بقلم: منى أسعد
غريبة هي في بلاد غريبة، لا تعرف ناسها ولا تعرف لغتها، ولم تحفظ حتى أسماء شوارعها، هكذا وجدت نيرمين نفسها بعد زواجها قسراً من غريب ثريّ، وانتقالها ملزمة للعيش معه في موطن عمله.
لم تكن تدرك وهي دون السادسة عشرة من العمر المآل الذي ينتظرها، بعدما تنازلت مرغمة وفرحة في آنٍ واحد عن أحلام طالما راودتها، ستدرس، ستكون مهندسة، ستبني البيوت والعمارات. إلا أنّ حلم ارتداء الثوب الأبيض والطرحة البيضاء، كان أكثر حضوراً.
وكأيّ حلم استيقظت منه بعد أيّام من استقرارها في ذاك البلد، على اضطرار زوجها للسفر إلى الخارج، وتركها في عهدة صديقه وزوجته، اللذين ما لبثا أن قاما باغتصابها وتصويرها عارية، ومن ثمّ تهديدها بإرسال هذه الصور إلى أهلها وفضح أمرها أمامهم، ما لم تستجب لرغباتهما. وأمام رفضها الرضوخ والانصياع كان لا بدّ من كسر عزيمتها، فقُيّدت وحُبست أيّاماً طويلة في غرفتها، كان فطورها وعشاؤها الضرب والإهانات، وكانت قابلة راضية على أمل أن يأتي الزوج المنقذ المدافع عن الشرف ليخلّصها.
لكنّ صدمتها كانت أكثر وجعاً من كلّ ما سبق، حين عاد المنقذ ليطلب منها بمنتهى البرودة والهدوء أن تحترم علاقة العمل التي تربطه بهذا الصديق وزوجته، وأن تعمل على تلبية رغباتهما، وافهمها بصريح العبارة أنّ صديقه هذا يدير شبكة دعارة وأنّ زواجها برمّته كان جزءاً من العمل، فرجته أن يطلّقها وأن يعيدها فوراً إلى أهلها ووطنها، أو أن يسمح لها بالعودة بمفردها، لكنّه رفض بشدّة ونصحها بالطاعة والامتثال للأوامر.
بعد حين وقبل أن تبلغ الثامنة عشرة من العمر، كانت قد بيعت ستّ مرّات إلى أصحاب بيوتٍ للدعارة، حتى قبض عليها في دار للبغاء، وبعد انتهاء التحقيق معها تم إيداعها دارا لإيواء ضحايا الاتّجار بالبشر، بانتظار توطينها في بلد ما، بعدما باتت مهدّدة بالذبح من قبل من باعها وتاجر بها أوّل مرّة.
تتحدّث نيرمين عن تلك التجربة فتقول :
إنّها تعرّضت لأكثر ما يمكن لإنسان تحمّله، من تجويع وتعطيش وتعذيب وضرب ومنع من النوم، ومع ذلك لم ترضخ إلا بعدما حوّل معذّبوها جميع مناطقها الحسّاسة إلى مطفأة للسيجار الكوبي. والذي وشم جسدها وروحها بوشم لن يمحى.
مع ذلك تقول : إنّها تخلّت عن كرامتها وإنسانيتها تحت تأثير القوّة والعنف، لكنّها اليوم وقد ولدت من جديد، ولدت طاهرة كما المرّة الأولى، فإنّها ستعود إلى حلمها وستعاود الدراسة لتغدو مهندسة وتبني البيوت والعمارات.
