عزت بولس
بقلم- م. عزت بولس
العشوائيات كمفهوم باعتقادي لا تعني فقط الأحياء الطفيلية التي نراها بكثرة في أنحاء مختلفة من مصر حيث أناس يعيشون تحت ما يسمى مجازاً "عشش" والتي تتكون أحياناً من الصفيح أو السواتر المتهالكة المتشابكة بطريقة ما لمواد غير معلوم طبيعتها يطلق عليها البسطاء "مواد بناء" لكونها تؤمن لهم شكل ما من الحياة في أماكن غير مؤهلة لاستقبال حياة بشر آدميين، وحتى لو سكنها آدميين بسطاء يتحولوا عبر غرفها التي يتراكم فيها الأفراد بشكل مفزع يقتل الخصوصية في الحياة إلى كائنات شبه أدمية عشوائيين فكراً وروحاً مكبلين بالكثير من العقد النفسية الناجمة عن نشأتهم بين "عفن" العشش حيث تلوث الفكر والروح بمشاهد كثيرة يمكن أن نصفها بأنها الابن الشرعي لتلك الملوثات أو العشوائيات الاجتماعية.
لكنني هنا لست بصدد تناول العشوائية المكانية فالكثير من الأقلام البحثية تناولتها من زوايا مختلفة وإنما سأتخذ فكرة "العشوائية المكانية" مدخل للحديث عن "العشوائية الفكرية" التي احتلت عقولنا كمصريين بل من كثرة اعتيادنا على مظاهرها السلبية المتفشية كالوباء بين مختلف الأنماط الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع المصري أصبحنا لا نميزها كمظهر سلبي في التفكير فأضحت جزء منّا نمارسه ولا نعيه...
الكارثي أن ذلك التفكير العشوائي السلبي يُذكي من مختلف وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة من حولنا وكأنه الطريق الوحيد لمستقبلنا الذي لم تتضح معالم مضيئة له بعد.
دوماً ما نتحدث عن فكرة "الانتماء لمصر" أولاً لكن المتأمل للواقع يتأكد له أننا أبعد ما يكون عن حب مصر التي نكتفي بمغازلتها لفظياً عبر أشعار الحب التي نعلن عنها ونتشدق بها في المناسبات المختلفة ويكفي أن تجد أحدهم يصف المتدنيين أخلاقياً والبسطاء اجتماعياً بأنهم أناس "بلدي" وهنا تجد الفرد البسيط اجتماعياً عندما تصفه بأنه "بلدي" يشعر بالعار والخذي للوصف الذي ألصق به وكأنه أصيب في مقتل بكرامته وشخصيته ذلك على اعتبار أن مَن يتصرف كأولاد البلد أدنى في المرتبة الإنسانية من ذلك اللي "مش بلدي" وذلك الشعور السلبي الذي يتولد لدى مَن يوصم هنا في مصر بأنه بلدي لا يمكن وأؤكد لا يمكن أن يشعر به شخص غربي من بلد متحضر فكونه "بلدي" يتصرف بسلوك أبناء وطنه ليس مدعاة ذل وإهانة لأن انتماءه لوطنه مصدر فخر وليس العكس كما هو الحال لدينا.
الانتماء لمصر كوطن لا يجيء في مقدمة تقييمنا لانتماءاتنا كأفراد بل يأتي في مرحلة متأخرة في التقييم حيث يكون الانتماء الأول للدين ثم للأمة العربية ثم سلسلة أخرى من الانتماءات تأتي عادة مصر في نهايتها أو قد تكون الأخيرة على الإطلاق، وحقيقة أتعجب من الإنسان المصري الذي حظى بالنشأة في بلد قل أن تجد له مثيل من العراقة والصدارة كمنبع انتهلت منه الحضارات الأخرى ثم تجد ذات الإنسان متنصل من انتمائه لذلك الوطن العظيم.
عشوائية فهمنا لمعنى "لانتماء" غير قاصرة على موقفنا تجاه وطننا مصر بل أمتد ليشمل مناحي أخرى فنادراً ما تجد شخص يميل إلى السفر لأمريكا أو أي بلد أوربي ولا يلعن موطنه الجديد حتى قبل الذهاب له، هؤلاء يلعنون تلك المجتمعات وسياساتها وأفكارها التي يصفونها بالفجور لكنهم مع ذلك يحلمون بالعيش داخلها ويكفي لتأكيد ذلك الطوابير الغفيرة أمام السفارات المختلفة تلك الطوابير التي تؤكد في مظهرها الغير متناسق لأفراد لاهثين حجم عشوائيتنا الفكرية وفهمنا للانتماء.
ثم يبدأ التحمس للعيش في تلك المجتمعات في الاتجاه للفتور بعد فترة قد تطول أو تقصر من التواجد داخلها فبعد الاستمتاع بالوجه الحضاري لهذه البلاد التي تمنح مَن تستقبلهم فرصة للحياة بإنسانية تجد الشخص المهاجر ينقلب من محب ومنبهر بالحياة في مكان إيواءه الجديد إلى كارهاً له ولقوانينه التي يبدأ في انتقادها أثناء أحاديثه مع أصدقائه ومعارفه ومع أصحاب البلد الأصلية تحت بند "الحرية" ثم يتخذ هذا النقد منحى جديد بعد ذلك وهو التحايل على تلك القوانين في بلد الاستقبال، وهؤلاء العشوائيين في فهم "الانتماء" أتعجب منهم وأتساءل لماذا يبقون مرغمين اختيارياً على البقاء داخل الجحيم الذي يستمتعون من خلاله بما يصفونه على أساس أنه "نار" ؟
ومن عشوائية فهمنا لـ "الانتماء" تنبت عشوائية في سلوك بسيط كالنظافة التي تعني في مفهومنا الضيق نظافة في حدود ما أملكة ويخصني من مكان أعيش فيه أو أتكسب منه فقط وكل ما هو غير ذلك فهو لا يعنيني على الإطلاق...لا تعنيني نظافة الشارع أو الحي أو المدينة لأن هذا ليس ملكي "دة ملك الحكومة" وبهذا يُحصر الإنسان المصري الإحساس بالنظافة في المكان الذي إمام "دكانه" أو جدران شقته ويتبلور هذا الإحساس المحدود بالنظافة في نقل القمامة من المكان القريب من محيط الفرد إلى مكان قريب من الآخرين فطالما إن القمامة بعيدة عن ذلك المحيط الخاص فهي لا تؤذي بصرياً أو تضر صحياً.
إذا تضرر الفرد صحياً فلا بأس فـ "عشوائية الإرشادات الطبية" متأصلة في وجداننا والذهاب إلى الطبيب يأتي في تفكير الكثيرين منّا في أخر مراحل المرض بعد أن نقوم بسؤال الأصدقاء والمعارف والذين لا يتوانوا غالباً في إصدار "روشتات" النصائح الطبية مصحوبة بأسماء أدوية تنطق "بالويم" ثم يتناولها السائل حسب ارتياحه الشخصي لها دون مراجعه دقيقة عن جرعاتها ودون معرفة أثارها الجانبية ومدى تفاعلها السلبي مع أنواع أخرى من الأدوية المتناولة لكن شعبنا الشهير ب" الجميل" العشوائي حقيقة مولع بالقيام بدور الطبيب يعنب "الدكتره" في دمنا.
العشوائية في أفكارنا ليست قاصرة على عامة الناس وإنما هي متغلغلة في القيادات الدينية، فهل صادفت يوماً ما رجل دين أو ما يُدعى أو يدعى أنه رجل دين؟ يجيب على سؤالاً تطرحه عليه بأن هذا ليس في مجال اختصاصه أو داخل نطاق مجاله المعرفي؟ بالطبع لا لأنه أياً كان السؤال أو نطاق حيرتك فالإجابة لدى رجل الدين حاضرة وقاطعة بل وملزمة في كثير من الأحيان.
لعشوائيتنا الفكرية أسباب عديدة أخطرها برأيي الإعلام وأجهزته المختلفة والتي تروّج الصور الوردية لحال بلادنا المستقرة والتي تتمتع كما يروّجوا بقوة اقتصادية خارقة لكونها لا ترتبط بالاقتصاد العالمي الضائع، الديمقراطية كذلك فهي وفق إعلامنا في أزهى عصورها وازدهارها.
يشارك جهابذة الإعلاميين مؤسستنا الإعلامية الرسمية في خطة تحويلنا للمزيد من "العشوائية" حيث يروّجون الأفكار المخدرة التي يعتقدوا من خلالها خاطئين أن العالم توقف تطوره عند الخمسينات من القرن الماضي حيث جماهير مصر الفتية تقاطع جميع تليفزيونات وجرائد العالم وتكتفي بالحقيقة المطلقة من وسائل إعلامنا المبجلة التي تحجّرت عقول قيادتها فتحاول بث أفكار كانت يوماً ذات قيمة لكن مع الزمن تعفنت وإن بقيت مزدهرة في عقول مروجيها، والأحاديث التي تابعتها مع السياح بعد الحادث الإرهابي الأخير بالحسين والتي تهدف للبرهان أن السياحة لم تتأثر بأي تبعات سيئة للحادث وأن مصر بلد الأمن والأمان إلى أخره من كل هذه الأقاويل المحفوظة والموضوعة في أحد الأدراج تخرج بكامل فخامتها ورونقها مع كل حادث إرهابي لنخدر بها أنفسنا أؤكد أن المتلقي من كثرة التطعيم بها أصيب بمناعة بل أن جرعتها المتكررة أصابتنا بحساسية تنقلب في بعض الأحيان حالة من الغثيان المقيت.
قمة العشوائية في إعلامنا المصري تظهر عندما يتباهى القائمين عليه بصلابة الوحدة الوطنية التي دائماً وأبداً تظهر في أبهى معانيها بعد أن يتلقى الأقباط ضربة موجعة مؤلمة سواء كان هذا في شكل أسلمة جبرية أو في صورة منع إكمال سور دير أو ترميم كنيسة آيلة للسقوط فيتسارع البعض بالتشدق بالوحدة الوطنية والنسيج الواحد وموائد المحبة وتبادل القبلات ولعن أقباط المهجر المتسببون في كل ما يحدث من "بلاوي" للأقباط في مصر.
لكن محاولة مداواة الداء تبقى وأظنها ستظل ليست في مخيلة الحكومة لدواعي أمنية ولمراعاة مشاعر الآخرين الدنيئة في دوافعها دون مراعاة لأبسط قواعد العدالة فينشئ جيل متخلف تفكيراً وملوث فكرياً عشوائي في حكمة وتقديره للأمور.
لقد عايشت شعب غربي لا يتشدق بإيمانه السماوي ولكن أعمالة وتصرفاته ومعاملاته تتسم بإنسانية عالية نابعة من ضمير شخصي لكل فرد ذلك الضمير الذي يقوده إلى عمل الأصلح لوطنه فيعود عليه بالنفع.
تعايشت مع مواطن غربي يحب بلده دون "بالروح والدم نفديك يا..." بل بالأفعال وبالانتظام في العمل ورقيبة ليس رئيسه بل ضميره كم تمنيت أن يصحب إيماننا العظيم بربنا إيماننا ببلدنا وتصبح الإنسانية ومحبة العمل هي برهان الانتماء وليس حركات الألسن الناطقة بالتسبيح لله في مظهر مخادع للتدين من قِبل إنسان غارق في العشوائية لأذنيه.
http://www.copts-united.com/article.php?A=461&I=12