سهيل أحمد بهجت
بقلم: سهيل أحمد بهجت
منذ سنوات مضت و أنا أخطط للكتابة حول هذا الموضوع، لكن كان علي بذل المزيد من الجهود و القراءات للخروج ببحث مفيد و موسع بحيث يكون إسهاما في إخراج منطقتنا الشرق أوسطية عموما و العراق خصوصا مما يعانيه من تخلف في كافة الجوانب، خصوصا تلك التي لها ارتباط بالنظام الفكري و السياسي، حيث اختلطت أمراض و عاهات الأيديولوجيات المختلفة القومية و الشيوعية و أخيرا الإسلامية التي أخذت تملأ الفراغ الذي تشكل إثر انحسار القومية و الشيوعية عن منطقة الشرق الأوسط في أواخر القرن العشرين، و جاء انهيار المنظومتين إثر خوضهما صراعا طويلا و دمويا انتهى بهيمنة الإسلام السياسي إثر خروج مؤقتا من صراع الأيديولوجيات في الشرق الأوسط كالعراق و مصر و سوريا و بالتأكيد إيران، و الحقيقة أن المنظومة الإسلامية السياسية ستنظم إلى قافلة الإخفاق لكن الأمر يتطلب نوعا من التنبؤ بمدى الفترة التي سيتطلبها هذا الإخفاق، فالمنظومة الإسلامية هي نتيجة إحباط حضاري أجهض نمو ديمقراطية من الداخل و بالتالي قد يتطلب الأمر حربا أو صراعا ينهي أسطورة "الخصوصية الإسلامية" أو "الديمقراطية الإسلامية"!! كما يسمونها، لينفتح الباب على مصراعيه أمام الديمقراطية و دولة الفرد، و التجربة اليابانية في القرنين التاسع عشر و العشرين تشكل خير نموذج نستطيع تشبيهه بما نمر به الآن، فاليابان رأت في نفسها دولة قومية ذات حضارة و تجربة خاصة بها، و من خلال ثقتها بذاتها انطلقت في بناء إمبراطورية ضخمة تكون فيها عالما خاصا بالقومية اليابانية، و شكل انعزال اليابان لقرون مجالا واسعا لبناء دولة ذات نمط قومي واحد عديم التعدد و متجانس البنية، خصوصا بعد أن تم القضاء على الأقلية المسيحية التي تكونت بفضل المبشرين الأوروبيين خلال القرون الوسطى، إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية ليكتشف الشعب الياباني مدى العزلة التي عاشها.
إن الشرق الأوسط في غالبيته يمثل التطرف القومي و الديني و حتى الماركسي، ربما لارتباطه بالماضي التاريخي للأديان الثلاث و موقعه الحساس من الصراعات الاستراتيجية منذ الحربين العالميتين و قيام و انهيار الإمبراطورية الفلسفية الأولى و الأخيرة في التاريخ (الاتحاد السوفيتي) و عدم وجود منظومة ديمقراطية حتى على المستوى البدائي، فقد كانت العشيرة في أوروبا حتى في العصور المظلمة أكثر ديمقراطية من العشيرة المشرقية التي كانت و لا تزال تحتفظ بطابع تسلطي بينما العشيرة أو الدول التي تكونت من اتحاد قبائل كانت تمتلك مجالس شيوخ تمثل القبيلة أو الأحرار في عصر أكثر تقدما، و بينما كانت أوروبا تسير على خطى العلمنة و العقل الواقعي حتى في العصور اليونانية، فإن المشرق خلق ترابطا عضويا بين الدولة (المنظومة التنفيذية) و الدين (المنظومة الأخلاقية) و خلق تركيبة معقدة متبادلة بين الدولة و الدين ليصبح كلاهما مفتقرين إلى الشرعية و يتبادلان التبرير، فالدولة جعلت من الدين مبررا لوجودها و الدين جعل من الدولة حاميا و حارسا للدين، و هو الإشكال الذي لا يزال قائما إلى الآن، انتفى هذا الإشكال في تركيا حينما تأسست الجمهورية و ترسخت الممارسة العلمانية في الأرض التركية خلال الثمانين عاما التي مضت، بالتالي لا يمكن أن نفسر ظاهرة التدين الحالي على أنها انقلاب على العلمانية بقدر ما هو ترسيخ للعلمانية التي لا تعني الإلحاد مطلقا ـ و سنوضح ذلك خلال مناقشتنا لأطروحات عبد الوهاب المسيري ـ فالإلحاد هو أحد ظواهر الحرية الفكرية للعلمانية و ليست نتاجا حتميا لها.
إن العالم الإسلامي يعيش الآن أزمة حقيقية في تبرير الدين لشرعية الأنظمة و حماية الدولة "لعقيدة" معينة بحيث يستمر التبادل المنفعي بينهما على حساب الشعب، فطوال التاريخ الإسلامي كان الحكام و بدعم من فقهاء أهل السنة يقومون بقطع الرؤوس و الألسنة تحت عنوان حماية العقيدة السليمة و بتهمة "الزندقة" و التي لغرابتها كانت تطابق كلمة "هرطقة" في العالم الغربي المسيحي، و كان أتباع علي بن أبي طالب من أشد الناس معاناة في هذا الباب و يجب لنا كمسلمين أن لا نستمر في الزعم أن لا طبقة كهنوتية تسببت في اضطهاد العلم و العلماء بتهمة الزندقة أو الخروج من الصراط المستقيم و إذا كان فقهاء السنة يطرحون محنة خلق القرآن التي قام بها المأمون و بدعم من المعتزلة كدليل على اضطهاد الآخرين لهم فإن هذه المحنة كانت رد فعل معتزلي كنتيجة لسنوات و عقود من الاضطهاد و التكفير السني للآخرين، كما أن غالبية المشاكل القومية التي نعانيها في العراق و الشرق الأوسط كانت في الغالب لتحول المذهب السني إلى مذهب عروبي يتبنى نظرية أفضلية العرب على غيرهم من الأقوام و الأمم و يكفي أن تقرأ للفقهاء الحديثين و مثالنا هنا هو ما قاله محمد سعيد رمضان البوطي "الكردي" في كتابه (فقه السيرة) ص 51 حيث يذهب إلى أنهم أفضل الأمم.
من هنا كان من واجب المفكرين و الفلاسفة مجابهة ثقافة التقليد و عبادة الأسلاف و تمنع الناس من العيش و التفكير بحرية ليس في الوسط السنّي فحسب بل حتى الشيعي الذي أخذ ينحدر نحو التطرف مع استثناءات هنا و هناك، إن فصل الإسلام عن الحكم و السياسة سيكون في الحقيقة الخطوة الأولى نحو إسراع مجتمعاتنا في التوجه نحو التطور الديمقراطي و بناء مجتمع المواطنة و حقوق الإنسان.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=4701&I=127