد عندما أكون بالكنيسة..
وكم وكم.. من شيوخ أتموا رحلتهم..وكم وكم من براعم ولدوا ثم تعمدوا..وكم من قداسات أُقيمت..وأفراح أعياد..وأفراح أكاليل..كلها مناسبات يحملها القديم.. ولا يمكن أن تُنسى حتى بحلول الجديد.. 
 
وها هى السنون قد مضت..وشاءت العناية الإلهية أن يمد الله فى أيامنا، حتى نرى يوم التحول من القديم إلى الجديد..وعندما أقول كنيسة عتيقة؛  لأنها كانت من أقدم الكنائس التى أقيمت فى "أمريكا".. وها هى السنون قد مرت مرور البرق ..ولكن قبل الخوض فى وصف مشاعر القديم الذى له وحشة، ثم التحول إلى الجديد الذى له فرحة..بالفعل هناك مشاعر تتداخل مع بعضها البعض، لا يمكن التغاضى عنها فى مرحلة الإنتقال هذه.. ومصداقًا لما أقول، وفى العهد القديم، كانت هناك مشاعرٌ مشابهة. 
 
 وفى سفر "عزرا"، والأصحاح الثالث عند إعادة بناء هيكل "سليمان"، بكى الشيوخ على الهيكل القديم مقارنين أياه بالجديد..يقول الكتاب: "وكل الشعب هتفوا هتافًا عظيمًا بالتسبيح للرب لأجل تأسيس بيت الرب. وكثيرون من الكهنة، واللاويين، ورؤوس الآباء الشيوخ الذين رأوا البيت الأول، بكوا بصوت عظيم عند تأسيس هذا البيت أمام أعينهم. وكثيرون كانوا يرفعون أصواتهم بالهتاف بفرح. ولم يكن الشعب يميز هتاف الفرح من صوت بكاء الشعب؛ لأن الشعب كان يهتف هتافًا عظيمًا حتى أن الصوت سُمِعَ من بُعدٍ " والمجد لله دائمًا.. كان هذا شعور بنى إسرائيل فى العهد القديم..
 
والآن، ونحن نعيش نفس الأحاسيس..تمامًا عندما كانت أهازيج الألحان القبطية تدوى بين أركان المبنى الجديد، والذى قام نيافة الحبر الجليل أسقفنا المحبوب الأنبا "يوسف"، وفى تمام الساعة السابعة مساءً من يوم السبت الموافق الثامن والعشرين من شهر نوفمبر من عام 2009؛  حيث قام نيافته بقص شريط إفتتاح كنيسة مار مرقس الجديدة..ثم قام بتدشين الثلاثة مذابح بأسماء القديسين، مار مرقس الرسول، والعذراء مريم، والأنبا بيشوى.. وأيضًا أيقونات وصور القديسين..
 
 فمنذ دخول الأنبا "يوسف"، وطوال الليل، وإلى صباح يوم الأحد، لم تتوقف التسابيح والصلوات بواسطة نيافته ومع قدس أبينا الورع "بيشوى جورج"..والشئ الآخر الذى أضاف البركة بركات أخرى حضور أبوين مباركين كانا فى زيارة إلى مدينة "هيوستن".. للأسف لم أحصل على إسميهما..والشئ الجميل جدًا، كان الشمامسة والشعب يرتلون بتجانس الروح القدس بالفرح والتهليل..إلى الدرجة التى كان صاحبنا كاتب المقال، يربت بيده على الأريكة التى أمامه، بعفوية تامة،  واندماج شديد؛ تماشيًا مع الألحان الشجية.. 
وبينما وهو على هذا الحال، جاءه أحد الإخوة الأحباء لاكِزًا كتفه من الخلف، وهو يقول له بصيغة الأمر "ما تطبلش على الكنبة..!!..ما تطبلش على الكنبة!!.." .. 
 
 حقيقة تألم صاحبنا جدًا؛ لأنه كان فى ساعة اندماج روحى جميل..ومرة أخرى كان يكرر الأمر .. "ما تطبلش..!!".  وأعتقدُ، أنه مُعين من قِبل الكنيسة، كحافظ للنظام..لا أدرى.. حقيقة، عندها، شعرت وكأننى طفل ينتهره أبوه أمام الجميع؛ لأنه فعَل فِعلة شنعاء..سامحك الله يا أخى..قد قطعتَ علىّ نشوتى..يا أخى، أى تطبيل الذى تقول عنه..!! .. يا أخى .. ربنا بسيط..ربنا "حَبوب"..اتركوا الذى يطبل يطبل..والذى يُصفق يُصفّق..والتى تزغرد تزعرد..الليلة ليلة فرح..لا أدرى لماذا لا يتركوا الأمور على سجيتها!!.. ألا تعلم أخى، أن الله يحب الهتاف والفرح..ألا تذكر داود الملك عندما رقص أمام تابوت العهد فرحًا على أنغام كل أنواع آلات الطرب..يقول الكتاب (2صم6): "كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب.. ورأته زوجته ميكال يطفر ويرقص أمام الرب فاحتقرته فى قلبها..!! وهو نفسه داود الذى قال عنه الكتاب "وجدتُ داود بن يسى رجلاً حسب قلبى الذى سيصنع كل مشيئتى" (أع:13)..
 