بالطبع من الضروري التأكيد على أنّ إرغام الفتيات - والقُصّر منهنّ خاصة- على الزواج، وإرسالهنّ دون التفكير بمآلهنّ، إلى أماكن بعيدة عن أهلهنّ وبيئتهنّ، ليجدن أنفسهنّ غريبات وحيدات ضعيفات، قد يحمل في طيّاته أكثر من الإساءة إليهنّ، إذ قد يحوّلهن إلى عاهرات مرغمات، يطاردهنّ القانون، ويطاردهنّ فحول العائلة لغسل العار الذي تسبّبن به. وبالتالي تتحوّل هذه الإساءة إلى جريمة في حقّ إنسانيتهنّ وكرامتهنّ ووجودهنّ ذاته. وهنا لا بدّ لنا من التوقّف قليلاً لنتساءل من المجرم حقيقة؟ وهل يعتبر سلوك الوليّ في هذا الشأن اتّجاراً بالبشر؟
نلاحظ أنّه في بدايات القرن الماضي، ساد في المجتمعات العربية والإسلامية عموماً، تدنّي سنّ الزواج للفتيات، ويمكن إرجاع ذلك إلى أسباب فكرية وثقافية واجتماعية مختلفة، إلا أنّ تطوّر المجتمعات المدنية الحديثة، وانتشار التعليم ووسائل الاتصال وما رافق ذلك من حراك اجتماعي وفكري، قلّص هذه الظاهرة إلى حدودٌ دنيا، وإن كانت لا تزال تنتشر في بعض الجيوب المجتمعية المحافظة سواء في المدينة أو الريف، وبشكل خاص، في المجتمعات البدوية والعشائرية، بذريعة تحصين الفتاة ضدّ الانحراف، لكنّها في الحقيقة ليست إلا تعبير عن حاجة وليّ أمر الفتاة إلى المال أو النفوذ، أو لرغبته في التخلّص من مسؤوليته تجاهها، إذ يُلاحظ ارتفاع مهور الفتيات في تلك المناطق بشكل كبير، ويزداد ارتفاعا كلّما صغُر عمر العروس.
في سوريا ورغم أنّ قانون الأحوال الشخصية الذي أٌقرّ عام 1953، حدّد سنّ الزواج للفتاة بـ(17) عاماً، وللفتى بـ(18) عاماً. إلا أنّ المشرّع عاد وانسحب إلى مواقع متخلّفة، تاركاً الباب موارباً للالتفاف على هذا النص، عندما أكّد في مادّة لاحقة من القانون ذاته، على إجازة تزويج الفتاة في ( 13) من العمر، والفتى في ( 15 من العمر)، بعد الحصول على موافقة القاضي الشرعيّ. مسبغاً بذلك حمايته القانونية على آفة مجتمعية مستمرّة حتى الآن، في حين كان من الممكن التخلص منها منذ خمسينات القرن المنصرم.
وفي مصر، دفع تفاقم هذه الظاهرة بمفتي مصر السيّد علي جمعة إلى القول : " إنّ زواج الفتيات القُصّر مشكلة اجتماعية خطرة ولا بدّ من محاربتها، وأنها تُعدّ استغلالاً جنسياً للأطفال يجب معاقبة من يقدم عليه أو يقوم به سواء الأبوين أو المحامين أو الوسطاء". وذلك بعدما كشفت دراسة أجريت مؤخّراً، على 3 مراكز في محافظة 6 أكتوبر" أن نسبة زواج القاصرات بهذه المراكز بلغت 74%".
ونحن إذ نتّفق مع مفتي مصر فيما خلص إليه، إلا أنّنا نضيف أيضاً، أنّ زواج القاصرات هو أكثر من الاستغلال الجنسيّ للأطفال، إذ يمكن اعتباره حالة من حالات الاتجار بالبشر وفق ما نصّت عليه المادة الثالثة من بروتوكول الأمم المتحدة المكمل لاتفاقية منع الاتجار بالبشر وخاصة النساء والأطفال، والتي تحدد الاتجار بالبشر بأنه "تجنيد الأشخاص أو نقلهم أو تنقلهم أو إيوائهم أو استقبالهم بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الخداع أو الاحتيال أو إساءة استعمال السلطة أو إساءة استغلال حالة استضعاف أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض استغلال. ويشمل الاستغلال كحدّ أدنى استغلال دعارة الغير أو سائر أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسراً أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستبعاد أو نزع الأعضاء".
إنّ مقاربة هذه الظاهرة مع محدّدات المادّة الثالثة من بروتوكول الاتجار بالأشخاص، تضعنا أمام حقيقة أنّ هذه الزيجات وإن كان ظاهرها عقدا شرعيّا وقانونيّا، إلا أنها يمكن أن تخفي حالة اتجار بالأشخاص، بكل ما لهذا الجريمة من آليات وآثار، فهي بداية تتضمن مكاسب مادية أو معنوية انتفع بها المتاجر، وهو هنا (الوليّ في عقد الزواج هذا)، كما تتضمن استغلال حالة القِصر عند الضحية وعدم فهمها لحقوقها أولاً، وعدم قدرتها على الدفاع عن هذه الحقوق ثانياً، بالإضافة إلى ذلك ثمة حالات لانتقال أو نقل الضحية إلى بلد أو بيئة غير آمنة بالنسبة لها، بيئة هي غريبة عنها وضعيفة فيها، لتمارس عليها أشكال مختلفة من الاستغلال بواسطة التهديد باستخدام القوة، أو حتى باستخدامها فعلياً، وذلك بقصد الإمتاع الجنسي ودفعها للقيام بأعمال السخرة أو الخدمة القسرية، الأمر الذي يورث لديها إحساساً بالعجز والقهر والخوف والدونية، لأنّها في حال تجرّأت ورفضت أو تمنّعت فللمالك (الزوج) الحقّ بعقابها وإرهابها وتخويفها، وفي أحيان كثيرة قد يلجأ إلى اغتصابها عنوة، مخلّفاً لديها إحساساً هائلاً بالمهانة والذلّ والاسترقاق والعبودية معاً. وهذا بمجموعه يشكل من وجهة نظرنا جريمة اتجار بالأشخاص بكل ما تتضمنه من آليات وآثار.
إن انطباق محدّدات المادة الثالثة من البروتوكول مع أسلوب وشكل حياة المتزوّجات بالإكراه، القاصرات أساساً، وبنسبة أقلّ الفتيات غير القاصرات، كما في حالة زواج المحيار أو زواج المبادلة وغيرها من صور الزواج بالإكراه، تدفعنا إلى القول إنّ هذه الظاهرة ليست مجرّد مشكلة مجتمعية تتعلق بحقوق الأنثى في المساواة، والارتقاء بهذه الحقوق، فقط. بقدر ما هي جريمة غير أخلاقية، تنعدم فيها إنسانية الأنثى وكرامتها، جريمة تخلّف لديها ندوب نفسية وجسدية عديدة، من الصعب التغلب عليها، فعدا عن حرمانها من فرصة النمو التعليمي والنضج الروحي والأخلاقي والاجتماعي، نتيجة إلزامها بالعمل المضني والخدمة القسرية التي تصل حد الاسترقاق والعبودية، ثمّة ضرر نفسيّ وأذى جسديّ يصيبها جرّاء ممارستها للنشاط الجنسي قبل الأوان، والذي كثيراً ما يسبقه عنف أو ترهيب. قد يودي بالضحية إلى الاكتئاب أو الفصام، وفي أحسن الأحوال يودي بها إلى علاقة جنسية مضطربة مع الزوج إن لم يؤدّ الحمل المبكر إلى الوفاة المبكرة.
من هنا يمكن القول إنّ ارتكاب هذا النوع من الجرائم، من خلال إبرام عقود زواج لفتيات دون السنّ القانونية أو في سنّ الزواج، بغرض التخلّص منهن أو للانتفاع من تلك الزيجات أو لتسوية الديون، لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها جرائم ضدّ الكرامة الإنسانية، لما فيها من انتهاك صارخ لحق الفتيات بالحياة والآمان والكرامة رغم أنّ المشرع لم يرتّب عليها أيّة مساءلة قانونية حتى الآن، ولا يزال مرتكبو هذه الجرائم معفيين من أية ملاحقة أو عقاب، في حين لا تزال أعداد ضحاياهم في ازدياد. الأمر الذي يمكن القول معه إنّ تخلّف القوانين وقصورها، وضعف الملاحقة القانونية سمح، ولا يزال، بإطالة عمر هذه الظاهرة وإبقاء المتاجرين بالفتيات - باسم الزواج- بمنأى عن المساءلة القانونية، لكن الأهم من ذلك، يكمن في صمت المشرع وانسياقه وراء قيم متخلفة، بحيث يمكن اعتباره الراعي والحامي لأولئك المجرمين والسبب الرئيس في خلق البيئة المناسبة لزيادة انتشار هذه الظاهرة.
وعليه: فإنّ المواجهة الحقّ لهذه الظاهرة تقتضي العمل الجديّ والتعاون المثمر بين الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني لدفع المشرّع إلى إقرار قوانين جديدة تبلور قيم مجتمعية ايجابية جديدة تُعلي من مكانة المرأة وتمنع الاتجار بها. كأن تتضمن بداية رفع سنّ الحدّ الأدنى لزواج الفتيات، والتقيّد التامّ بهذه السنّ، وإنزال العقوبات الرادعة بحقّ المخالفين سواء الوليّ أو الزوج أو منظم العقد، أو حتى القاضي مثبت عقد الزواج . والعمل على احترام الرغبة الشخصية للفتاة وليس لولي أمرها. وفي حال تمّ زواج قاصر وتمّ تثبيته أصولاً، فعلينا منع الزوجة القاصر من السفر مع زوجها خارج موطنها حتى بلوغها سن الرشد. لأنّ هذا السفر قد يكون أحد المعابر لعمليات الاتجار بالأشخاص.
في سوريا كما في بلدان كثيرة غيرها تمّ التعاطي مع جريمة الاتجار بالأشخاص على أنها جريمة ضدّ الإنسانية، فبادرت الحكومة السورية إلى التصديق على اتفاقية منع الاتجار بالأشخاص وعلى البروتوكول الملحق بها. ثم جاء المرسوم التشريعي رقم 3 لعام 2010، الذي أصدره الرئيس السوري بتاريخ 13/1/2010، وفيه أكّد ضرورة تعزيز التعاون الدولي والإقليمي والمحلي لمحاربة هذه الجريمة، ومعاقبة الناشطين فيها.
وعلى الرغم من أهمية هذا المرسوم وجدّيته، وهو أوّل خطوة مباشرة للقانون السوري ضد هذه الجريمة، إلا أنه لم ينص على اعتبار زواج الفتيات بالإكراه وخاصة القاصرات منهنّ، أحد أشكال هذه الجريمة، وبالتالي فلا يزال مرتكبو هذه الجريمة في حِلٍّ من العقاب.
عودا على بدء، نستطيع القول بأن المجتمع الدولي برمّته، وقد انحاز لنصرة الإنسان والدفاع عن كرامته، وعَمِل على قمع جريمة الاتجار بالأشخاص ومعاقبة مرتكبيها، باعتبارها جريمة تستهدف الإنسان في إنسانيته وكرامته وأمنه ووجوده أحياناً، وذلك من خلال الصكوك الدولية والبروتوكولات الملحقة بها، فحريٌ به العمل على نصرة الفتيات المستضعفات المتاجر بهنّ، واعتبار الزواج بالإكراه عموماً، وزواج القاصرات على وجه الخصوص، هو حالة من حالات الاتجار بالأشخاص. وإلزام الدول المصدقة على الاتفاقية والبروتوكول الملحق بها، بالعمل على محاربته والقضاء عليه.
نقلا عن الحوار المتمدن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=21912&I=545