جرجس بشرى
تقرير: جرجس بشرى – خاص الأقباط متحدون
تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة بمصر صدر حديثًا للباحث "الدكتور ماجد عزت إسرائيل" كتاب "وادي النطرون في القرن التاسع عشر.. دراسة تاريخية وثائقية"، والكتاب المُشار إليه يُعد بمثابة أول دراسة وثائقية من نوعها تتناول الأوضاع السياسية والإجتماعية والإدارية السائدة خلال تلك الفترة من تاريخ مصر الحديث.
ويرى الكاتب أن تاريخ الوادي في القرن التاسع عشر قد تم إهماله إلى حد ما، حيث لا توجد دراسة علمية –على حد وصفه- تُعالج تاريخ الوادي في ذات القرن، الذي اختلفت فيه النظم السياسية والإدارية والإقتصادية عقب تولية محمد على سنة (1805-1848م) حكم مصر، وبناء الدولة الحديثة على أسس علمية، على خلاف ما كان مُتبعًا في القرون السابقة لذلك القرن.
وقد قسم الكاتب دراسته في هذا الكتاب إلى الجزء التمهيدي الذي أعقبه خمسة فصول وخاتمة، وحاول الباحث في التمهيد التعرف على جغرافية وادي النطرون وتاريخه قُبيل القرن التاسع عشر، من حيث موقعه ووصفه الطبوغرافي، ومُسمياته وأهميتها حتى بداية الفترة قيد الدراسة.
واهتم الباحث في الفصل الأول من كتابه بدارسة إدارة وادي النطرون باستعراض تعريف الإدارة، والتقسيم الإداري وما شهده الوادي من تعديلات وتغييرات جوهرية في تقسيماته الإدارية طوال القرن التاسع عشر، وكذلك الجهاز الإداري ومهامه واختصاصاته في ضوء الإدارة المركزية، والإدارة الصحية والمالية والقضائية.
ويتطرق الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب إلى النشاط الزراعي والصناعي خلال الفترة موضع الدراسة، بدارسة حيازة الأراضي وفئات حائزيها، ونظام الري ومصادر المياه والترع الرئيسية، والزراعة وأهم حاصلاتها، والرعي، والنشاط الصناعي من حيث أهم الصناعات ومراكزها، وطوائف الحِرَف التي كانت موجودة آنذاك.
ويُناقش الفصل الثالث من الكتاب النشاط التجاري السائد خلال الفترة موضع الدراسة، من حيث الطرق التجارية، وقوافل التجارة، والتجار وفئاتهم، وتجارة النطرون داخليًا وخارجيًا ومشاكله وقضاياه، والتبادل التجاري فيما يتعلق بالتجارة.
كما استعرض الباحث في الفصل الرابع أديرة وادي النطرون من حيث ماهية الرهبنة ونشأتها في مصر والوادي وقوانينها وطقوسها، وأهم الأديرة وحياة الراهب اليومية بداخلها، وهيكلها التنظيمي ومصادر تمويلها وطبيعة مشكلاتها التي عرضت، وكيف كانت تواجهها والصلة المتبادلة بينها وبين الدولة.
وخصص الكاتب الفصل الخامس من الكتاب لدراسة الحياة الإجتماعية في المنطقة خلال الفترة المذكورة، وذلك بمحاولة التعرف على اتجاهات النمو السكاني والتطور العمراني والتركيب الإجتماعي للسكان والعادات والتقاليد والزواج ومكانة المرأة والجريمة ودور المؤسسات الدينية في تنمية القيم الدينية والروحية، والتعليم والثقافة، والاحتفالات والأعياد.
وقد توصل الكاتب في نهاية الكتاب إلى عدة نتائج مهمة تتعلق بالجوانب الإدارية وتنظيم الجانب الإداري والأوضاع الاقتصادية، وفيما يتعلق بالجانب الإداري فقد انتهت الدراسة إلى أن وادي النطرون كان يُطلق عليه مُسميات عدة منها الأسقيط، ووادي الملوك، ووادي هبيب، والزنبق، وبرية شيهيت (شيهيات)، ووادي الأطرون (النطرون)، وكان يضم مجموعة من القرى التي تتبع إداريًّا مركز النجيلة بمديرية البحيرة حتى أوائل القرن العشرين إلى أن نقل المركز إلى كوم حمادة سنة 1903م، بنفس المديرية لدواعي أمنية.
وانتهت الدراسة إلى وجود تداخلات ما بين الحدود الإدارية لمديرية البحيرة من ناحية الوادي التابع لها ومركز إمبابة التابع لمديرية الجيزة، كما كانت بعض قرى الوادي على درجة عالية من التنظيم، ولم تكن تقل شأنًا عن بعض المدن في ذلك القرن مثل الطرانة والبريجات والخطاطبة.
وتوصلت الدراسة إلى تنظيم الجهاز الإداري في ظل الإدارة المركزية فأصبح رجال الوادي هم لسان حال الحكومة مع الأهالي طبقًا للتسلسل الإداري وتمشيًا مع اللوائح والقوانين، كما رصدت اندثار بعض الوظائف مثل المشد وملتزم القرية، وظهور وظائف أخرى -وإن كان منها ما هو قاصر على الوادي- مثل وكيل مصلحة النطرون، وناظر العربان، كما أن البعض منها ظهر نتيجة التقدم العلمي مثل التلغرافجي والبوستجي.
وتوصلت الدارسة إلى وضع تصور شامل عن الإدارة الصحية والمالية والقضائية، حيث تم التوصل إلى مجالس الدعاوى، والمحاكم الشرعية، انتهاء بالمحاكم الأهلية والقضاء المختلط، من خلال الصيغ القضائية المتداولة بالساحة القضائية مثل الإشهادات والضمانات والأوقاف والوصايا.
ومما أوضحته الدراسة وضع النشاط الإقتصادي الذي كان موجودًا في الوادي خلال القرن التاسع عشر، تعرض البحث لنظام حيازة الأراضي الزراعية في ظل نشوء الملكية الخاصة، وخلُصَ الكاتب من ذلك إلى تحديد فئات المُلاك وكبار العائلات، ورصدنا نظام ومرحلة تحويله من ري الحياض إلى نظام الري الدائم، في ظل تحديث شبكة الري عن طريق إنشاء الترع والمصارف وصيانتها، انتهاءً بإدخال شركة الري لتطويره باستخدام المضخات البخارية لرفع منسوب المياه، وللحفاظ على نظام الري الدائم واستصلاح المزيد من الأراضي الزراعية، وزيادة الإنتاج الزراعي وتنوع حاصلاته في ظل تطبيق نظام المواسم الزراعية لتصديره داخليًا وخارجيًا.
كما توصلت الدراسة إلى تعدد الحرف والصناعات ومراكزها والعوامل التي ساهمت في قيامها، وأهم طوائف الحرف الصناعية والتجارية، وعرضت لشبكة النقل والمواصلات وأهم الطرق التجارية، فرصدت الطرق البرية والمائية والسكك الحديدية وطرق القوافل التجارية الداخلية والخارجية والأسواق والتجار وفئاتهم والسلع التي يتجرون فيها، ومع اتضاح أهمية مادة النطرون الإقتصادية رصدنا أنواعه وطرق استخراجه ونقله وتسويقه بداية من الاعتماد على الملتزمين واحتكار الحكومة لإنتاجه سنة 1875م، ونهاية بإنشاء شركة الملح والصودا سنة 1899م لإنتاجه وتصنيعه وتجارته وعرضنا لمشاكله وقضاياه.
وانتهت هذه الدراسة المهمة إلى وضع تصور شامل عن أديرة وادي النطرون، فخلُصَت إلى زيارة العائلة المقدسة لهذه البقعة وصبغتها إياها بالصبغة المقدسة مما جعلها منطقة جذب لراغبي الرهبنة ليس على مستوى الصعيد المصري فحسب بل على مستوى الصعيد العالمي، وكذلك ماهية الرهبنة والعوامل التي ساهمت في نشأتها وقوانينها وطقوسها والتنظيم الإداري للأديرة، وحياة الراهب اليومية بداخلها وطريقة تمويلها ومدى حرص الحكومة على حل مشكلاتها.
وأكد الباحث في دراسته على أن الحياة الإجتماعية في وادي النطرون في ذلك الوقت تشابهت إلى –حد ما- مع باقي المناطق الأخرى في مصر، مع احتفاظها بالخصوصية في بعض التفاصيل، واستعرضت الدارسة تطور النمو السكاني وأسباب زيادة معدلاته، التي أدت إلى التطور العمراني، وكذلك التركيب الإجتماعي للسكان والعادات والتقاليد المرتبطة بمناسبات الأفراح والوفيات، وأثبتت الدراسة تبؤ المرأة مكانة بارزة، ودور الحكومة المركزية في الحد من الجريمة بتنفيذ اللوائح والقوانين لاستتباب الأمن بالوادي، كما رصدت دور المؤسسات الدينية في تنمية القيم الدينية والروحية، وكذلك التعليم والثقافة، والاحتفالات والأعياد ومدى تمسك الأهالي بمراسمها وتقاليدها وبهذا نستطيع أن نتلمس صورة الأوضاع الإدارية والإقتصادية والإجتماعية، التي كان عليها وادي النطرون خلال القرن التاسع عشر.
إنها دراسة وثائقية وتاريخية مهمة في تاريخ الوطن كما أنها دراسة جديرة بالإهتمام والتقدير.
http://www.copts-united.com/article.php?A=4364&I=118