منير بشاي
بقلم: منير بشاي- لوس أنجلوس
بعد وفاة الرئيس "عبد الناصر" المفاجئة سنة 1970، استلم الرئيس "السادات" الحكم في ظروف غير عادية لم يكن أحد يتوقعها، كان تغيير الحاكم نقلة غير طبيعية لم تستطع الجماهير في البداية استيعابها؛ فقد كان "عبد الناصر" يتمتع بشخصية كاريزماتية، على عكس "السادات" في ذلك الوقت، ولكي يعوض "السادات" ضعف شعبيته ويستميل الجماهير لصفه، كان يربط نفسه دائمـًا بـ"عبد الناصر"، مرددًا شعار: "نحن نسير على طريق "عبد الناصر".
وتقول الفكاهة أن الرئيس "السادات" كان ذات يوم راكبـًا في سيارته، عندما وصل إلى مفترق الطريق سأله السائق أين يريده أن يتجه؟ فرد "السادات" بالسؤال: وأين كان "عبد الناصر" يتجه؟ فيجيب السائق أن "عبد الناصر" كان عادة يتجه إلى اليمين، وهنا يقول "السادات" للسائق: طيب إدي إشارة يمين واتجه شمال!!
والقصة مع أنها فكاهية وغير حقيقية إلا أنها تعكس فكرًا جادًا حقيقيـًا، هذا الفكر هو طغيان مرض النفاق في مصر في هذه الأيام، والنفاق هو أنك تُظهِر ما لا تبطن، ويحدث هذا إذا كان الواقع مخجلاً لا تريد أن تظهره للناس؛ فتتركه جانبـًا وتظهر للناس بصورة أخرى مخالفة تمامـًا.
والنفاق مرض ينتشر في كل مكان وبين جميع بني البشر، ولكن لمصر أن تفتخر بتفوقها في هذا المضمار، فهي تحتل مركز الصدارة بجدارة وبدون منافسة.
والنفاق ينتشر في مصر على مستويات كثيرة.
فعلى المستوى الفردي
لا تستطيع أن تخطئ العين ملاحظة تفشي النفاق بين الكثير من الناس، وتجد هذا واضحـًا في اللغة المستعملة بين الناس من مديح وإطراء أثناء وجودهم، ثم نقدهم لحظة أن يديروا وجوههم، ويظهر النفاق بوضوح عند محاولة الحصول على خدمات من الآخرين، وهنا يطبق المبدأ الدارج: "إذا كان ليك عند العبد حاجة، قول له يا سيدي".
أما النفاق مع الرؤساء عن طريق تملقهم -ومسح جوخهم- ولعق أحذيتهم لكسب مرضاتهم والفوز بالحظوة عندهم، فحدّث ولا حرج.
وعلى مستوى المجتمع
مَن يختلط بالمجتمع المصري في هذه الأيام يستطيع أن يدرك أنه أصبح مجتمعـًا متدينـًا من جميع الوجوه، وهذا يظهر من ملابس الناس ومظهرهم الخارجي؛ فمعظم النساء أصبحن يرتدين الحجاب، وبعضهن تمادى إلى لبس النقاب، وكثير من الرجال يطلقون لحاهم ويوشمون علامة "الزبيبة" على جبهتهم، وفي وقت الصلاة يترك الناس أعمالهم ويذهبوا لتأدية فروض الصلاة التي تتم أحيانـًا في الشوارع والميادين العامة.
وفي اللغة المستعملة بين الناس طغت التعبيرات الدينية، حتى التحية تأسلمت، فأصبحنا نرى من يحيي آخر بقوله: لا إله إلا الله؛ فيرد عليه: محمد رسول الله.. وبذلك أصبحنا نسمع ترديد الشهادتين مئات المرات في اليوم الواحد.
والغريب أن ظاهرة التدين هذه لم يصحبها تحسين في أخلاقيات الناس، بل رأينا العكس أنه قد ازدادت معها ظاهرة الفساد والرشوة والمحسوبية والسرقة والنصب والعنف والبلطجة والدعارة... إلى آخر هذه الموبقات.
وأسلمة المجتمع أفرزت أنماطـًا أخرى من النفاق، وفي هذا المجال لا يفوتنا الإشارة -على سبيل المثال- إلى الأسس التي يُبنى عليها اختيار فريق مصر القومي لكرة القدم، والذي يسمى بـ"فريق الفراعنة".
فمن سخريات القدر أن "فريق الفراعنة" يستبعد الأقباط من الاشتراك فيه، الذين هم أقرب المصريين سلالة إلى الفراعنة، وما يزيد من النفاق أن هذا التمييز لسبب الدين يصدر من فريق متدين جدًا يسجد لله كلما أحرز هدفـًا؛ ولذلك سُميّ بـ"منتخب الساجدين"، (أُمال لو مكانوش يعرفوا ربنا كانو عملوا إيه)؟؟
وفي اجتماعات الوحدة الوطنية يحضن الشيوخ القسوس ويقبّلون لحى الواحد الآخر، ولكن ما أن تنفض هذه الاجتماعات حتى نسمع عبر مكبرات الصوت في المساجد بعض هؤلاء الشيوخ يرددون الدعوات إلى ألله؛ أن يرمّل نساء النصارى ،ويتيّم أبنائهم، ويبدّد شملهم، ويشحنون المصلين لترويع النصارى، إخوتهم في الدم، وشركائهم في الوطن.
وعلى مستوى الدولة
الدولة تمارس النفاق عندما تتلاعب بالكلمات لتصل إلى ما تريد؛ فالهزيمة تسميها نكسة، ورفع الأسعار تسميها تنظيم هذه السلعة أو تلك، وخلي بالك.. التوريث هيحصل بس مش هيكون اسمه توريث.. إيه رأيك نسميها: "مبايعة شعبية"؟؟!
وعندما وجدت الدولة نفسها أمام نداءات داخلية وعالمية تطالبها بالعدالة والديمقراطية ومراعاة حقوق الإنسان؛ فلكي تُخرِج نفسها من المأزق لجأت لحيلتها التقليدية، وهي "النفاق"؛ أي التظاهر بأنها تقوم بهذا كله بينما هي في الحقيقة لا تعمل منه شيئـًا.
ففي مجال الديمقراطية تسمح الدولة بالانتخابات التي تظل حرة، طالما كانت النتيجة في صالح ممثل الدولة، أما إذا حدث العكس؛ فكلنا نعرف ما يحدث، وفي مجال حرية التعبير تسمح الدولة بالحريات، طالما لا تتعدى الخطوط الحمراء التي يعرفها الجميع.
وفي مجال الحريات الدينية تسمح الدولة لمَن يريد أن يسلم من المسيحيين بتنفيذ رغبته دون مشاكل، ولكن في المقابل لا تعطي مَن يريد أن يتنصر من المسلمين نفس الحقوق!!
وفي حديث لفضيلة مفتي مصر الشيخ "علي جمعة" في "واشنطن" سُئل الشيخ عن ما إذا كان يسمح الإسلام لمَن يريد أن يتركه أن يفعل هذا؟ وكان جوابه بالإيجاب، ولكنه عندما عاد إلى "القاهرة" أضاف شيئـًا لم يذكره في "واشنطن"، وهو شرط عدم تقويض أساسات المجتمع!!
وعندما شرح المقصود بهذا.. أعلن أن المسلم من حقه أن يغير دينه على شرط؛ أن لا يعلن قراره علانية في المجتمع حتى لا يثير قراره فتنة يمكن أن تؤدي إلى زعزعة السلام الاجتماعى، وبمعنى آخر أن يظل ذلك المسلم الذي اعتنق المسيحية، كما هو نفس الإنسان المسلم أمام المجتمع وفي أوراقه الثبوتية، بينما يكون مسيحيـًا بينه وبين ربه... أليست هذه صورة حية للنفاق الذي تعيشه مصر وتفرضه على الناس؟؟
وعندما أراد الرئيس "السادات" إرضاء الشعب ورفع شعبيته، لعب بورقة الدين؛ فغير الدستور وأضاف له البند الذي ينص على أن "مصر دولة إسلامية"، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر من مصادر التشريع.
ولما رأى أن هذا يرضي الشعب حاول أن يلعب على نفس الوتر؛ فغير نفس النص ليصبح: "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، وعندما شكى أقباط مصر من ذلك بعد أن تحولوا إلى مواطنين من الدرجة الثانية، حاولت الدولة عمل "إضافات تجميلية" غاشة للعلاج؛ فقامت بإضافة بند المواطنة الذي كان من المفروض أن يعطيهم كل حقوقهم كمواطنين أصلاء.
ولكن في ظل المادة الثانية الخاصة بالشريعة الإسلامية؛ فإن كل المواد الأخرى في الدستور تصبح صفرًا على الشمال؛ فالشريعة الإسلامية تنسخ ما قبلها وما بعدها، لأن كلام الله فوق كلام البشر، وبذلك رأينا النفاق في أوضح صوره، عندما مُنح الأقباط حقوقـًا بالبند الأول من الدستور.. لتؤخذ منهم بالبند الثاني.
وعندما شكى الأقباط من تعنت الدولة في التعامل معهم في استخراج تصاريح بناء وترميم الكنائس، تظاهرت الدولة بمحاولة حل المشكلة؛ فأصدر الرئيس "مبارك" قرارًا بتحويل بعض اختصاصات رئيس الجمهورية للمحافظين، ولكن نتيجة لهذا التغيير أصبح الوضع الجديد أحيانـًا أسوأ مما قبله، لأنه بدلاً من التعامل مع بيروقراطية واحدة.. أصبح الأقباط يتعاملون الآن مع بيروقراطيات عديدة؛ بالإضافة إلى أن هناك محافظين مثل محافظ المنيا اللواء "أحمد ضياء الدين" يحملون كرهـًا طبيعيـًا للمسيحيين، ويظهرون هذا في كل معاملاتهم معهم، وخصوصًا في تصاريح بناء الكنائس وترميمها.
وعندما طالب الأقباط برفع الحظر المفروض على تعيين الأقباط في بعض المناصب العليا، استجابت الدولة؛ فعينت محافظـًا قبطيـًا في "قنا"، وهواللواء "مجدي أيوب إسكندر".
ولكن اتضح أن ذلك الرجل القبطي لا يحمل من المسيحية غير اسمها واسمه، وأثبت أنه أقسى على المسيحيين من المحافظ المسلم الذي سبقه، ونتيجة لذلك أصبح المسيحيون في "قنا" يتحسرون على الزمن الجميل أيام كان يحكمهم المحافظ المسلم، ولا أستبعد أن ينظم الأقباط مظاهرة ضد المحافظ القبطي الوحيد!!
خلاصة القول.. إن النفاق قد طغى على أرض مصر في هذه الأيام؛ فأصبحنا نرى وجهان لكل شيىء: الشكل الخارجي الجميل، والحقيقة المستترة القبيحة، والنفاق هو رذيلة مركبة تجمع عدة رذائل، فهي تستخدم الخداع وتظهر في الكبرياء وتهدف إلى الظلم.
ولكن النفاق ليس له القدرة على الديمومة، والخداع قد ينجح للحظة ولكنه لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، هو مثل أوراق التين التي لا تستر مَن يكتسي بها، وعندما تطلع شمس النهار، سرعان ما تذبل وتجف وتذريها الرياح؛ وقد قال "السيد المسيح" أنه: "ليس خفي إلا ويستعلن".
http://www.copts-united.com/article.php?A=21500&I=534