د. عبد الخالق حسين
بقلم: د. عبدالخالق حسين
نشرت وسائل الإعلام يوم 15/5/2009، تصريحاً صحفياً للسيد رئيس الوزراء العراقي، الأستاذ نوري المالكي، جاء فيه أنه «يؤيد مبدأ الديمقراطية الذي يمنح الأكثرية الانتخابية حق تشكيل الحكومة، وان مصطلح الديمقراطية التوافقية غريب على الديمقراطية ومتناقض معها ويحمل في طياته مشاكل عانى منها العراق والحكومة الحالية»، موضحا أن «النظام الرئاسي هو أفضل من البرلماني، إذا كان الأخير وفق الاستحقاق الانتخابي، أي عن طريق الانتخاب المباشر من قبل الشعب». («الشرق الأوسط»، 15/5/2009).
بدءً، أود التأكيد على أني أكن للسيد المالكي كل الاحترام والتقدير وذلك لما عرف به من نزاهة، وقيامه بأخطر مسؤولية في أخطر بلد يمر في أخطر مرحلة تاريخية عاصفة من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو يقود السفينة العراقية في بحر متلاطم يعج بالكواسج المفترسة. ولكني أعتقد أنه في هذه المرة قد جانب الصواب في تصريحاته الأخيرة التي نحن بصددها، وخاصة في قوله أن«النظام الرئاسي هو أفضل من البرلماني ..الخ»
ولست متأكداً بالضبط مما يقصده السيد المالكي بالنظام الرئاسي، فهل يقصد النظام الذي يمنح الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية التنفيذي، مثل النظامين، الأمريكي والفرنسي، حيث يُنتَخَب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة، ويتمتع بصلاحيات واسعة بما فيها حق نقض قرارات البرلمان في أحوال خاصة؟ أو هل يقصد إلغاء البرلمان بالمرة، أو إبقائه مع تحديد صلاحياته، وبالتالي إلغاء دوره في تعيين الحكومة ومحاسبتها؟ وإذا كان هذا قصده، ففي رأيي ورأيي معظم المؤمنين بالديمقراطية، فإنه لم يكن موفقاً في هذه التصريحات، وسأبين الأسباب لاحقاً.
أما قوله: «... وان مصطلح الديمقراطية التوافقية غريب على الديمقراطية ومتناقض معها ويحمل في طياته مشاكل عانى منها العراق والحكومة الحالية»، فهو الآخر غير موفق، لأن الديمقراطية غير التوافقية، التي يقصدها السيد المالكي، لن تتحقق إلا في مجتمعات الديمقراطية الناضجة مثل الديمقراطيات الغربية، أما الديمقراطية العراقية فهي ناشئة و مازالت تحتاج إلى العناية المركزة، والانتقال بها تدريجياً نحو الأفضل، وذلك بعد أن يتصلب عودها ويتعود عليها الشعب فتصبح جزءً من ثقافته وتقاليده وأعرافه، ويحترم نتائجها برحابة صدر، تماماً كما حصل في الغرب. فبعد كل هذه المراحل من حكم الاستبداد والحروب والقهر والمظالم، التي تعرض لها الشعب العراقي، لا يمكن القفز من مرحلة حكم البعث الاستبدادي الدموي إلى الديمقراطية الناضجة بين عشية وضحاها. إذ كما بينا في مقال سابق قبل سنوات، بعنوان (الديمقراطية لا تولد كاملة ولن تكتمل)، قلنا فيه أن الديمقراطية هي صيرورة مستمرة دون توقف، تبدأ ببعض الحقوق ثم تزداد وتنمو هذه الحقوق مع تطور الشعب، ومع توسع الحقوق الديمقراطية وتطور الشعب، يضمحل دول الحكومة لصالح المجتمع في إدارة معظم شؤونه عن طريق مؤسسات المجتمع المدني، وهذا هدف بعيد في الوقت الحاضر بالنسبة للعراق.
لذا فإيعاز المشاكل التي يعاني منها الشعب منذ سقوط الفاشية، إلى الديمقراطية التوافقية هو الآخر غير صحيح. كما، لا أتفق مع بعض الزملاء الكتاب الذين يحاولون تعليق ما يسمونه بـ"المحاصصة الطائفية والعرقية" على شماعة الحاكم المدني لقوات التحالف، بول بريمر. فهذه المشاكل بما فيها المحاصصة الطائفية والعراقية، لها أسبابها الموضوعية، ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتعقيدات مكونات الشعب العراقي، وكانت بهذا الشكل في جميع مؤتمرات المعارضة قبل إسقاط الفاشية البعثية. لذا فالتوافقية أو المحاصصة، هي نتاج وليست السبب لهذه المشاكل المزمنة، فرضتها خصوصيات الشعب العراقي التي تتمثل بتعددية مكوناته القومية والدينية والمذهبية، وما عانته هذه المكونات من سياسات العسف والقمع والمظالم التي مارستها الحكومات المستبدة المتعاقبة عبر عقود إن لم نقل قرون، وخوف هذه المكونات من عودة الديكتاتورية بأشكال أخرى بعد كل تلك المعاناة، وتمسك بحقوقها الوطنية في دورها في صنع القرار السياسي وحكم البلاد.
فالديمقراطية لا تعني فقط الانتخابات وحكم الأكثرية كما يتصور البعض، بل وبالإضافة إلى ذلك، تعني حماية حقوق الأقلية من ديكتاتورية الأكثرية، أو ما يسمى بدكتاتورية منتخبة. لذلك وضع مشرعو الدستور آلية التوافقية في المرحلة الراهنة كحصانة لمنع هذه الدكتاتورية المنتخبة.
والجدير بالذكر أن الديمقراطية التوافقية مطبقة بعدالة ونجاح في لبنان لظروفه المشابهة لظروف العراق من حيث الانقسامات العميقة في مكونات الشعبين. ولم نسمع أحداً ينتقد النظام اللبناني، بل اعتبروه سويسرا العرب.
والعلة التي تعاني منها الديمقراطية العراقية في الوقت الحاضر هي ليست لكونها توافقية أو محاصصة كما يسميها البعض، بل العلة في كون معظم الأحزاب الفاعلة على الساحة هي أحزاب دينية، وبالتالي طائفية. وحتى هذه الحقيقة رغم مرارتها، هي الأخرى نتاج الظروف الموضوعية التي مر بها العراق بسبب سياسات التمييز الطائفي والعرقي، التي مارستها الحكومات المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921. لذلك لا يمكن القفز عليها، بل يجب التعايش معها في هذه المرحلة الصعبة التي تتطلب الكثير من الصبر والحكمة والنقد البناء، فهي مؤقتة وعابرة مهما بدت للبعض أنها باقية إلى الأبد!! وفي نفس الوقت يجب علينا محاسبتها ونقدها ولكن بعقلانية والشعور بالمسؤولية العالية، وليس بالشتائم والتخوين والتحقير، لأن هذا الأسلوب فاشل، ويؤدي بالتالي إلى المزيد من التخندق والاستقطاب والإصرار والعناد والمكابرة.
كما ويعتقد البعض من الذين يشتمون الحكومة الحالية بأنها ضعيفة وفاسدة وخائنة وعميلة، وإنها هي المسؤولة عن جميع المشاكل التي يواجهها الشعب ...إلى آخره من قائمة الاتهامات الجاهزة. إذ يعتقد هؤلاء سامحهم الله، أنه لو هم كانوا في السلطة وحكموا البلاد، لجنبوا الشعب من جميع هذه المشاكل، وقفزوا به بين يوم وليلة إلى مصاف الدول الديمقراطية الراقية. أعتقد أنهم على خطأ، فهذه الادعاءات والمزايدات لا تكلفهم شيئاً، وما أسهل إطلاق الكلام من بعيد، ولكن في نفس الوقت، ما أصعب ترجمته إلى عمل جدي على أرض الواقع. فكما بينت أعلاه، أن هذه المشاكل هي نتاج الوقع العراقي القاسي عبر قرون ولا يمكن حلها بمجرد التمنيات وإطلاق الكلام على عواهنه، إذ لا يمكن تغيير الواقع بمجرد التمنيات والأفكار الرغبوية والطوباوية. كذلك يجب أن لا ننسى أن الحكومة العراقية بتشكيلتها الحالية هي حكومة إئتلافية تمثل جميع مكونات الشعب العراقي، ومنتخبة ديمقراطياً، وملتزمة بحكم الدستور، ولا يمكنها اتخاذ وتنفيذ أي قرار إلا بموافقة البرلمان. وهذا يعني أن الحكم في النظام الديمقراطي أصعب بكثير من الحكم في النظام الديكتاتوري، لأن الأول يعتمد على الإقناع وموافقة الأكثرية، بينما الثاني يعتمد على القوة الغاشمة في فرض إرادة الحاكم على المجموع.
وعليه فإن الديمقراطية الناضجة التي ينشدها الأستاذ المالكي لم يحن وقتها بعد في العراق، لأنه لا يمكن حرق المراحل، فالقفز يؤدي إلى السقوط، وكل شيء لا يمكن تحقيقه إلا في وقته المناسب.
ومن نافلة القول، أنه لا ديمقراطية بدون أحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني، وحرية التعبير والمعتقد، كما لا ديمقراطية بدون برلمان. فالبرلمان يمثل الشعب بجميع مكوناته، وهو أسلم أفضل مرجعية لتشكيل الحكومة الديمقراطية ومحاسبتها وسن القوانين.
وسبب آخر لاعتراضي على مقولة «النظام الرئاسي هو أفضل من البرلماني» هو، ولنكون صريحين وبعيدين عن النفاق والتزلف والمداهنة، أن المجتمع العراقي، وكما نعرف من تاريخه الدموي، يتمتع بإمكانيات واسعة في صنع الدكتاتوريين، وذلك لوجود شريحة واسعة من المتزلفين والمداهنين للحكام ويحولونهم تدريجياً إلى حكام مستبدين، الأمر الذي يهدد بعودة الديكتاتورية. لذلك، فرغم المشاكل والصراعات والتكتلات التي تنتج عن النظام البرلماني الديمقراطي، فإنه يبقى الأفضل، وهذه المشاكل هي أخف وطأة وأقل خطراً من نظام يمهد لعودة الديكتاتورية. إذ كما قال ونستون تشرتشل: "الحكومة الديمقراطية هي ليست الحكومة المثالية، ولكن المشكلة أنه لحد الآن لا توجد حكومة أفضل من الحكومة الديمقراطية".
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=2953&I=80