دكتور حازم الببلاوى يكتب: ماذا يحدث لو.. جعلنا رسوم المرور فى قناة السويس بالجنيه المصرى

الشروق

لم أكن أدرى أن موضوع رسوم المرور فى قناة السويس وأدائه بالدولار أو بالجنيه المصرى يمثل مشكلة مهمة بالنسبة لعدد من المواطنين المصريين. وفى حوار تليفزيونى مع الأستاذ عمرو أديب فى برنامج «القاهرة اليوم»، طرح علىّ هذا السؤال، وأجبته بما أعتقد أنه المصلحة المصرية. ولكنى فوجئت بعد ذلك بأن العديد من القراء الذين يعلقون على ما أكتبه من مقالات، يثيرون هذا الموضوع حتى لو كان موضوع المقالة بعيد الصلة عن هذا المجال تماما. وهنا أدركت أن الموضوع أكثر أهمية مما بدا لى، وأن محاولتى للشرح فى ذلك اللقاء التليفزيونى لم تكن كافية أو واضحة بشكل مناسب. لذلك رأيت أن أعيد عرض الموضوع فى مقال مكتوب وبما يتيح فرصة أكبر للشرح والتفصيل.


والقضية فيما يبدو هى أن هناك عددا من القراء الذين يرون أنه نظرا لأهمية استقرار سعر الجنيه المصرى إزاء العملات الأجنبية فقد يكون من المناسب أن يتم تحصيل رسوم المرور فى قناة السويس بالجنيه المصرى. والمنطق وراء هذه الفكرة هو أن إلزام السفن العابرة فى القناة بدفع الرسوم بالجنيه المصرى سوف يفرض عليهم شراء الجنيه المصرى من الأسواق مقابل عملاتهم الأجنبية لتسديد هذه الرسوم، ويترتب على ذلك زيادة الطلب على الجنيه المصرى وبذلك ترتفع قيمته فى السوق أو على الأقل لا تنخفض بشكل مستمر. هذا هو جوهر الفكرة المطروحة. فهل هذه المقولة صحيحة؟ وهل يساعد تحصيل الرسوم بالجنيه المصرى على تحسين أوضاع سعر الصرف للجنيه؟ هذا هو السؤال.

وكان ردى فى الحوار التليفزيونى، وأُعيد ترديده هنا، بأن هذا غير صحيح، وأن الفكرة غير مفيدة بل قد تكون ضارة. كيف؟

يتوقف تحديد سعر الصرف للجنيه أو أى عملة على مجموع الطلب والعرض على العملة الأجنبية بالإضافة إلى توقعات المتعاملين للمستقبل. وعندما نتحدث عن الطلب والعرض للعملة الأجنبية فإننا نقصد بذلك الطلب الإجمالى والعرض الإجمالى للعملة الأجنبية. فقد يزيد العرض فى مجال معين، ولكنه قد ينقص فى مجال آخر، ومن ثم يظل العرض الإجمالى مع ذلك دون تغيير. ومثل هذا التغيير لا يكون مفيدا لأن ما يتحقق من كسب فى مجال قد يلغيه ما يضيع من خسارة فى جانب آخر. كذلك قد يزيد العرض ولكن الطلب قد يزيد فى نفس الوقت، وبذلك لا تتأثر أسعار الصرف. ولذلك فإن العبرة فى حالتنا هى، فى نهاية الأمر، بحجم الدولارات (أو غيرها) المتاحة للاقتصاد المصرى من العملات الأجنبية من جميع المصادر بالمقارنة بحجم الاحتياجات لهذه العملات فى مختلف الاستخدامات. فإذا زادت الموارد المتاحة من العملات الأجنبية فى مجموعها أو قلت احتياجات الاقتصاد القومى للعملات الأجنبية، فإن سعر الصرف يتحسن. فإذا زادت بعض الموارد من العملات الأجنبية فى جانب فى نفس الوقت الذى قلت فيه فى جانب آخر مع عدم تغيير الوضع الإجمالى، فإن سعر الصرف لا يتأثر بهذا التغيير. فالعملية هنا لا تعدو أن تكون عملية إعادة توزيع للموارد من هذه العملات وليس تغييرا فى حجمها.

والسؤال هل فرض رسوم القناة بالجنيه المصرى بدلا من الدولار من شأنه أن يزيد من الموارد الإجمالية المتاحة للاقتصاد المصرى من العملات الأجنبية أو يقلل من حاجاتنا إلى هذه العملات؟ هذا هو بيت القصيد.

عندما تدفع السفن الأجنبية العابرة رسوم المرور بالدولار فإنها تدفع هذه الدولارات للحكومة المصرية. أما إذا كانت الرسوم تدفع بالجنيه المصرى، فإن أصحاب هذه السفن يضطرون إلى شراء الجنيه المصرى من السوق المحلية حيث تقدم الدولارات للسماسرة والبنوك المحلية مقابل ما تحصل منهم من الجنيهات المصرية. وبذلك يزيد حجم الدولارات المتاحة للقطاع الخاص بنفس القدر الذى تنقص فيه إيرادات الدولة من العملة الأجنبية. وهكذا، تظل الحصيلة الإجمالية للدولارات المتاحة للاقتصاد المصرى كما هى بلا زيادة أو نقصان. هناك زيادة فى دخل السماسرة والبنوك وبيوت الصرافة من العملات الأجنبية، ولكن هناك نقصا موازيا تماما لموارد العملة الأجنبية الواردة للخزانة العامة (أو هيئة قناة السويس). وبذلك فإن الوضع النهائى لا يتغير ويظل سعر الصرف على ما هو عليه، لأن العبرة بالوضع الإجمالى وليس بزيادة أحد المصادر إذا قابلها نقص آخر فى مصادر أُخرى.

ولذلك فإنه لا يبدو لى أن هناك نفعا أو كسبا من التحول من دفع الرسوم بالدولار إلى الدفع بالجنيه المصرى. فيظل الوضع الإجمالى، فى الحالتين، على ما هو عليه، فلم تتغير أحجام الموارد الإجمالية المتاحة للاقتصاد القومى، وإن تغير التوزيع بأن قلت حصيلة الدولار للحكومة فى نفس الوقت الذى زادت فيه حصيلة السوق الخاصة من الدولارات والممثلة فى السماسرة والصيارفة والبنوك. ولذلك فإن سعر الصرف لن يتغير لأن الوضع الإجمالى ظل على ما هو عليه، وبالتالى إذن لن تكون هناك فائدة. ومع ذلك، على العكس، احتمال للضرر والخسارة نتيجة لإعادة توزيع موارد العملة الأجنبية لصالح القطاع الخاص وعلى حساب الحكومة. كيف؟

نعرف أن الحكومة المصرية لها احتياجات كبيرة للعملات الأجنبية. فهى تستورد القمح والعديد من المواد الضرورية والتموينية من الخارج فضلا عن مشتريات السلاح واحتياجات الوزارات المختلفة. وإذا فقدت الحكومة هذه الموارد، فإنها ستضطر إلى شرائها من السوق من الصيارفة والسماسرة والبنوك، وهؤلاء سوف يبيعون للحكومة ما حصلوا من عملات أجنبية لدفع الرسوم للمرور فى القناة، وإنما بسعر أعلى لتحقيق عمولة أو مكسب من وراء قيامهم بهذه العملية. وهكذا ترتفع تكلفة العملة الأجنبية على الحكومة، ويتحمل المواطن المصرى هذه التكلفة، فى حين يحصل على الكسب الشركات الخاصة للصيارفة والسماسرة والبنوك. فهل هناك مبرر لتحميل المواطن العادى تكلفة أعلى للعملات الأجنبية عندما تعيد الحكومة شراءها من الصيارفة، وذلك مقابل خدمة وهمية بإلزام الشركات الأجنبية المستخدمة القناة بشراء الجنيه المصرى من السوق المحلية بدلا من دفعها للحكومة؟ ربما تكون هناك مصلحة للصيارفة والبنوك، ولكن الاقتصاد فى مجموعه لا يستفيد شيئا.

وهناك مشكلة أكبر، وهى أن تحصيل الموارد من العملة الأجنبية للدولة مباشرة يضمن استخدامها لتمويل الاحتياجات المحلية من الواردات ويقلل من خطر تهريب الثروات إلى الخارج. فهناك نوع من استخدام العملات الأجنبية يضر بالاقتصاد الوطنى خاصة فى فترات الأزمات، وهو هروب رءوس الأموال إلى الخارج. فكيف يتم تهريب الأموال للخارج؟ لا أحد يهرب الجنيه المصرى إلى الخارج، وإنما يستخدم المهرب ثروته من الجنيه المصرى لشراء الدولارات التى كان يمكن أن تتاح للاقتصاد وذلك لاستخدامها فى تحويل ثروته إلى الخارج. وهناك مصادر لا يمكن نظريا على الأقل استخدامها لتهريب رءوس الأموال، وهى الأموال المملوكة للدولة (إلا فى حالة فساد السياسيين كما بينت الأحداث الأخيرة). وهكذا فإن اعتماد دفع الرسوم بالجنيه المصرى، وما يترتب عليه من زيادة حصة القطاع الخاص من العملات الأجنبية، يعنى زيادة إمكانيات خروج رأس المال منها. فقد يجد القطاع الخاص من مصلحته أن يبيع ما يحصله من عملات أجنبية مقابل رسوم المرور فى القناة للراغبين فى تهريب ثرواتهم لأنهم يدفعون، غالبا، أكثر. وهكذا فإن الانتقال إلى نظام دفع الرسوم بالجنيه المصرى يعنى زيادة فرص وإمكانيات تهريب رأس المال إلى الخارج. ولا أستبعد أن تقوم بعض الشركات الأجنبية بإنشاء كيانات باسمها أو تعمل فى خدمتها حيث تقوم بشراء الجنيه المصرى من الراغبين فى تحويل ثرواتهم للخارج ثم تقيد لحسابهم فى الخارج بالدولار، وبذلك يستخدم جزء من حصيلة هذه الدولارات وذلك لتسهيل عمليات خروج رأس المال. وقد تتم العملية بعيدا تماما عن الجهاز المصرفى المصرى، وذلك بأن يتنازل المواطن الراغب فى تهريب ثروته عن الجنيهات المصرية المطلوبة لدفع الرسوم، مقابل قيد المقابل لها بالعملات الأجنبية فى حساباته مباشرة فى الخارج. وهكذا يمثل هذا الأسلوب ثغرة جديدة لتسهيل عمليات خروج الثروة من البلاد.

ولا يقتصر الأمر على هذا الخطر، بل إن هناك مشاكل عملية فى تنفيذ مثل هذا الاقتراح. فمن المعروف أن الجنيه المصرى يعرف اتجاها عاما نحو انخفاض قيمته تجاه العملات الأجنبية رغم بعض التذبذبات ولذلك فإن تحديد سعر الرسم بالجنيه المصرى يعنى انخفاض القيمة الحقيقية لعوائد القناة مع مرور الزمن، وذلك ما لم تقم الهيئة بإعادة النظر فى أسعار الرسوم بشكل مستمر مع كل انخفاض لقيمة الجنيه، الأمر الذى يمكن أن يسبب عدم استقرار رسوم القناة. ونظرا لأنه غالبا، ما يتراخى تعديل الرسوم مع انخفاض قيمة الجنيه، فإن ذلك يؤدى إلى تفويت مصالح على الاقتصاد المصرى، بتحصيل رسوم مخفضة القيمة بالعملة الأجنبية وذلك قبل تعديل الأسعار لملاحقة انخفاض قيمة الجنيه.

وأخيرا، فإن كل دول العالم ربما باستثناء الولايات المتحدة تسعر صادراتها بالعملات الدولية، ورسوم القناة لا تعدو أن تكون، فى نهاية الأمر، مقابل خدمات تصديرية يستهلكها المستورد الأجنبى لخدمات القناة. فلماذا لا يدفع المستهلك لهذه الخدمة التصديرية بالدولار؟ وهل يأتى لنا من يقول ولماذا لا نصدر البترول والغاز أيضا بالجنيه المصرى؟ وكل ذلك بناء على فرضية غير صحيحة بأن تسعير خدمات التصدير بالجنيه المصرى يؤدى إلى رفع قيمته. الحقيقة أن ارتفاع قيمة الجنيه لن تتم إلا بزيادة قدرة الاقتصاد المصرى على كسب المزيد من العملات الأجنبية، وذلك بزيادة الصادرات وغيرها من مصادر العملة الأجنبية. والحقيقة الأُخرى هى أن دفع رسوم المرور بالقناة بالجنيه ليس زيادة فى الموارد المتاحة للاقتصاد القومى من العملة الأجنبية، وإنما هو إنقاص فقط لحصة الدولة منها لمصلحة قطاع الصيرفة والبنوك. وهو ما يترتب عليه مخاطر جانبية أُخرى أشرنا إليها.

ولذلك، فإن الاقتراح بدفع الرسوم بالجنيه المصرى لا يحقق الفائدة المدعى بها لأنه لن يزيد من الحصيلة الإجمالية للعملات الأجنبية، بل وقد تترتب عليه أضرار على الاقتصاد برفع تكلفة الدولار على الدولة لتمويل ما تستورده الدولة من مواد تموينية أو أساسية. وهو أيضا أسلوب غير عملى قد يتطلب زيادة الرسوم بشكل مستمر لحماية لقيمة العائدات عند انخفاض قيمة الجنيه. وأخيرا فإنه قد تسهل من عمليات هروب رءوس الأموال إلى الخارج. فهو بذلك اقتراح غير مفيد وغير عملى ويمكن أن يكون ضارا. والله أعلم.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع