الحضارة بين الخبرة الدينية والخبرة العلمية‏!‏

بقلم : د‏.‏ الأنبا يوحنا قلته

لا ينبغي الظن بأن هناك حضارة دينية خالصة وأن هناك حضارة علمية مادية خالصة‏,‏ وفي مسيرة البشرية أحصي المؤرخ الإنجليزي ارنولد تويني ثلاثين حضارة‏,‏ بادت‏,‏ وتناسلت‏,‏ فالحضارة كما أشار ابن خلدون‏,‏ شأنها شأن الإنسان تولد‏,‏ وتكبر‏,‏ وتشيخ ثم تمضي‏,‏ هذا قانون التاريخ والتطور والتقدم‏,‏ ولا تهبط حضارة من فراغ‏,‏ بل تنشأ مستمدة عناصرها من الحضارات السابقة‏,‏ كما ينبغي أن ندرك أن الحضارة ثمرة العقول البشرية في كل زمان‏,‏ ومكان‏,‏ أنها من صنع الإنسان الذي وهب العقل دون غيره من المخلوقات‏,‏ كما وهب طاقة استعادة الماضي والذكريات وقوة التأمل‏,‏ والاستنباط وفي أعماقه أبعاد ثلاثة‏:‏ ديني‏,‏ وعقلي‏,‏ وفني‏,‏ ولا نستطيع أن نفرق بينها‏,‏ فالشخص البشري‏,‏ وحدة متجانسة تملك هذه المحبات ولا نملك إلا القول سبحان الله الخالق المبدع‏.‏

ولم تأت حضارة دينية صرف‏,‏ أو مادية صرف‏,‏ لأن الإنسان ليس ملاكا‏,‏ وليس حيوانا‏,‏ فيه الطاقات الدينية التي تبحث عن مصدره وغاية وجوده‏,‏ وفي الطاقة العلمية التي تسعي لفك الغاز الطبيعة والكشف عن قوانينها وأسرارها فمن العبث والهراء القول بأن هذه حضارة دينية‏,‏ أو القول حتي بالنسبة لحضارة عصرنا أنها حضارة مادية‏,‏ واللهث وراء المتعة‏,‏ فهذا يتناقض مع حقيقة الإنسان الذي هو نسيج من الروح والجسد‏,‏ وكل ما في أعماله وحياته هو خليط بين نزعة الروح والإيمان ونزعة الغرائز والنهم لها‏,‏ بل ليس في الكون مادة ليس لها معني غير مادي‏.‏

عالمنا اليوم مزدحم بأزمات خانقة‏,‏ رؤي المستقبل متشابكة‏,‏ معقدة‏,‏ فيها ما يدعو إلي الأمل بأن البشرية تخطو نحو مستقبل أكثر تضامنا وتقدما ورقيا‏,‏ وفيها ما يدعو للخوف والرعب‏,‏ ولقد أصبح التقدم العلمي أحد مصادر هذا الرعب الذي يلفها‏,‏ كما يعاني المجتمع الإنساني من انقسام وصراع ايديولوجي أو ديني أو اقتصادي‏,‏ إن البشرية في حاجة إلي شيء ما‏,‏ فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان‏,‏ وليس بالعلم وحده‏,‏ وإذا تحول العلم إلي عقيدة دينية فهو الانتحار بعينه‏,‏ فالعلم وحده لا يشبع الإنسان أنه يغير وجه الحياة لكن لا يغير جوهر الإنسان‏.‏ ليست الأزمات أمرا جديدا في مسيرة البشرية‏,‏ ففي كل مراحل التطور والتقدم تتعرض إلي هزات تحدث تغيرات جذرية في حضارتها وفي العلاقة بين الشعوب‏,‏ والنظرة إلي الإنسان‏,‏ والحياة‏,‏ كما تبلورت الرؤي الدينية رغم ثوابتها‏,‏ وأضحت أكثر انفتاحا علي الإنسانية وبدت أكثر رحابة وتفهما‏,‏ تتطور الحضارات‏,‏ وتتلاقي الأديان‏,‏ وتبقي الثوابت التي نتفق حولها جميعا‏:‏ الإنسان والحياة والطبيعة وبناء المستقبل هذه الثوابت في كل الأديان والحضارات‏,‏ ويبقي الإنسان هو نقطة الانطلاق لكل تقدم‏,‏ والحياة هي الحقل الذي نزرع فيه الحضارة‏,‏ والمستقبل هو الهدف لطموح العلم‏,‏ واجتهاد وسعي الشعوب‏.‏ في المسيرة البشرية‏,‏ خبرتان أساسيتان‏,‏ الخبرة العلمية‏,‏ والخبرة الدينية‏,‏ أما الخبرة العلمية فقد أكدت لنا‏,‏ أنه لا يوجد فراغ في الكون والوجود‏,‏ كما لا يوجد شيء اسمه العدم‏,‏ أو المصادفة‏,‏ إنها قوانين صارمة أزلية‏,‏ ليس فيها فوضي أو عبث‏,‏ كما أننا تعلمنا أن الإنسان بحاجة إلي الفهم بقدر حاجته للطعام والشراب‏,‏ وكلما تقدمنا في مجال العلوم‏,‏ اكتشفنا مزيدا من جهلنا‏,‏ فمنذ القرن السادس عشر مع كوبرنيك وبخاصة في القرن السابع عشر مع كيبلر‏,‏ ونيوتن‏,‏ ومع جاليليو سقطت الفكرة التي سادت منذ أرسطو بأن الأرض هي مركز الكون واتضح أنها كحبة رمل علي شاطئ محيط لا نهائي‏,‏ كما نزل الإنسان من عرشه كمركز للخليقة‏,‏ ورأي فيه العلماء منذ لامارك ثم داروين بنظرية التطور كائنا في حلقة الكائنات لا يسودها إلا بالعقل وبالعلم وتجاهلوا الخبرة الروحية‏.‏ وعجز العلم أمام أسئلة كثيرة‏,‏ إنه يكشف لنا كيف تسير القوانين الطبيعية‏,‏ كيف يولد طفل‏,‏ وتثمر شجرة‏,‏ لكنه لا يدري لماذا يولد الطفل؟ ولماذا تثمر الشجرة؟ وتساءل علماء هل من نهاية للمكتشفات العلمية؟ إن العلم
عاجز عن برمجة حياة الإنسان وبرمجة شخصه‏,‏ يمده بطاقات رائعة‏,‏ غيرت وجه الحياة‏,‏ ولكنه في الوقت ذاته‏,‏ أضحي العلم مرعبا وخطرا علي المستقبل بما يحمله من وسائل التدمير ومن جرأة في العبث بجسد الإنسان‏.‏

بجانب التجارب العلمية المتصلة‏,‏ للبشرية خبرة دينية وروحية‏,‏ تنير لها الطريق وقد تجيب عن الأسئلة الصعبة‏,‏ فالخبرة الروحية وحدها هي الطريق بين الأيدي والزمني‏,‏ بين المطلق والمحدود‏,‏ وهي وحدها تقود إلي حياة إنسانية أكثر عمقا واتزانا‏.‏ وكما أن للعلوم جانبها السلبي المرعب‏,‏ فللخيرة الدينية أيضا جانبها السلبي المخيف‏,‏ وينبغي أن نعترف بأن الفكر الديني ـ بوجه عام ـ لم يكن عميقا كما نتخيل عند القدماء كافة إلا عند بعض الصفوة‏,‏ ولا تزال الأغلبية الساحقة من البشر عند أهل الأديان‏,‏ متدينة‏,‏ تعيش في مجتمعاتها في قيود من المحرمات‏,‏ والتقاليد‏,‏ بل وأحيانا الأساطير والخرافات‏,‏ مما أفرغ حرية الفرد من مضمونها‏,‏ ولم تترك مساحة لحرية ضميره الذي سلبته تلك المجتمعات خلال العصور المتعاقبة‏,‏ والتي نظرت إلي الإنسان ليس كشخص بشري له إرادة وقرار‏,‏ وإنما رأت فيه عضوا في جماعة‏,‏ ينتسب إلي قبيلة أو ملة أكثر مما ينتسب إلي نفسه‏,‏ كما أن مجموعة القيم هي رؤية المجتمع وليست رؤية الفرد التي فرضت عليه هذه المقدسات‏.‏

ومن سلبيات الخبرة الدينية علي مر التاريخ وفي مسيرة الأديان‏,‏ الإدعاء عند كل طرف بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة وحده‏,‏ وما عداه باطل وجهل مما أثار الحروب الدينية ولا يزال يلعب دورا في مأساة الإنسان‏,‏ مع أن الله‏,‏ الحق المطلق‏,‏ الأبدي القدوس‏,‏ الحي القيوم‏,‏ لم يره أحد قط‏,‏ والله وحده يتكلم عن الله‏,‏ والحقيقة وحدها تثبت الحقيقة‏,‏ لا العنف ولا الحروب‏,‏ إن الله لا يمتلكه أحد أو دين أو مذهب‏,‏ الله قبل الأديان وبعدها‏,‏ وهو تعالي ليس في حاجة إلي عبادتنا بل نحن في حاجة إلي اكتشاف قداسته لنحبه ونعبده ونتحد به‏.‏

يجب أن نميز بوضوح لا يقبل اللبس بين‏:‏ الظاهرة الدينية والظاهرة الروحية

أما الظاهرة الدينية‏,‏ فهي ممارسة الشرائع والفروض والطقوس وإن شئنا التبسيط نقول انها الجسد للإيمان والعقيدة‏,‏ إنها ممارسة يومية‏,‏ واجتماعية‏,‏ وهو أمر موجود في كل الأديان‏,‏ وفي كل العصور‏,‏ لاغبار علي ذلك‏,‏ أنه التدين بكل رموزه الخارجية‏,‏ ونشاطه وحماسه وعباداته‏,‏ فالدين يختلف تماما عن الانفعالات الدينية‏,‏ فالدين أمر والانفعالات أمر آخر‏.‏ أما الظاهرة الروحية فهي خبرة الإنسان المؤمن بالله الخالق إنها روح الإيمان والعبادة‏,‏ انها الكيان الروحي الذي خلق من الإنسان‏,‏ كائنا تحكمه قيم ومبادئ في سلوكه ومواقفه من كل شئون الدنيا‏,‏ المال‏,‏ والجنس‏,‏ والمنصب‏,‏ والإنسان الآخر‏,‏ إنها التيار الحي المتدفق في أعماقه‏,‏ يصله بالقدوس‏,‏ وقد أشار القرآن الكريم في آيته الحجرات‏14‏ إلي الفرق بين الظاهرتين تقول الآية قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وفي السياق ذاته تشير آية الإنجيل متي‏7:21‏ ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السموات‏,‏ ولكن الذي يعمل إرادة أبي الذي في السموات‏.‏

إن الحضارات تزدهر أو تتدهور وفقا للطاقة الروحية والأخلاقية التي تتميز بها الأقلية التي هي منارة لمجتمعها ولا ترتقي بالمظاهر والانفعالات الدينية‏,‏ وليس كما قال ماركس وفقا للضغوط الاقتصادية‏,‏ فالتاريخ الإنساني كله ليس إلا تعبيرا عن الله الذي له سكن في أعماق الإنسان‏,‏ والتاريخ محاولة قهر المادة بالروح‏,‏ وهدف كل إنسان في أي زمان ومكان هو أن يري الله‏,‏ ولذلك فالأمر الوحيد الذي يستحق أن يكافح من أجله الإنسان هو أن يتشبه بالله أن يكون بارا صالحا أو قديسا‏,‏ إن الدين المتحد بإيمان حقيقي هو دين ملهم منفتح وهو دين الأنبياء‏,‏ أما الدين المغلق فهو دين الطقوس والعبادات المظهرية‏,‏ دين العاطفة أو العقل لكنه ليس إيمان كيان الإنسان كله‏.‏

نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع