المادة الثانية وتحدي الحداثة

كمال غبريال

بقلم: كمال غبريال
ينظر الكثيرون للجدل حول المادة الثانية من الدستور المصري، والتي تنص على أن دين الدولة الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، على أنه قضية الأقلية المسيحية في مصر، أو على  الأكثر قضية الأقليات الدينية عموماً، وعلى ذات الأساس أيضاً يتناول الأمر العديد من المفكرين الليبراليين، الذين ينبرون للدفاع عما يعرف بحقوق الإنسان، وحرية الاعتقاد الديني. . نعم تلك القضية هي الأكثر إلحاحاً للأقليات الدينية، فالكثير مما يعانيه هؤلاء من تمييز (نتوقع أن يصل قريباً إلى مرحلة الاضطهاد)، يتم استناداً لتفسيرات ذوي الأهواء العنصرية  المعادية للآخر، لتلك المادة ذات الأولوية الخطيرة في الدستور، لينطلقوا منها غوصاً في التراث الفقهي، ليخرجوا منه بما يشاءون فرضة على أخوة الوطن، وعلى ألفية العالم الثالثة.

هذه المقاربة للمادة الثانية من الدستور رغم أهميتها ونبلها، أشبه بالتركيز على الجزء الطافي من جبل الجليد، بما يصرف الاهتمام عن الجزء الأضخم والأخطر المختفي تحت الماء، نقصد أنها  تصرف النظر ولو جزئياً عن الخطورة الأساسية المترتبة على التمسك بهذه المادة، على جميع أبناء الوطن بغض النظر عن انتمائهم الديني.

القضية هنا ليست فقط وحصرياً مسألة حقوق إنسان ومواطنة، فهذه المسائل والمفاهيم ليست أكثر من جزء من كل متكامل، الذي هو قضية الحداثة، فمحتوى هذه المادة يرجع لعصور مضت، وتجاوزتها مسيرة الحضارة الإنسانية، عصور التجمعات البشرية التي تعتمد على الانتماء الديني والقبلي، التي دخلت بالفعل (وليس من قبيل التمني واستشراف المستقبل) إلى متحف التراث الإنساني في جميع بقاع العالم المتحضرة، وحتى شبه المتحضرة، ليحل محلها عصر الدولة الوطنية، التي تكون على أساس الجغرافيا، وليس العنصر العرقي أو الثقافي الديني، فالسكان المالكون للمساحة الجغرافية المسماة وطن، يتساوون في حقوق تلك الملكية، بمختلف انتماءاتهم العرقية والدينية.

في حين تقف هذه المادة، وما يلحق بها من ممارسات، وبما تشيع في البلاد من ثقافة، كحجر عثرة في سبيل استكمال مصر لمقومات الدولة الحديثة، وهي التي سبقت العالم كله في تأسيس أول دولة في التاريخ، نجد أن  البشرية قد دخلت إلى مرحلة لاحقة، نحيا جميعاً في ظلها ولو رغماً عنا، هي مرحلة العولمة، والتي تذوب فيها الحدود الجغرافية والقانونية والاقتصادية والثقافية بين الدول والشعوب، ليبقى الهامش السياسي وحده، يؤدي دوراً يتضاءل مع الأيام، لصالح الإنسان الفرد أولاً، ومن ثم بالتبعية لصالح اللإنسانية جمعاء، ولتحل محلها الكيانات عبر القومية، سواء كانت كيانات اقتصادية أم ثقافية وحقوقية، أو حتى كيانات صحية، كمنظمة الصحة العالمية، وكيانات المحافظة على البيئة. .  لكننا كشأننا نرفض الإحساس بوقع الزمن، لنظل نحيا هانئين مطمئنين في كهوفنا الأزلية.

نخدع أنفسنا إذا ما حاولنا الالتفاف على معنى ومحتوى المادة الثانية من الدستور، لننفي أنها تقودنا للدولة الدينية، فالقول بدولة دينية هو ذاته القول بدولة ذات مرجعية دينية، فالعبارة الثانية مجرد شرح لمعنى العبارة الأولى ليس أكثر، فلا نكاد نعرف في التاريخ دولة دينية قام فيها رجال الدين بمباشرة الحكم بأنفسهم، فهم يفضلون دائماً الوقوف خلف حاكم مدني أو عسكري، ليقوموا هم إما بدور الموجه الأساسي له، أو بدور المبرر لممارساته بمنحها صبغة مقدسة، وهذا ما يحدث تحديداً، فيما يسمى جمهورية إيران الإسلامية، ويحقق المركز الثاني (ظاهرياً) لرجال الدين ميزة التحكم والهيمنة أولاً، والنأي عن المحاسبة على النتائج العملية لتوجيهاتهم ثانياً، فإذا ما تضررت الجماهير وساءت أحوالها، فإن تذمرها يتجه تلقائياً للحاكم المتصدر للصورة، ويظل رجال الدين في موقع من يتم اللجوء إليه والاستعانة به لرفع الظلم ودرء المفاسد!!

هكذا كانت أوروبا في العصر الوسيط، وهكذا كانت دولة الخلافة الأموية والعباسية، وهكذا أيضاً الدولة المصرية الحديثة فيما بعد المرحلة الناصرية وحتى الآن، فرغم أن دستور الدولة المصرية وقوانينها ونظمها علمانية مدنية، كما يصفها فقهاء الدستور والقانون، إلا أن المرجعية الدينية حاضرة في الممارسة العملية، وبقوة تجعلنا مطمئنين إلى تصنيفها كدولة دينية، فعندما يتم استفتاء رجال الدين في كل صغيرة وكبيرة، بداية من معاهدة السلام مع إسرائيل، إلى ضريبة التركات وقوانين الطلاق والخلع، وزي النساء وعرض الأفلام العالمية محلياً، وما يصدر من كتب وأفلام وأعمال درامية، بل وأبحاث علمية جامعية، بالإجمال ليس ثمة أمر من أمور الحياة إلا ويتم استفتاء رجال الدين فيه، سواء كان رجال الدين الإسلامي أم المسيحي، في وضع كهذا من العبث أن نلف وندور حول أنفسنا، محاولين الفصل أو التفرقة بين القول بدولة دينية، والقول بدولة أو حزب بمرجعية دينية، وبنفس القدر من العبث نرى محاولات الارتكان إلى بنود مدنية أو علمانية في الدستور، للحد من هيمنة محتوى المادة الثانية، فالواقع الذي نعيشه لا يحتاج لمزيد من الشرح، للتدليل على أن تلك المادة وحدها كفيلة بجب كل ما عداها، وهو ما حدث خلال الأربعة عقود الماضية، الأمر المرشح للتفاقم في المرحلة المقبلة، مع تزايد ضغوط تيارات الإسلام السياسي في المنطقة المحيطة عموماً، ومع استفحال "جماعة الإخوان المحظورة" في المجتمع المصري، كنتيجة مباشرة لإستراتيجية وتكتيكات النظام في التعامل معها.

هي إذن قضية خيار بين الحداثة، وبين البقاء سجناء نظم بائدة، هي السبب الرئيسي إن لم يكن الأوحد فيما نواجهه من فشل في كل مجالات حياتنا، وربما كان أخف وأظرف الأمثلة على أننا نعيش عصراً غير العصر، هو مثال فريقنا الوطني لكرة القدم، الذي خلط حتى الكرة بالدين، فصار "فريق الساجدين" مضحكة العالم، يفوز مرة فيرفع المصاحف عالياً، ويخسر مرات فيسقط في يده، ليعود يبحث عن علم الكرة وفنونها، لكنه بالطبع لا يلبث أن ينسى العلم وسنينه، وتعود ريمة إلى عادتها القديمة، ويعود "فريق الساجدين" ليدفع عن نفسه تهمة الدعارة، ليس بنتائج تحقيقات جادة، ولكن استناداً إلى شهادة من اللاعب المؤمن والإداري المؤمن، وعلى الكرة والنجاح والحداثة السلام.

kghobrial@yahoo.com
Kamal Ghobrial
Alexandria- Egypt

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع