المسلمون‏..‏ ونزيف الوقت

بقلم: عبده مباشر

قضت محكمة سعودية بحبس أربع فتيات وتسعة شبان لاتهامهم بارتكاب جريمة الاختلاط في حفل عام‏,‏ وعندما تبين القضاة الذين أصدروا الحكم أن إحدي الفتيات قاصر لا يجوز حبسها‏,‏ غيروا العقوبة إلي الجلد‏80‏ جلدة‏.‏

ويوم‏24‏ يونيو الماضي أي بعد نشر الحكم وإعلانه‏,‏ طرحت قناة بي ـ بي سي العربية القضية والحكم للنقاش‏,‏ واستضافت عالما من علماء الدين بالمملكة وناشطا سعوديا بلجنة حقوق الانسان‏,‏ وفي البداية سألت المذيعة عالم الدين عن النص القرآني أو الحديث النبوي الذي استند عليه القضاة لإصدار هذا الحكم‏,‏ فتخلص الرجل من الإجابة بقوله‏,‏ إن القضاة في المملكة يحكمون وفقا للشريعة الاسلامية‏,‏ وهم هنا الأعلم بالنص الذي استندوا إليه‏,‏ وسألته مرة أخري عن جلد القاصر‏80‏ جلدة‏,‏ وهل يعني ذلك أن المحكمة اعتبرتها زانية؟ فأجاب الرجل قائلا‏,‏ إن عقوبة الزانية‏100‏ جلدة‏.‏ أما الناشط السعودي فقد استنكر الحكم‏.‏ وقد انقسم الرأي حول ما جري‏,‏ فهناك من أيده بقوة‏.‏ وهناك من أعاد إلي ذاكرة الناس ما أقدم عليه الملك عبدالله عن بن عبدالعزيز من السماح بالاختلاط في الأكاديمية التكنولوجية الجديدة التي تم الإعلان عنها‏,‏ وهذا التوجه الذي يقوده الملك يعد خطوة علي طريق التطور الاجتماعي‏.‏ مثل هذه الخطوة سبقتها خطوات قادها الملوك وفي مقدمتهم فيصل بن عبدالعزيز الذي خاض معركتين رئيسيتين‏,‏ الأولي من أجل تعليم البنات والثانية بسبب التليفزيون‏.‏ وقد فاز في صدامه مع أغلبية العلماء خاصة جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلتا المعركتين‏.‏ انتصر فيصل علي القوي المحافظة والمتشددة‏,‏ وبفضله انتشر تعليم البنات‏,‏ وبدأ البث التليفزيوني في المملكة‏,‏ أي أن التطور جاء علي حساب القوي المحافظة وبعد صدام معها‏.‏ والآن تدور معركة الاختلاط‏,‏ وما الحكم القضائي إلا خطوة في هذه المعركة‏,‏ ولكن ما جري خلال العقود الخمسة الماضية يشير إلي انتصار التطور وتراجع القوي المحافظة‏.‏ ومثل هذا الصدام يجري بصورة دائمة في العالم الإسلامي‏,‏ فالقوي التي ترفض التغيير وتتمسك بما هو موجود وترفع صوتها بالتحريم بشكل دائم في مواجهة أي تطور أو تقدم تعمل بلا كلل لعرقلة كل محاولات التغيير للأفضل‏.‏ وهذه القوي المعادية للتطور تضم التيار السياسي الإسلامي بكل فرقه وجماعاته ومنظماته ومجموعات علماء الدين المحافظين والمتشددين‏,‏ ومنذ بداية القرن الماضي تعددت المواجهات‏,‏ ومع كل خطوة إلي الأمام‏,‏ يخسر العالم الاسلامي كثيرا من الوقت والموارد ويفقد فرصا متاحة للانطلاق واللحاق بالعصر‏.‏ وإذا ما توقفنا مع الجماعات والمنظمات الارهابية‏,‏ وما نفذته من عمليات دموية‏,‏ فسنتبين أن الدماء التي سالت أنهارا ونزيف الموارد المادية أدي إلي زعزعة الاستقرار وأصاب التنمية الاقتصادية بالشلل في عدد كبير من الدول العربية والاسلامية‏,‏ خاصة مصر‏.‏ وهذه القوي استخدمت أساليب كثيرة للمقاومة والعرقلة وضرب قوي التطور والتقدم منها‏:‏

ـ إصدار فتاوي التحريم‏,‏ ولديهم حديث البدعة فكل مستحدثة بدعة‏,‏ وكل بدعة ضلالة‏,‏ وكل ضلالة في النار ولديهم رصيد يمكن استخدامه في كل حالة‏.‏
ـ اتهام الآخرين بالكفر والخروج علي صحيح الدين وإباحة دمائهم في كثير من الاحيان‏,‏ ـ الإرهاب‏,‏ لردع الآخرين وإصابتهم بالشلل‏.‏ وسنستعيد معا بعض ما حرموه‏.‏ فبعد انتشار استخدام صنابير المياه في الخارج‏,‏ بدأت محاولات الاستفادة منه‏,‏ فهبت جموع من رجال الدين والعلماء للقول بأنها حرام لمخالفتها للسنة عند الوضوء‏,‏ فالسنة أخذ المياه من وعاء‏,‏ وفي مصر تم عرض الأمر علي فقهاء المذاهب الأربعة‏,‏ فرفض شيوخ المذاهب المالكية والحنبلية والشافعية استخدام الصنبور لأنه حرام‏,‏ وأجازها شيوخ المذهب الحنفي وإن قالوا باستخدام الصنبور لملء أوعية‏,‏ ثم الوضوء من هذه الأوعية‏,‏ وكان هذا المخرج هو الباب الذي سمح بانتشار استخدام صنبور المياه وما دخل عليه من تطور بعد ذلك‏.‏ ولهذا أطلق الناس علي الصنبور الحنفية نسبة إلي المذهب الحنفي ويمكن القول إنهم أفتوا بتحريم كل شيء في بداياته التعليم المدني بصفة عامة‏,‏ حيث قال معظمهم ان التعليم الحق‏,‏ هو تعليم وتعلم القرآن‏,‏ فالكتاب فيه علم ما قبلنا وبعدنا‏,‏ وما فرطنا في الكتاب من شيء‏,‏ ثم حرموا تعليم البنات‏,‏ ومازالت هناك قوي دينية ترفض تعليم البنات حتي الآن‏.‏ كما حرموا الاذاعة والتليفزيون‏,‏ وقالوا إن الشيطان هو الذي يتحدث‏,‏ وإن ذلك من أعمال الشيطان وحرموا الموسيقي والغناء والرسم والنحت والسينما والمسرح‏,‏ وأكد الجميع ومن بينهم المعتدلون أن ذلك كله بدعة وكل بدعة ضلالة‏.‏ وامتد هذا التحريم ليشمل الدراجات والقطارات والسيارات والطائرات وغيرها من وسائل النقل فيما عدا الخيل والبغال والحمير والجمال‏.‏ لقد وقفوا بقوة ومعهم سلاح التحريم‏,‏ والفتاوي لمخاطبة شارع شديد الحساسية تجاه كل ما هو إسلامي‏.‏ وتصدوا لحركة التطور وأعلنوا العداء للحضارة الغربية وكل ما يصدر عنها‏,‏ ووصفوها بالكفر‏,‏ كما كفروا أصحاب الديانات الاخري‏,‏ وفي نفس الوقت اتهموا بعضهم بعضا بالكفر‏,‏ فكل جماعة تري أنها الوحيدة التي تقف الي جانب صحيح الدين‏..‏ وكل هذا‏,‏ عرقل قطار التطور والتقدم ولكن لم يوقفه‏.‏ نعم ضاع وقت كثير‏,‏ إلا أن النتيجة كانت محسومة حتي من قبل أن تبدأ المواجهة‏.‏ هذا التيار المتشدد المنغلق الذي توقف عند الامس وفقد القدرة علي رؤية اليوم والغد‏,‏ وعجز عن قراءة حركة التاريخ‏,‏ لم يستفد من تجربة الصدام بين كنيسة روما وحركة النهضة الاوروبية بكل ارهاصاتها وتياراتها العفية التي كانت تشق طريقها بقوة نحو المستقبل‏.‏

ولو استعادوا هذه الصفحة من التاريخ لجنبوا دول العالم الاسلامي هذا النزيف في الوقت والمال والبشر‏.‏ ودفعهم تطلعهم للسلطة الي الوقوع في اخطاء فادحة‏,‏ فقد أفتي بعض شيوخهم بالقتل والسرقة‏,‏ أي أهدروا دماء الآمنين والمستأمنين من المواطنين والسائحين‏,‏ وبفتوي الاستحلال ارتكبوا المئات من جرائم السرقة لتوفير بعض الموارد‏,‏ فعلوا ذلك وهم يعلمون علم اليقين أن دماء الناس حرام وأموالهم حرام‏,‏ أي خرجوا عمدا علي صحيح الدين ونصوصه القاطعة‏,‏ ولم يتوقفوا عند ذلك بل أعلنوا أن الديمقراطية كفر وخروج علي الملة‏,‏ والدولة المدنية كفر بواح والعلمانية نقيض الدين‏.‏ ومن المعروف أن كل هذه القوي لا تقبل بالنقاش أو الحوار‏,‏ وتفرض علي أعضائها السمع والطاعة‏,‏ وهنا ينتفي اي حديث عن الديمقراطية أو حرية الاختيار‏.‏

نقلاً عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع