ليس بوذيًا!!

محمود الزهيري

بقلم: محمود الزهيري

مازال يتمازح مع بعض أصدقائه حينما يختلف في بعض المسائل الدينية بأبعادها الإجتماعية، المأزومة بفسادات الفاشية الدينية، المصنوعة علي عين نظام
الإستبداد والطغيان , ولا يصل إلي حل مرضي أو مقنع ويعلن عن رأيه بقدر يراه البعض صريحًا مؤلمًا, ويراه آخرون أنه صفيقًا مجرمًا, وقليل يتفقوا مع هذا الرأي , في هذه الأثناء كان يعلن علي سبيل المزاح: إنه بوذي , وهذا هروبًا من مناقشات عقيمة خارجة من رحم غير رحم العقل والشرف العقلي!!

كنت أفكر في هذا الكلام الذي يتمازح به صاحبنا معلنًا بوذيته , أو حتي زرادشتيته. ولو كان هو حتي ممن يقدسون البقر, فهذه ديانات أرضية وثنية تعبد الأوثان أو الأصنام التي تمثل بصورة رمزية آلهتهم, لدرجة إنني تذكرت منطوق نص الآية القرآنية:(ومانعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفي) أي يجعلوا هذه الأصنام واسطة بينهم وبين إلههم الذي في السماء. وهذا كان الحادث في شبه الجزيرة العربية, وبعض المناطق الأخري من العالم الذين صنعوا الآلهة أصنامًا.

أما هذه الأوثان والأصنام في غير شبه الجزيرة العربية، فتمثل آلهة أرضية حقيقية بالنسبة لمعتنقي هذه الديانات, وكان من أسمي ما يسعي إليه من يعبدون الأوثان آلهة, إنهم يريدون الإرتقاء بالمعتقد من الأرض ليرتفع بها إلي السماء, وجعلوا رسالتهم صاعدة من الأرض إلي السماء .

أما الأديان السماوية الإبراهيمية المتمثلة في اليهودية والمسيحية والإسلام, فرسالتها أتت من السماء إلي من هم علي الأرض من غير عناء ومشقة, ووضعت لهم النظام الديني الإعتقادي الذي يطهر الأرواح وينير طريق الإيمان؛ ليكون خلاصهم من عذابات الدنيا التي قد تصادفهم من بني البشر أثناء صراعاتهم علي سبل العيش وأسباب الحياة.

أظن أن هذا المراد لم يتحقق إلا كأمثلة ونماذج مشعة بفيض البذل والعطاء والتضحية من أجل البشر، إلا في نماذج واضحة في تاريخ الأديان الثلاثة الإبراهيمية .

لما كانت الأديان السماوية قائمة في أساس الإعتقاد بها علي اليقين بالغيب بدايةً من الإله الحي في ملكوت الغيب, وحتي الكتب السماوية طريقة الإبلاغ بها كرسالات سماوية أتت من رحم الإيمان بالغيب, وكذا الأنبياء والمرسلين من السماء لازال الإيمان بهم كأنبياء ومرسلين آتيًا من رحم الغيب, وما كانت المعجزات وخوارق العادات التي أجريت علي أيادي الأنبياء والمرسلين من السماء إلا لتأكيد هذا الغيب أو المجهول الغيبي, أو حسبما يسميه الفلاسفة ما وراء الطبيعة أو ينعتوه بالميتافيزيقا .

ولما كان أصل المسألة إيمان غيبي بإله غيبي, ورسالات غيبية, وأنبياء ورسل أتوا إلي البشر من رحم الغيب؛ فلماذا يتفاخر كل منتسب إلي دين من الأديان الثلاثة الإبراهيمية بغيبه ويحقر الغيب الآخر الذي يؤمن به غيره، والذي لم يشاهده أو يحسه بأي حاسة من حواسه؟

وليت الأمر يقف عند حدود التحقير والإزدراء, بل يصل الأمر لدرجة الدم, لتتحول العقائد الغيبية إلي عقائد الدم والقتل والإرهاب!! فنري من يجعل إلهه ممسكًا بسيف أو رمح, أو نبل. ونري من يجعل إلهه ممسكًا بسنجة أو مطواه أو خنجرًا, ونري من يجعل إلهه مصوبًا بندقيته أو مسدسه تجاه المخالف في الدين والمعتقد. بل هناك من يجعل إلهه سارقًا ولصًا يسرق المخالف في الدين, وهناك من يجعل إلهه ممسكًا بلوحة مفاتيح الصواريخ الإستراتيجية أو التكتيكية , ليسيطر ويهيمن علي المخالفين له في الدين ويجعلهم تحت سطوته وهيمنته .

فهل الله كذلك ؟!

الإله الوثني لم يصب جام غضبه علي المخالفين لأتباعه, ولم يلعنهم, ويزدريهم ويحتقرهم, ولم يدعو لقتلهم, ولم يأمرهم بصناعة مفاهيم الدم والقتل والإرهاب، وإنما الدفاع عن النفس أمر تعرفه البشرية قبل ظهور الأديان الوثنية, وقبل بزوغ نجم الأديان السماوية الإبراهيمية..فلماذا تحدث هذه الأفاعيل المجرّمة, والجرائم المشينة الحقيرة في حق المخالف في المعتقد, وفقط في الديانات السماوية الإبراهيمية؟!!

أظن أن الأمر ليس كامنًا في الأديان أو في المعتقد الديني, ولكنه كامن وساكن في عقول المنتمين لهذه الأديان، حيث أبواب المصالح الدنيوية هي التي تحرك هذه الصراعات، وتصنع الفتن والأزمات؛ لينتفع أصحاب معتقد علي حساب أصحاب المعتقدات الأخري من المنتسبين للأديان الأخري. ويظل الصراع مؤججًا مشتعلاً، والمستفيد الأكبر منه هم رجال الدين ذوي المصالح الكبري، ومن هم وراءهم من صناع ومديري الفاشيات السياسية الإستبدادية. ويصبح الأتباع وكأنهم خدام للآلهة، والمطيعين لها، والمؤدين لفرئضها وسننها السماوية الإلهية, في انتظار لرضا الإله, في حين أن رجال الدين هم من جعلوا من أنفسهم وسطاء بين البشر وبين الآلهة..وهذا ما كان يفعله عباد الأصنام والأوثان في سابق الأزمان في شبه الجزيرة العربية .

لذلك فصاحبي يقول في وسط هذه الصراعات والنزاعات الغيبيبة, وأري أنه يحتفظ بإيمانه الديني السماوي الإبراهيمي، ولكنه مازال مصرًا علي رفضه لهذه النزاعات التي تصل أحيانًا لصراع الدم بين المنتسبين للدين الواحد، ويقول علي سبيل الرفض بصيغة المزاح: أنا بوذي !!

وإلي هذا الحد، بالرغم من بوذية صاحبنا هذا المدعاة, فلم يعترض عليه المؤمنين بالديانات السماوية الثلاث, اليهودية والمسيحية والإسلام! ألستم معي أن أسلحة التكفير والتلعين والتفسيق وإباحة القتل سيكون لها فعالياتها لو تحول مجرد إدعاءه للبوذية إلي إدعاءه التحول من دينه ومعتقده السماوي إلي دين آخر ومعتقد سماوي آخر, وخاصة بين المسيحيين والمسلمين وفقط؛ لأن اليهود لن يقبلوا من هو غير يهودي الأم والأب، ولا تشغلهم مسألة الدعوة أو التبشير؟!!

ومع ذلك صديقي هذا ليس بوذيًا!!