نبيل شرف الدين
لم أصدق الأمر فى البداية حين بشرنى الصديق والزميل وائل لطفى بأن الدكتور سيد القمنى حصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية، فكانت مفاجأة ليس لى وحدى بل لكل التيار الذى يمثله القمنى، وربما له شخصياً، وطالما شكا لى الرجل بمرارة من التعتيم عليه وتركه فريسة لدعاة التحريض ومن يقدمون أنفسهم باعتبارهم وكلاء حصريين للإسلام، وأشهد أن الكثيرين خذلوه فى وقت يتعاضد فيه نشطاء ذلك التيار الفاشى المتلفع بعباءة الهوس الدينى.
خذلته الدولة المصرية مراراً حين تركته بلا مورد للرزق، وقد بلغ سن الشيخوخة، وبعد أن خاض كل معارك الدولة فى مواجهة الجناح السياسى للإرهاب.
وخذله المثقفون حين تقافز بعضهم على محنته، عندما تعرض لتهديدات جدية من قبل تنظيمات الإرهاب بتصفيته، وكنت شاهداً على هذه المعركة واطلعت بأم عينى على رسائل التهديد التى وصلته، فى وقت كان يغمزه البعض بأنه ربما اختلق هذه الواقعة، ليكون فى بؤرة الحدث ويحصد المغانم، ولا أفهم أى مغانم تلك التى يمكن أن يجنيها رجل اختار الانسحاب طواعية من المشهد العام، ليعيش على هامش الحياة، وفى ضاحية نائية بعيداً عن صخب المثقفين وأشباههم، ويصبح راهباً فى محراب الحقيقة قابضاً على مصريته بعنفوان وحسم، فى وقت تسحق فيه الهوية المصرية ويجرى تسخيفها وفق مخططات شريرة لصالح هويات أخرى لا صلة لنا بها.
بالطبع لا ألوم «مشايخ الحسبة»، حين يتربصون بالقمنى كما فعلوها معه ومع غيره من قبل، عندما أساءوا استخدام حق التقاضى لينقلوا الخلاف الفكرى من ساحات الحوار إلى قاعات المحاكم، وأن يلاحقوا الرجل لإرهابه فكرياً، وإبلاغ رسالة لكل من يسير على دربه، فهذه بضاعتهم ولا يملكون سواها، ولكن علينا كمتحضرين من شتى المشارب أن نتصدى لهؤلاء حتى لا يختطفوا الوطن، ويعبثوا بمستقبل أبنائنا كما نجحوا خلال العقود الماضية فى تلطيخ وجهه بالدمامل والخيبات الثقيلة التى ندفع ثمنها الآن.
هذه الوقفة المنشودة ليست دفاعاً عن القمنى، بل عن أنفسنا وعن حريتنا وعن ديننا الإسلامى أيضاً، فعلى حد علمى لا توجد خدمة «إصلاح دليفرى»، وعلينا أن نتكاتف لمساندة الرجل فى وجوه رابطة المتاجرين بالأديان، وأن ننقذ ما يمكن إنقاذه من سمعة هذا الدين السمح، الذى أوشك المتعصبون فى تلطيخه ودفعه لحالة صدام مع بقية الأمم، وما يفعله القمنى وحسن حنفى ونصر أبوزيد وغيرهم، ليس إعلان حرب على الإسلام كما يزعم المأزومون زوراً وبهتاناً، بل يجتهدون وفق أدوات العصر ليمكّنوا ذويهم المسلمين من اللحاق بركب الأمم المتحضرة التى تتعايش فى سلام مع العالم، ولا تعادى المخالفين فى المعتقد أو الثقافة.
ما أن سمع «مشايخ الحسبة» بفوز القمنى بالجائزة حتى انتفضوا ملوحين بإثارة المعركة فى ساحات القضاء وأروقة البرلمان، على هيئة قضايا واستجوابات وطلبات إحاطة، أما التهمة الزائفة فهى الإساءة للإسلام والتطاول على نبيه، وبالطبع فهذا التكتيك ليس جديداً، بل أصبح مبتذلاً من فرط استخدامه، ليصبح الرجل فى موقع المدافع عن نفسه، والمؤسف هنا أن موقف النخبة يراوح بين الصمت المتواطئ، حتى مغازلة المتطرفين إيثارا للسلامة، ناهيك عن الطريقة الرخوة التى تدير بها أجهزة الدولة الأمر.
وحتى يتضح حجم المأساة تعالوا نقارن بين موقف السلطات من مدونٍ كل ما يفعله أنه يكتب رأياً، ربما نتفق معه أو نختلف، وكيف تلاحقه الأجهزة، بينما لا تكترث تلك الأجهزة بمشايخ الحسبة الذين يصدرون العدمية والهوس الدينى للشباب الغضّ، وبعد ذلك يتساءلون عن أسباب ظهور بثور الإرهاب هنا وهناك، وكيف تتصاعد المواجهات الطائفية على نحو خطير.
الخلاصة، ليس أمامنا سوى التفاؤل بأن فوز القمنى بأرفع الجوائز المصرية، يبعث رسالة نتمنى أن تكون صحيحة، بأن أولى الأمر أدركوا أخيراً أن هذا الفكر المستنير هو الحرس الحديدى لمصر وشعبها ومستقبلها، فى مواجهة الغزو الصحراوى المتلفع زوراً بالدين، مع أننا أول من عرف الدين فى التاريخ.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=4814&I=130