بقلم : نادين البدير
انتهى رمضان وانتهى فراغه الدرامى. كل شىء كان متوفراً بمسلسلات هذا العام. القصص والحكايات بزخمها وأنواعها الرومانسية والتاريخية والكوميدية، العدد الهائل من أشهر الممثلين والممثلات العرب، أهم المخرجين والمنتجين، الديكورات المبالغ فى الاهتمام بها، الإنفاق الإنتاجى الذى تعدى مئات الملايين. لكن شيئاً واحداً مهماً اختفى عن معظم المسلسلات عدا القليل منها وكان سبباً فى الفراغ المخيف الذى أقصده، وهو النص.
النص بغالبية الدراما الرمضانية كان مفقودا، ولغة الحوار بلغت مبلغاً شنيعاً. القلة القليلة من الأعمال كان هدفها الفنى لا يبالى (أو يحاول إيجاد التوازن) بموجة المطحنة الإنتاجية التى التهمت الفن، وخلقت مكانه تجارة درامية مربحة، عدا ذلك فلا فارق فى الحقيقة بين أن تشاهد المسلسل بصوت أو دون صوت، مكتفياً بالصور والألوان وقدرتك الأكيدة على استنتاج القصة بمنتهى البداهة من صور وحركات الممثلين المشاركين بأعمال صالحة وبجدارة لزمن السينما الصامتة. ولمِ حاجتك للصوت والمشاهد هى ذاتها تتكرر فى عدة أعمال؟ أشخاص يتحركون، نساء يتمايلون، صراخ، عويل، ضحك، مزاح، حوار فارغ من الكلمات، حوار لا معنى له ولا قيمة.
كله افتراء على الجمهور. الجمهور الذى استوعب أعقد الأعمال الفنية العربية ويتابع بنهم أهم منتجات السينما العالمية، الجمهور الذى كان يحسب له كتّاب السيناريو ألف حساب وحساب قبل البدء فى أى مشروع، صار هو سبب النكسة الفنية، وحجة التجار فى إسكات النقاد. كله افتراء على الجمهور.. فأين النص؟ من أضاع النص؟
إن كان عذرهم الجيل الجديد من الشباب، فهو بعيد كل البعد عن دراما اليوم، جيل يسخر من السينما والمسلسلات العربية وينذر نفسه مشاهدا مخلصا للسينما الغربية. فمن بقى من الجمهور المستهدف؟
تابعت عددا كبيرا من مسلسلات هذه السنة. تابعتها بإيجابية، فتكلفة العمل الضخمة تمنعك من التسرع بالحكم عليه ونقده بمنتهى السهولة؟ بعد عدد من الحلقات تحديدا عند منتصف الشهر صرت أشفق على نفسى، أولاً لأنى شاهدت غالبية الأعمال المصرية وعددا ضخما من الأعمال العالمية، كما أننى أنتمى لجيل أكثر حظاً من الأجيال الحالية، إذ حظيت بداية المراهقة بـ«ليالى الحلمية» و«رأفت الهجان»، وأستطيع تذكُّر أشياء كثيرة من «الشهد والدموع» وغيرها، حتى الفوازير كانت تبذل لأجلها الجهود وتسهر لها الليالى، ورغم الإمكانات المادية البسيطة وقتها فلم يعتد المشاهد الغث. اعتاد السمين فقط. أشفق على نفسى لأنى مجبرة بعد كل ذلك على متابعة ألبوم مشاهد متحركة التقطت من هنا وهناك لاستغفالى. التقطها أناس لا أهمهم ولا يهمهم سواى من المشاهدين. تهمهم الأرباح.
