عماد توماس
بقلم :عماد توماس
عندما نقول "المسيحيون العرب" فنقصد به المسيحيون الذين يدينون بالمسيحية ويتحدثون اللغة العربية، فاللغة العربية كانت قبل الإسلام يتحدث بها المسيحيون ويصلون بها.
ونقصد بالشرق الأوسط هو الموقع الجغرافي الذي يشمل الدول العربية بالإضافة إلى إيران وتركيا وإسرائيل (وهما دول غير عربية وبهم بعض المسيحيين) فالمسيحية هي بنت الشرق، انطلقت من فلسطين من خلال السيد المسيح وبشر بها تلاميذه ورسله باتجاه الشرق والغرب من إيران في "الإمبراطورية الفارسية"، وانتشرت بعدها باتجاه الهند وآسيا عامة.
يصل تعداد المسيحيين العرب في الشرق الأوسط ما يقرب من 20 مليون، أكثرهم في مصر عددا، ونسبة في لبنان، ومن ضمن المسائل التي طرحت للنقاش في سينودس (مجمع) الأساقفة الكاثوليك في الفاتيكان في الفترة من 10 إلى 24 أكتوبر من الشهر الماضي، تناقص مسيحيو الشرق الأوسط ومصيرهم، ولأول مرة تعتمد اللغة العربية كلغة رسمية في أعمال المجمع بعد قرون طويلة من انفراد اللغة اللاتينية.
معاناة المسيحيين العرب
ولعل المتابعين والباحثين يلاحظون أن المسيحية شبه انقرضت في شمال إفريقيا، فالجزائر التي أنجبت لنا القديس الفيلسوف اغسطينوس في القرن الرابع الميلادي صاحب أشهر الكتب "الاعترافات"، و"مدينة الله" والذي أصبح أسقفا لمدينة هيبون التي تدعى عنابه اليوم ، ثم عاش اغسطينوس في تونس الخضراء عدة سنوات، الآن وبعد مرور 17 قرن انقرض المسيحيون في شمال إفريقيا بفعل عوامل متعددة.
وفى لبنان يعانى المسيحيون من خطر الهجرة والتهجير نتيجة الحروب والمشاحنات الطائفية، ويعانى مسيحيو العراق اشد المعاناة رغم أنهم ليسو في صراع على السلطة ولكن كونهم مسيحيون وهو ما أدى إلى حالة من التهجير القسرى لهم وشتاتهم في عدة دول أوربية وعربية.
وفى فلسطين يتراوح عدد المسيحيين- بحسب دراسة للدكتور برنارد سابيلا، أستاذ في جامعة بيت لحم ونائب القدس في المجلس التشريعي الفلسطيني- حوالي خمسون ألف مسيحي فلسطيني - من ضمن ستمائة ألف فلسطيني مسيحي يتوزعون في العالم من جذور محلية يتكلمون اللغة العربية- موزعين بين الضفة الغربية التي يقطنها سبعة وأربعون ألفاً وقطاع غزة الذي يقطنه ثلاثة آلاف مسيحي فلسطيني. أي أن المسيحيين في فلسطين لا تتجاوز نسبتهم 1,25% من جميع الفلسطينيين والذين يقدر عددهم بأربعة ملايين نسمة في العام 2009 في الأراضي الفلسطينية.
وفى العراق، يعانى المسيحيون من حالات من التهجير القسرى، فاخر المذابح ضد المسيحيين استهدفت كاتدرائية السريان الكاثوليك في بغداد، وأودت بحياة 53 شخصا غالبيتهم الساحقة من المسيحيين.وهو الهجوم الذي تبنته ما يسمى بدولة العراق الإسلامية ضد كنيسة "سيدة النجاة " خلال إقامة القداس.
ورغم كل ما حدث ويحدث لمسيحيو العراق، نجد تصريحا وطنيًا منشورا بجريدة "الشرق الأوسط" قال فيه الكاردينال مارعمانوئيل دلي، رئيس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق "إن الأعمال الإرهابية لن تنجح في إبعاد المسيحيين عن وطنهم، ومن واجبنا العمل في وطننا والتمسك به والمساهمة في بنائه وإعماره جنبا إلى جنب مع بقية أبناء الشعب العراقي"
وفى إيران بحسب ما نقلت جريدة "اليوم السابع" عن مجلة " فورين بوليسى" الأمريكية، يتم القبض على رجال الدين بالكنائس الأرمينية والبروتستانتية والكاثوليكية إذ يتم خطفهم وتعذيبهم أو حتى إعدامهم، على مدى العقود الثلاثة الماضية. ويصل عدد مسيحيو إيران حوالي 1% من عدد السكان.