ولماذا نذهب بعيدًا؟ ألا تعلم أخى قصة المتنيح البابا "كيرلس الرابع" (أبو الاصلاح) عندما كلف صديقًا له ويدعى "رفلة عبيد الرومى"، بشراء مطبعة تتولى طبع الكتب المدرسية، والكتب الدينية المخطوطة..ثم وصلت المطبعة إلى ميناء "بولاق" مُستوردة من "إيطاليا"، وكان يومها البابا فى دير الأنبا "أنطونيوس" بالصحراء الشرقية، فكتبَ إلى وكيل البطريركية بـ"القاهرة" بأن يستقبلها فى زيه الكهنوتى، ويكون الشمامسة بملابسهم الكهنوتية، وهم يرددون ألحان الفرح والسرور..ولما عابه البعض على ذلك بعد مجيئه من  البرية، أجابهم قائلاً: " لو كنتُ حاضرًا فور وصولها لرقصتُ أمامها كما رقص داود النبى أمام تابوت العهد" (المرجع موقع كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت).. 
 
وهذا مثل آخر قدّمه السيد المسيح بذاته (لوقا 15) فى مثل الابن الضال..هل تذكر أخى عندما جاء الابن الأكبر من الحقل؟ – فلما جاء وقرب من البيت، سمع آلات طرب ورقص..أكرر كان هناك صوت آلات طرب ورقص..والأب موجود بالمنزل..غضب الابن الأكبر ولم يرد أن يدخل..فخرج أبوه يطلب إليه.. وجميعنا يعرف بقية القصة.. 
 
إلا أننا فى بعض الأحايين لا نتمعن فى كلمات الكتاب المقدس، ونمر عليها مرور الكرام..وأثناء كتابة هذا المقال كنت أقرأ فى الإنجيل متأملاً، كيف كان بيت الابن الضال عند مجيئه؟ وبعد طول هذا الغياب؟!!..فقد شدتنى هذه الكلمات التى هى أساس موضوعنا..عندما جاء الابن الأكبر يقول الكتاب: "فلما جاء و قرُبَ من البيت سمعَ صوت آلات طرب ورقصًا". وهنا سألتُ نفسى: أين كان الأب مع آلات الطرب والرقص؟..والإجابة: كان الأب فى نفس البيت..
 
وشكرتُ الله على هذا التأمل والذى جاء فى وقته..ألا تعلم أخى، من هو رمز الأب فى هذا المثل..الأب هو أبى وأبوك.. هو ربى وربك..هو الرب بجلالة قدره..هو الذى يفتقد أبناءه..وهكذا أثبتتْ كلمات الإنجيل، خروج الأب من منزله الذى كان فيه آلات الطرب والرقص.. 
 
وأخيرًا أود أن أقولها لك أخى: أنا لم أكنْ أطبل بطبل..أو أزمر بمزمار..أو حتى إننى لم أكنْ أرقص أو أطفر..ألا يكفينا ما تعلمناه من الكتبة والفريسين من ريائهم وتزمتهم الحرفى ..وكيف كانوا واقفين بالمرصاد لرب المجد يسوع محاولين إصطياد كلمة تخرج من فمه  الطاهر؟!!! 
 
وإننى إذ أوافق تعاليم البابا "كيرلس الرابع"- نيّح الله روحه الطاهرة-  فديننا يا أخى ليس دين الحلال والحرام، أو الفروض والفتاوى..لا يا أخى..ولكننى لم أقصد البتة الإستهانة بقدسية المكان..حاشا لى؛ لأن الله عالم بما فى القلوب والكُلى. وعندما كتبتُ هذه الحادثة لم أكتبها من قبيل الغضب عليك لا سمح الله، وإنما لتكون درسًا للمتزمتين والذين يكونون سبب عثرة للآخرين، مما يجعل البعض، يحجمون عن الحضور إلى الكنيسة..فليتنا نعى بأن نكون شعبًا مُحِبًا جاذبًا، بدلاً من أن نكون شعبًا كارهًا..طاردًا..وويل لمن تأتى بواسطته العثرات..
 ولكن ماذا أقول؟..فقد جعلتنى يا أخى أغوص فى متاهات أبعدتنى عن لب الموضوع، والذى كنت أود تدوين ذلك الشعور الفياض والمتدفق من جميع الإتجاهات، متنقلاً بين القديم والجديد..وكيف عشنا تلك اللحظات الجميلة مع مراسيم تعميد بعض الأطفال..ثم فى المساء مع بعض الأنشطة الكنسية، من ترانيم شجية، ومسرحية رائعة عن القديس "موسى الأسود"، والتى باركها حضور الأنبا "يوسف" والكهنة الوقورين..
كل هذه المشاعر  كنت أود تدوينها بطريقة توثيقية؛ لربط القديم بالحديث..ولكن للآسف يا أخى، قد أضعتَ علىّ هذه الفرصة الثمينة..فليسامحنا الله جميعًا..  
ولكننى أقول مرة أخرى وأخيرة..ألف مبروك، وهنيئًا لشعب مدينة "هيوستن" بكنائسها، وبأسقفها، وبكهنتها، وبشعبها..وإلى الأمام..الرب يبارك حياتكم.. آمين.