نذير الماجد
بقلم: نذير الماجد
"المؤرخ الذي يفكر دائما إلى الوراء ينتهي بأن ينظر إلى الوراء أيضا" هكذا قال نيتشة، وهكذا نقرأ رحيل المفكر، فمنذ اللحظة التي غاب فيها أصبح عالم الإسلاميات محمد أركون علامة تاريخية، ونيتشة يدعونا أن ننظر إلى الأمام بحيث يتحول أركون إلى علامة أو نص قابل للتشريح.
إن موت المفكر حدث جلل، لكنه أيضا حدث محفز ومحرض لفتح مداخل مغايرة للتجربة الفكرية، فموت المفكر كحدث استشكالي لا يمثل مجرد انطفاء بيولوجي أو مصيبة ناتجة عن خسارة إنسان مفارق ومتجاوز، إنه أكثر من ذلك، فغياب المفكر ينبغي أن يكون حدثا معرفيا يسعى إلى تقصي الأسئلة التي يمكن أن تشكل تحريضا يتلمس الحدود وجوهر المساهمة في تاريخ الأفكار، وعند ذلك فقط يكون الغياب كما هو الحضور حدثا معرفيا جللا.
رحيل الذات المفكرة ليس كأي رحيل حيث تتوقد العاطفة لزمن ثم تنطفئ فتعود الذات رقما مهملا، صحيح أن العاطفة تنتعش، لكنها لا تلغي الفضول المعرفي، من هنا فإن شعورا من التهيب والرهبة سيكتنف أي محاولة للكتابة التأبينية، كأنك أمام شموخ لا يني يتضخم ويتمدد لحظة غيابه بالذات.
رحيل محمد أركون حدث مؤلم يستحثك للكتابة، لكنك ما إن تفعل حتى يواجهك السؤال: ماذا يمكنك أن تكتب؟ وبأي شكل؟ هل على شكل عرض وقراءة منفعلة لخصائص مشروعه الفكري، أم على شكل قراءة متحايثة، قراءة فاعلة أكثر منها منفعلة؟ أيجب أن يكون انحيازا سافرا لمنجزه وفتوحاته المعرفية أم لابد أن يكون حفرا معرفيا موازيا للجهد الأركيولوجي الذي كرس له جل حياته؟ أو مجرد بيان تأبيني أو تسجيل موقف ليس بوسعه إلا أن يتعاطف ويبدي اللوعة الجديرة بحجم هذا العملاق؟ وقبل كل ذلك: ماذا فعل محمد أركون وما هي طبيعة مشروعه الفكري؟ وفرة من أسئلة تثيرها شخصية أركون فتربك الفعل الكتابي وتقوده إلى نوع من الانهزام أو الحيرة التي تعكس عجز الذات عن مواجهة الثراء الوجودي وتغطية المساحة الشاسعة لهذه الشخصية
بإزاء ذلك الانهزام ثمة انتصار معرفي أحدثه أركون ضد الدوغمائيات التي تطوق العقل العربي والإسلامي، في تزامن مع إدانته للقراءة الفاترة والتي تتراوح بين التحامل والتبجيل أو المجاملة للآخر، أي أن أركون انتصر لصالح انهدام الأصولية والاستشراق في آن معا، معركة خاضها ضد طرفين متخاصمين وشرسين، الأصولية تدفع بتأبيد الانحطاط ورهن الحاضر والمستقبل لمقولات ماضوية تنتهي بأدلوجة مشوهة للتصور الديني، فيما يوغل الاستشراق في آخريته، مكتفيا في أحسن أحواله بتحقيق فلولوجي، هذه منهجية إذا لم تكن ناتجة عن تحامل وتعتيم فإنها برأي أركون وقعت في أخطاء فادحة منهجيا.
يقترح أركون منهجا يمر بثلاث مراحل أو مستويات: الاستخدام المنهجي الفلولوجي والتاريخاني الوضعي "دراسة عمودية" وثم المنهجية التاريخية كما هي في مدرسة الحوليات الفرنسية "دراسة أفقية" قبل أن نصل إلى اللحظة الفلسفية والنقد المعرفي "الأبستمولوجي"، أو بناء المعنى بعد انهدامه، أو التركيب بعد التفكيك، ما يعني أن أركون بوصفه ظاهرة فكرية هو في الأساس مشروع منهج.
ليست المسألة تأريخا، وإنما هي تكمن تحديدا في صياغة كتابة للتاريخ بعد التأريخ، المسألة إذن هي مسألة أن تقيم منهجا معلمنا، والعلمنة التي هي في تعريف أركون ذلك الموقف الحر المفتوح للروح أمام مشكلة المعرفة، يضعه في صدام مباشر ضد التصلب الأصولي والجزم الاستشراقي، وكل النزعات الذاتوية.
كيف تعرف وكيف تقارن؟ هو ذا كل ما أراده محمد أركون، لكنه اهتم أيضا وبشكل خاص بالإسلاميات بوصفها غارقة في تبجيل يحجب ويزيف ويعمي الروح أمام استشكالها ابستمولوجيا. وفي مقاربته للفكر الإسلامي يصل إلى أن هذا الفكر الذي يرتكز على ثلاثة عناصر هي: العقل والخيال (المتخيل) والذاكرة (الثقافة)، يتسم بعدة خصائص أساسية أهمها مركزية المعطى الوحياني، أي أن الإسلام هو في الأساس حصيلة تلاقح ثقافي بين المطلق والأبستمي بمفهوم ميشيل فوكو أي نظام الفكر الذي يحكم الذات وهي في تحركها وتموجها التاريخي، كان الإسلام إذن في تفجره الأول ثورة أو حتى حداثة، لكن الإسلام أصبح إسلامات والمسلمون دخلوا في التاريخ وعجنت به تصوراتهم الدينية.
لقد أدرك صاحب "نقد العقل الإسلامي" أن تشريح النص الديني والتزام العلمية في قراءته يتصل بتموضع معرفي في عصر الحداثة بكل تحدياتها وأسئلتها، ووحده الفكر النقدي القادر على تحديد تلك التحديات وصياغة الأجوبة عليها، فهو يقر بأن الحداثة تجربة تاريخية مرتبطة «خاصة» بالغرب لكن رغم ذلك "لا يمكن لأي فكر محلي أن يتجاهل رهاناتها الفلسفية، اللهم إلا إذا أراد أن يحرم نفسه من أي تواصل إن لم يكن مع الفكر الكوني فعلى الأقل مع الفكر القابل لأن يكون كونيا"، ولكن احتكاك الذات بالحداثة أنتج انسدادا ناجما عن عطالة تاريخية، انسدادا أو عطالة لا تبدو ثمة قدرة على تجاوزها دون محاولة اختراق ما أصبح بمثابة تابو، فهناك العامل السياسي وهناك العامل الديني الذي يتجلبب به الأكليروس، كلاهما يعمل على العطالة والجمود المعرفي، كلاهما يعيق أي محاولة لإحراز القطيعة المعرفية وقتل الأب الثقافي.
كان أركون بشكل ما صداميا، لكن صداميته لم تحل دون التصاقه بالمعرفة ودون إدراكه لأهمية المعنى والمطلق في الحياة، لقد أدان العلمانوية التي تجزئ الروح وتحيل الإنسان إلى بعد أو بعدين أو امتداد لا عمق له، مما يشير إلى أن "لاهوتا ما" هو أمر لا مفر منه في مشروع محمد أركون، لكن هذا اللاهوت كما يقول شارحه الأمين هاشم صالح هو لاهوت ليبرالي، تيولوجيا متسامحة، تمنح مكانا للآخر وتذيب الفروقات، أو تهدم ما أسماه هو: العوازل التيولوجية بين الأديان، فطالما تحدث أركون عن فكرة الحقانية ودورها في تشكلات تيولوجية وأنظمة استعبادية أو إقصائية، وعلاقة ذلك بمفهوم التسامح والتعايش والقبول بالآخر وصولا لمفهوم إنسي للإنسان، وهو المفهوم الذي لا يمكن إحرازه إلا بعد إحداث قطيعة معرفية "ابستمولوجية" مع المفهوم المطلق للحقيقة المعمول به حتى الآن في الوسط الإسلامي.