وفى تركيا، تحولت معظم الكنائس إلى متاحف، يذهب السائحون لزيارتها، رغم أن تركيا لها نصيب كبير من التراث المسيحي الذي تركه الرسول بولس أثناء رحلاته الكرازية هناك. وكان المسيحيون يشكلون حوالي 20% من اجمالى عدد السكان في بداية القرن العشرين، والآن اقل من نصف في المائة. بفعل التطهير العرقي الذي حدث للأرمن ومقتل الآلاف منهم –البعض يشير إلى أكثر من مليون- على أيدى العثمانيون حتى أن بعض المؤرخين يصفون مذبحة الأرمن بأنها ثاني أكبر مذبحة بعد الهولوكست.
وفى مصر يعانى المسيحيون من التمييز الديني الذي جعل العديد من المسيحيين يشعرون بالغربة في وطنهم، أو نتيجة للتردي الاقتصادي فتزداد معدلات الهجرة وتقديم طلبات الهجرة العشوائية للولايات المتحدة الأمريكية عبر مواقع الانترنت والوقوف على أبواب السفارات الأجنبية طمحا في الحصول على تأشيرة سفر أو هجرة، ولعله ليس غريبا أن نعرف أن مصر كانت واحدة من البلدان التي حصل فيها مواطنيها على أكبر عدد من تأشيرات الهجرة المتنوعة في السنوات الأخيرة. حتى اننى فقدت العديد من الأصدقاء المسيحيين نتيجة هجرتهم في السنوات الأخيرة، ولا يمر يوما واحدا إلا واسمع دعوات وأمنيات متعددة نحو الهجرة إلى الخارج من كافة الأعمار والوظائف.
إسهامات المسيحيين العرب
وحتى لا تكون الصورة أُكثر سوداوية، فلعله من المناسب أن نؤكد بإيجاز في هذا المقال على إسهامات المسيحيين العرب في الحضارة العربية والتأثير المسيحي على اللغة العربية ، فالمعلم بطرس البستاني، هو أول من ابتدأ بمشروع دائرة معارف باللغة العربية ويعتبر واحداً من أكبر زعماء النهضة العربية الحديثة. وكان له فضل كبير على ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية وبالتالي انتشار المسيحية في الشرق الأوسط، وهو أيضا صاحب الشعار الخالد " الدين لله والوطن للجميع" الذي وضعه على رأس الجريدة التي أسسها عام 1860 تحت عنوان: "نفير سوريا". ثم اخذ هذه العبارة الزعيم الوطني سعد زغلول كشعار لحزب الوفد.
كما أن عمالقة حركة الترجمة كانوا فلاسفة ومفكرين مسيحيين ويعتبروا دوماً من أعظم من عرفهم التاريخ العربي، أمثال "قسطا بن لوقا"، و "يحيي بن عدي"، و "تيموثاوس الأول"، و "أبي فرج بن الطيب" .
ولا يمكن أن ننسى "حنين بن إسحاق"، العالم السرياني الذي كان يتقن ثلاث لغات إلي جانب السريانية: "الفارسية، واليونانية، والعربية" وهو العالم الذي برع في دار الحكمة التي أسسها الخليفة العباسي المأمون واهتمت بنقل التراث الفلسفي غير العربي إلي اللغة العربية
ويبدو السؤال هنا فرغم أن الشرق هو مهد المسيحية فلماذا انتشرت المسيحية في الغرب وتكاد تندثر في الشرق؟ ولماذا استمرت المسيحية في مصر بأكبر كثافة مسيحية في الشرق الأوسط –حوالي 12 مليون مسيحي بمصر- وتكاد تندثر في شمال إفريقيا ؟
نرى أن : منذ دخول الإسلام مصر، بدأ المسيحيون المصريون يشعرون بتحديات عديدة، نتيجة للثقافة الجديدة الوافدة، فالقرينة الجديدة التي عاشوا فيها دفعتهم لصياغة إيمانهم بتعبيرات لغوية بمفردات جديدة، مع حفاظهم علي أسس إيمانهم. وتأقلم المسيحيون العرب مع اللغة العربية وصارت وسيلة الاتصال والتواصل بينهم. مما ساعد على استمرار المسيحية في مصر.- وهو نفس السبب الذي جعل الحضور المسيحي اقل في شمال إفريقيا- والعبء الأكبر الذي يهدد الحضور المسيحي في الشرق الأوسط الآن، هو تصاعد التيارات الأصولية الدينية الذي يحول بين استمرارية هذا الحضور ويهدد التواجد المسيحي سواء في مصر أو في الشرق الأوسط.
الحضور المسيحي في الشرق الأوسط
من اجل كل ما سبق فلعله من المناسب أن نتحدث هنا في أربع نقاط مختصره عن أهمية التواجد والحضور المسيحي في الشرق الأوسط للأسباب التالية:
أولا: الحضور المسيحي ضرورة وطنية
بئس هذا الوطن الذي يضيق ذرعا باحتواء مجموعة من البشر يختلفون عن الأغلبية سواء في العرق أو الدين أو الجنس، وعار على هذا الوطن الذي لا يحتمل أن يسمع رنين جرس كنيسة في صباح الأحد. وطالما عاش المسيحيون في الشرق الأوسط وخاصة في مصر مع إخوانهم المسلمين في حروبهم الوطنية دفاعا على الأرض والمصير، فهل نحتاج أن نذكر بما حدث في ثورة 1919 أو حرب أكتوبر 1973عندما لقن المصريون إسرائيل درسا لن ولم ينسوه حتى الآن. فمصر لكل المصريين من أي أصل ودين، وطنا واحدا لشعب واحد، وليست "عزبة" لحفنة من البشر.
ثانيا: الحضور المسيحي ضرورة إنسانية
لا يمكن للإنسان أن يعيش بمعزل عن أخيه الإنسان، الإنسانية تجمع البشر أينما وجدوا، والكرامة الإنسانية دافع لكي نقبل بعضنا البعض ، وروعة الإنسانية أن تقبل الآخر المختلف دينيا أو عقائديا، فقيمة الإنسان أن يحترم ويتعايش من الآخر المختلف، فروعة البستان في تنوع زهوره، وقوة الفريق الواحد في تعدد أفراده.والعلاقات الإنسانية بين أبناء الوطن الواحد يجب أن يحكمها العدل والمساواة، فلا تمييز لإنسان عن آخر.
ثالثا: الحضور المسيحي ضرورة سياسية
قل لي ماذا تتوقع لو انقرض المسيحيون العرب من فلسطين؟ ماذا تتوقع أن يكون مصير الصراع العربي-الاسرائيلى ؟ أيهما أفضل أن يناضل المسلمون وحدهم ضد الانتهاكات الإسرائيلية أم يقف معهم جيرانهم المسيحيون؟ وماذا عن تهجير مسيحيو العراق؟ هل تتوقع تعاطفا غربيا مع العراق في حال إخلاؤه من المسيحيين بفعل الاضطهاد الحادث لهم؟
رابعًا: الحضور المسيحي ضرورة إسلامية
أعجبني ما قاله الدكتور محمد السماك -رئيس اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي-المسيحي في لبنان ، أمام آباء السينودس أن "الوجود المسيحي في الشرق الذي يعمل ويتفاعل مع المسلمين، ضرورة مسيحية وإسلامية على السواء. وهو حاجة ليس فقط للشرق بل أيضا للعالم اجمع"، مشيرا إلى "خطر تآكله".
فقل لي لو افترضنا أن الشرق الأوسط تم إخلاءه من المسيحيون ماذا يقول الغرب عن المسلمين وعن الإسلام؟ هل نراه متجنيا إذا قال أن الإسلام لا يؤمن بالآخر أو لا يقبل التعايش المشترك؟
وهل سنحزن إذا اتهم الغرب المسلمين بأنهم شعوبا لا تقبل شريكا في الوطن؟
المسيحيون العرب هم صمام أمان للشرق الأوسط، وغيابهم عن المشهد الشرق أوسطى سيؤدى إلى مزيد من حالات الاحتقان الطائفي في المنطقة وسينتقل هذه المرة ليتحول بين السنة والشيعة وربما ينتقل الصراع والاحتقان إلى الدول الأوربية التي بها مهاجرون من المسلمين العرب كرد فعل من جانب المسيحيون!!
خلاصة القول : أصبحت العلاقات المسيحية –الإسلامية، في حاجة ملحة إلى الاحترام المتبادل بعيدا عن التخوين والتكفير، وتفعيل حقوق المواطنة، وإرادة سياسية حاسمة، بعيدا عن الشعارات الرنانة والأحضان الكاذبة والقبلات المزيفة.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=25025&I=619