بقلم: د. مأمون فندي
الموت نهاية جسدية بلاشك. ولكنه ليس من المنطقي ولا من المعقول إن الطاقة التي تحرك هذه الأجساد تموت هي أيضاً بموتها. الطاقة موجودة تأخذ شكل تحولات أخري فقط. الموت تحولات لا ندركها "الماء يتزوج شكل الإناء". كما يقول أدونيس. وعندما يغادرنا حبيب أو قريب نحزن حقيقة علي أنفسنا وعلي وحشتنا المقبلة التي تنتظرنا وعلي وحدتنا التي سنواجهها بغيابهم. لا أحب أن أصدق بأن الموت قاس لدرجة أنه النهاية الكاملة أو الغياب التام. فالأحبة الذين يرحلون يتحولون إلي حالة أخري لا نعرفها أمر هو من شأن الروح لا الجسد. "قل الروح من أمر ربي". هذا ليس أمرنا. ولكننا نخمن نحوه بطرقنا المختلفة.
فلا الموت نهاية. ولا الطاقة تلك التي تحمل الأصوات والضحكات والمحبة والحنان والشوق تختفي. يظل معنا أعزاؤنا الذين يسرقهم الموت. في أمريكا اللاتينية مثل يقول "الموتي يمسكون بيد الأحياء".. يحسون بنا ويرافقوننا فيما تبقي لنا من أيام. ولكن قدرتنا علي التواصل معهم كبشر تظل محدودة. فليس لدينا جهاز استقبال يفك الشفرات التي تأتينا منهم.. نواصل الحياة وهم يسيرون إلي جانبنا. إذا ما فرحنا يباركوننا وإذا ما حاصرتنا الخيبة يربتون علي أكتافنا.
الأرواح التي تحوم حولنا تحتاج إلي اللاقط الصحيح وتحتاج إلي فك الشفرة. بعض البشر قادرون علي ذلك. قدراتهم الروحية متطورة إلي هذا الحد من الشفافية والتواصل. تواصل يحتاج إلي صفاء في الروح والعقل.
"صفا جسدي حتي بان منه قلبه
وشف حتي بان ما في القلب من سر"
بيت شعري للمكزون السنجاري.
للمصريين حساسية خاصة تجاه الموت فمعابدنا الجنائزية في الأقصر ومقابر وادي الملوك والملكات كلها رموز مصرية قديمة تؤكد أن حضارة مصر في جزء كبير منها هي حضارة جنائزية. المصريون لديهم نعومة وشفافية في الروح في لحظات الموت. يتغاضون عن الخلافات فيها ويقفون صفا واحدا مشدوهين بجلال مشهد الموت.
آخر العلاقات عندنا في الصعيد هو ما يسمي "بقطع الجنائز". أي القطيعة التي تصل إلي حد عدم تقديم العزاء في ميت. وهي حالة أشبه بالخروج من الملة.
كان واضحاً في مشاركة الناس لأحزان الرئيس وأسرته أن المصريين لم يتغيروا. فصدمهم موت طفل بريء وكأنه ابنهم جميعا. بدت مصر وكأنها قرية صغيرة بذات أخلاقيات القري الطيبة.
كان جميلا من الرئيس أن يرفض أشكال العزاء التي تعبر عن نفاق أكثر من كونها مشاركة في حزن. وكان جميلا أنه لم يحضر العزاء. لأن العزاء في النهاية هو لوالد الطفل وأسرته الصغيرة أولاً. ترك الرئيس بلغة المصريين لابنه البكر فرصة لأن يتقبل العزاء في ابنه بصفته الشخصية. فالأمر في الأول وفي الأخير يخصه ويخص أسرته الصغيرة. هذه اللفتة من الأب التي تركت للابن مساحة لتقبل العزاء دونما أن تطغي مراسم الرئاسة علي مشهد شخصي تستحق التقدير وتدل علي إحساس مرهف للأب.
ظني أن هذا الطفل الجميل لا يعبئاً كثيرا بما كتب أو قيل لأنه روح جميلة تقبع في طور أرقي مما نحن فيه. تهف روحه حولنا. كما تهف ملايين الأرواح. تريد أن تقول لنا شيئاً يصلح من شأننا لكننا غير قادرين علي سماعه وغير قادرين علي فك الشفرة. الموت حق. لا دخل ولا تدخل. نحن قوم بسطاء في ما يخص هذه الرؤي.
لدينا في صعيد مصر مقولات قديمة قدم البلاد تقول إن الروح لا تفارق البيت قبل أربعين يوماً. ولدينا من يقسم بأغلظ الأيمان أنهم رأوا أحبتهم الذين ماتوا يتحركون في البيت. في عالم البرزخ ما بين عالمين.. أصدقهم وأصدق ما يرون. الأرواح لا تفني.. "أحياء عند ربهم" هو قول منزل لا يرقي إليه الشك.
رحل الطفل عن أسرته بجسده فقط. لكن روحه ستبقي حول أبويه وجده وجدته تحاول أن تلامسهم كل يوم وقد يلامسونها هم في نوم أو صحو. ولكن الروح من أمري ربي. ولا يبقي لنا كبشر ان نقدم لأسرة ممتحنة إلا كلمات وهمهمات تنم عن مشاعر تعاطف وعزاء. فلوالد الفقيد ولأسرته الصغيرة أولاً خالص العزاء ثم عزاؤنا للرئيس ولأسرته.
نقلا عن الجمهورية
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=3379&I=91