القنوات الفضائية تريد تحقيق المكسب السريع، رجال الأعمال تهمهم الإعلانات، والممثلون والممثلات يهمهم إثبات الوجود الرمضانى ورأس المال المنتج يتحكم فى كل شىء. أهى مبررات غياب النص والاستعانة بكُتاب دخلاء على الصناعة؟
نصوص بعض المشاهد توحى بخيالات عديدة، أحدها أنهم بموقع التصوير وقبل البدء بلحظات اكتشفوا نسيان النص فى مكان آخر أو أن النص ضاع، فارتجلوا والتقطوا كلمة من هنا وأخرى من هناك ليكملوا بها الجملة الضائعة وينهوا العمل بأى طريقة. أعرف أن عدداً من المسلسلات يبدأ تصويرها قبل رمضان بفترة بسيطة، ربما بشهر، ويستمر تصوير بعضها خلال الشهر.. فمن أين سيأتى الإبداع وسط عجلة التصوير، واعتماد المشاهد بطريقة فوضوية تدل عليها أخطاء جسيمة تملأ الحلقات؟
طبعا ذلك كله يهون أمام الدراما الخليجية التى لا يفهم منها إن كان هناك كاتب للنص فى الأساس أم أن العمل كله كان مرتجلاً. من أضاع نص الدراما العربية؟
لننظر فى المقابل لصناعة السينما الأمريكية التى جذبتنا وتجذب الأجيال العربية الصغيرة، حيث السيناريست يستغرق وقتا طويلاً فى التأليف يمتد لسنوات، فصناعة الحوار هناك فن لا مهنة. عبارات كثيرة نطق بها أبطال عدد كبير من الأفلام الأمريكية مازالت راسخة فى عقولنا، تأثرنا بها لدرجة كبيرة، وبدا بعضهم كأنه يتحدث عن دواخلنا، كأنه يعرفنا. أما آخر كلمات حفرت بذاكرتنا لنص عربى، فقد مر عليها سنون. أن تخرج كلمتك أمام الجمهور أمر بغاية التعقيد، هذه الكلمة سيخزنها الأرشيف لعقود من الزمان، وستتحول إلى فن يعكس طبيعة الحياة اليوم، مثل أفلام الأبيض والأسود التى تعكس «زمان ورقى زمان ونباهة كتاب زمان».
مسلسلات اليوم ستعكس مستقبلا أزمة فكر وحوار، وستدلل على أننا عشنا فى عصر أهمل الكلمة واهتم بالملبس والديكور. أهمل المضمون واهتم بالظاهر حتى اللهجة المصرية صاحبة اللحن الجميل، ظهرت ببعض الأعمال وعلى يد الدخلاء كلهجة خشنة.
هذه اللهجة التى كانت مكملا عذبا لأنوثة فاتن حمامة الطاغية، وبدت مريم فخر الدين معها كأسطورة قادمة من لوحات المستشرقين فى ذات الوقت الذى منحت فيه شكرى سرحان منتهى عناصر الرجولة والأنفة، اللهجة التى احتوت «دعاء الكروان» وروائع الأعمال، لدرجة أن كثيرا منا تمنى لو كانت المصرية لهجته الأم، يستلهمها الآن بعض من الفنانين وكذا الفنانات ممن يغلب ميلهن (للردح) على ميلهن للتمثيل، وتطغى على أداء بعضهن شخصية البنت (العربجية) وإن كانت تجسد دور الفتاة الأرستقراطية، لكن المؤكد أن هذا الزمن التجارى سينتهى عما قريب، كونه غير طبيعى. زخم المسلسلات غير طبيعى، وأزمة شح النصوص غير طبيعية.. كله جديد على الساحة الفنية، خصوصا ساحة الفن المصرى العريق. هل يمكن أن نشهد فى العام المقبل لجانا داخل القنوات الفضائية مختصة بتقييم العمل الجيد من الردىء، خصوصا فيما يتعلق بآذاننا؟
عيد فطر سعيد إلى كل كاتب أحيا قلوبنا هذا العام بعباراته العميقة وبحثه المضنى وإصراره على تقديم المميز من الأعمال. عيد سعيد لكل سيناريست استغنى عن الوجاهة وانعزل وبقى بخلوته عدة أعوام ليشكل لوحته الفنية الجديدة، متنازلاً عن مجد الظهور كل يوم بمسلسل سطحى سقيم.
عيد سعيد لوحيد حامد ولمقولته: المشاهد أذكى من السيناريست.
نقلاً عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=22516&I=561