تحدث أركون باستفاضة حول أشياء كثيرة تتصل كلها بالعقل الإسلامي كما هو في التراث وكما في اشتباكه مع الحداثة والفلسفة المعاصرة، تحدث عن المنهج حتى كاد يصبح مشروعه مشروع إجرائي محض، كما مارس القراءة بأحدث تقنيات التفسير والتأويل، ودعا إلى أنسنة تتجاوز البناءات التيولوجية الغارقة في نرجسية الذات، وبكلمة: لم يزل أركون يقاتل في سبيل أن تعرف، ولهذا فقد فعل الكثير وأهميته تتوزع على كل ما قاله وما لم يقله، لكن الأهمية تتضاعف لرائد الأنسنة في واقعنا المحبط بندرة المفكرين العمالقة، فالرجل صاحب مشروع، وأصحاب المشاريع الفكرية قليلون في العالم العربي، هنا تكمن الصفة الإبداعية للمفكر المفارق، أن تزحزح القناعات المتجذرة وأن تحدث اهتزازا في بناءات تضيق بالذات، ودائما وأبدا تعيد النظر وتشيد صرحا معرفيا محل الأنقاض، تلك هي المعرفة وذلك هو هاجس أركون.
أركون الذي نشأ في وضع ملتبس وبينونة عالقة بين رؤية "ورائية" وأخرى مغتربة، وهو نفسه التدافع الناجم عن تشابك الذات التراثية بذات مستلبة، نشأ في الجزائر المحتلة وتعرف على المنهجيات المعاصرة ثم مارس نشاطه الأكاديمي والمعرفي والتأليفي في جامعة السوربون، الجامعة العريقة والمعروفة بمتانتها التاريخية في التيولوجيا والعلوم الاجتماعية والدينية، ومن هذا المكان مارس بشراسة وغيرة معرفية نشاطه النقدي ضد الهيمنة الأصولية والتخلف المعرفي والتراجع الحضاري وكل الأمراض المستعصية التي يضج بها العالم الإسلامي والعربي.
رحيل أركون يأتي ليضاعف الحزن في عام كئيب بالنسبة إلى المثقفين، رحل مفكر آخر بعد كوكبة من القامات المعرفية الفذة التي حصدها الموت في عام واحد: فؤاد زكريا، محمد عابد الجابري، نصر حامد أبو زيد، محمد حسين فضل الله، الطاهر وطار، أحمد البغدادي، غازي القصيبي، وصاحب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي" الذي ترجل هو أيضا، رحيل متلاحق يحجب شموسا لم تأل جهدا في تبديد العتمة واشاعة الدفء في الجسد الحضاري والإنساني، ولكن هذا الرحيل ليس مناسبة للعزاء ولكن أيضا للنبش والحفر والتعمق أكثر في كل المشاريع التي تركوها، إنها دعوة للقراءة في أمة لا تقرأ إلا ترتيلا أو ترديدا لقصيدة رثائية غرضها أن ترثي وتقف على الأطلال.
ولكن هل قال أركون وكل الذين رحلوا كل شيء، أكان ينتظر أساسا من مفكر أن يقول كل شيء، وهل ثمة ميزة لقول منفلت من عقاله؟ ما قاله أركون كثير، وكثير هو ما لم يقله، وميزته كما يقول هايدغر تكمن في ذلك: أن تقرأ المفكر في لامفكره، بل إن المقول الحقيقي هو تحديدا ذاك الذي يغيب، أي اللامفكر فيه، وحضور المفكر قد يحد من كشف هذا الغياب، ولكن رحيله سيتيح –أو ينبغي أن يتيح- فرصة مواتية للكشف، كشف أهميته المتوارية، أو الذي لم يقله.
أركون كان غائبا في حضوره غيابا مضاعفا: غياب اللامفكر فيه وغياب المتلقي القادر على فعل القراءة "باستثناء النخبة وشريحة المثقفين" تلك هي محنة أركون وكل مثقف معرفي متثاقل بجذوره وأدواته المعرفية ومنهجياته المعاصرة، في الأنسنيات وعلم الأديان المقارن والأنثربولوجيا والسيمولوجيا وعلم النفس التاريخي وغيرها، لذلك كانت قراءته متعذرة إلا على من ألف الغوص في أعماق المعرفة ومحاذيرها واشكالاتها وهي مهمة لن تكتمل، كما يستشرف هاشم صالح، إلا في زمن أركوني سيجيء..
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=22764&I=569