سوزان قسطندى
بقلم / سوزان قسطندي
الرهبنة القبطية فى العصر البيزنطى بعد إنقسام الكنيسة المسيحية:
منذ نزاع الأريوسيين مع الأثناسيوسيين وما تبع هذا النزاع من إضطراب وتعكير صفو السلام الكنسى، فقد إعتقد الكثيرون من المسيحيين بقرب إنتهاء العالم- ما جعلهم يهرعون آلافاً إلى الصحارى، تاركين وراءهم أولئك الذين لم يحفلوا بالإختلافات المذهبية كما أولئك الذين قرروا المواجهة فى الدفاع عن عقائدهم.
ومع أن الرهبانية حملت فى طيّاتها معنى إنكار الذات، فهى كذلك صرخة خافية من أجل بناء متجدد قوى للعقيدة الأرثوذكسية.. وبرغم أنها بدأت بعيداً عن الكنيسة نفسها وأساقفتها ووظائفها الكنسية، إلا أن الكثير من آباء الرهبانية والديرية ما لبثوا أن خرجوا من وحدتهم وإشتركوا مع أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية فى جهادهم ضد الهراطقة وقتذاك.
إلا أن الرهبنة القبطية والكنيسة القبطية بوجه عام قد تأثّرت سلباً أيضاً بإلإنقسام المذهبى الذى تعرضت له كنيسة المسيح بين أصحاب الطبيعة الواحدة Monophysite "الأرثوذكس" (وأمهم الروحية كنيسة الأسكندرية)، وأصحاب الطبيعتين Diophysite (وأمهم الروحية كنيسة رومية- والذين أطلقوا على أنفسهم فيما بعد "كاثوليك") - خاصة بعد مجمع خلقيدونية المسكونى عام 451م وقراراته المجحِفة للأرثوذكس وإتّباع الحكومة البيزنطية لمذهب كنيسة رومية (ما جعل الأرثوذكس يطلقون على أتباع هذا المذهب "ملكانيين") .. حيث تسللت أفكار البدع داخل الأوساط الكنسية والرهبانية وأحدثت بعض الإنقسامات الداخلية أيضاً.. ولم يكن هذا الإنقسام أمراً محزناً من وجهة النظر الكنسية فحسب، بل شكّل أيضاً خطراً سياسياً من نحو إلتجاء الدولة البيزنطية إلى القوة القمعية للقضاء عليه.
والمتتبع لتاريخ الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر فى هذه الفترة بالذات يلمس أنها كانت الداعى الأول للمحافظة على وحدة الكنيسة- لا سيما منذ مجمع نيقية عام 325م وكيف كان العالم المسيحى يقدِّر بطاركة الأسكندرية لعلمهم ونبوغهم، غير أنها أخذت طابعها القومى المتميّز بعد مجمع خلقيدونية عام 451م وصارت تُعرَف بأنها "الكنيسة القبطية".. وكانت سيادة البطاركة وزعامة بعض رهبان الكنيسة القبطية على الشعب (مثل الأنبا شنودة الأخميمى رئيس المتوحدين والذى إصطحبه البابا كيرلس عامود الدين معه لحضور مجمع أفسس المسكونى الثالث عام 431م، والأنبا صموئيل القلمونى المعترف) تعلو سيادة الأباطرة- مما أثار مخاوفهم من إستقلال مصر عن الإمبراطورية الرومانية خاصة وأن الشعب كان متحمّساً للتخلّص من نير الإحتلال البيزنطى.
إستفحل الخلاف بين المصريين الأرثوذكس والروم الملكانيين وانتشب القتال مراراً بينهم فأريقت دماء كثيرين، خاصة فى عهد الملكة بوليكاريا (450- 457م) حيث أُقيم بروتوريوس بطريركاً من قِبَل الحكومة فلم يقبله الأقباط الأرثوذكس فحمل عليهم مندوب الملكة بفرقة من الجند كانت معه حال اجتماعهم ليلة عيد القيامة للصلاة ففرّق شملهم وقتل كثيرين منهم واستولى على أمتعة الكنائس وأموالها وسلّمها للبطريرك الدخيل، وفى عهد القيصر ليو (457- 474م) الذى شدد الإضطهاد على الأقباط ونفى بطريركهم وسفك دماء 30 ألف من مسيحى الأسكندرية بدعوى أنهم خالفوا رأيه.
وكان نتيجة لإضطهاد الإمبراطور جستنيان (يوستينيانوس) (527- 565م) لأقباط مصر هروب الكثيرين منهم إلى برية شيهيت بوادى النطرون، وحين زاد إضطهاد الإمبراطور وتعيينه بطاركة من الملكانيين بدأ البطاركة المصريين فى الهروب إلى دير القديس مكاريوس (أبو مقار)، وبلغ الإضطهاد أشدّه حين ذبح عدد كبير من الأقباط الذين رفضوا الإنصياع لمذهب الإمبراطور- وقدّر المقريزى عددهم بألفى نسمة.
على أن برية شيهيت تعرّضت بعد هذا كله إلى غارة أخرى من غارات البربر (يمكن تحديد تاريخها بين عامى 570، 571م)، تركتها خراباً بعد أن ذبح البربر عدداً من شيوخها ونهبوا أمتعتهم وأسروا بعضهم وباعوهم فى أسواق النخاسة.. وإذ تركت غارة البرابرة برية شيهيت خراباً لفترة إمتدت نحو نصف قرن، فإن هذه الفترة يحيطها الغموض إلا أنه من المحتمل أن عدداً قليلاً من رهبانها عاد إليها بعد هذه الفترة ولكنه لم يتمكن من إعادة الحياة الرهبانية فيها كما كانت.
على أن الحياة الرهبانية التوحدية إلى جانب الحياة الديرية إستمرت منتشرة فى القطر المصرى بوجه عام، واستمر إتجاه الرهبنة إلى العمل فى إطار الكنيسة بشكل واضح- كما ذكرت المراجع.
صار البطاركة يتنقلون من دير إلى دير طلباً للنجاة وتشجيعاً للمؤمنين والثابتين على الإيمان الأرثوذكسى، حتى إستقر المقام ببطريرك الأسكندرية فى دير أبى مقار الذى إجتمع به عدداً كبير من هؤلاء الهاربين.. وقد إحتل دير أبى مقار أهمية كبيرة فيما بعد حتى أن المقريزى ذكر أن البطريرك لم يكن يُعتَرَف ببطريركيته ما لم ينصَّب فى كنيسة أبى مقار، وصار هذا تقليداً ظل البطاركة يتّبعونه فترة طويلة فيذهبون إلى هناك حتى بعد رسامتهم وهكذا صار دير أبو مقار المركز الرئيسى للكرازة المرقسية، وأول من إنتقل إلى هناك هو البابا دميان 35 (570- 603م)، وأول من خاطر منهم بالدخول إلى مقر كرسيه بالأسكندرية (بعد أن منع جستنيان دخول البطاركة الأرثوذكس إليها) هو البابا أنسطاسيوس 36 (603- 614م) عام 605م فقد كان قوى القلب يمضى إلى المدينة ويدخلها فى كل وقت ويرسم الكهنة ويرمم الكنائس.
وفى عام 627م جلا الفرس عن مصر التى عادت إلى حظيرة الدولة البيزنطية.. وآنذاك إقتنع الإمبراطور البيزنطى هركوليس Heraclius (هرقل) (610- 641م) أن إعادة تماسك الأقاليم التى مزّقها الفرس من إمبراطوريته يمكن أن يتم بتسوية الخلافات المذهبية، وحتى يضمن لتسويته بين الملكانيين والأرثوذكس النجاح سعى لتعيين كيروس Cyrus (قيرس - المقوقس كما دعاه العرب) البطريرك الملكانى على الأسكندرية والوالى الرومانى على مصر عام 628م ..وفى هذا الوقت كان البطريرك الأرثوذكسى على الأسكندرية هو البابا بنيامين الأول 38 (620- 659م) - وبحسب تاريخ البطاركة أُوحى إليه أن يهرب حتى لا يقع تحت ضغط قيرس ولذلك فبعد أن حذّر شعبه ورعاتهم من التهاون فى الإيمان الأرثوذكسى ترك الأسكندرية عام 631م سيراً على الأقدام حتى وصل إلى وادى هبيب حيث كان عدد الرهبان قليلاً فشجّعهم ثم إتّجه نحو أحد أديرة الصعيد حيث إختفى مدة عشر سنوات (بالإضافة إلى ثلاث سنوات أخرى قضاها على الأرجح فى دير أبو مقار بوادى هبيب قبل أن يدخل العرب المسلمون الأسكندرية)، وكان موقف البابا بنيامين مسالماً خشية حدوث الإضطرابات التى قد لا يُحمَد عقباها نتيجة هذه التسوية التى لن يقبلها شعب الأسكندرية بالمرة.. وهذا ما أعلنه الشعب القبطى بزعامة الرهبان الأقباط أن البطريرك قيرس الذى عيّنه الإمبراطور هرقل هو عدو المسيح وأنه صنيعة القسطنطينية والإمبراطور البيزنطى وأنه يحاول فرض سيطرة الإمبراطورية على البلاد عن طريق فرض الآراء والمذاهب المستوردة ، فقد مزّق الأنبا صموئيل المعترف (الذى كان قساً ورئيساً لدير أبى مقار) وثيقة قيرس للتسوية والتى أرسلها عام 631م إلى رهبان أديرة وادى النطرون مع وفد إمبراطورى مؤيّد بعدد كبير من الجند (ومؤدى هذه الوثيقة طلب الرهبان الإعتراف بقرارات مجمع خلقيدونية وكذلك قرارات البابا ليو الأول "لاون" بابا رومية (440- 461م) وأعلن حرم كل من نادى بها- مما كان سبباً فى وقوعه هو ورهبانه تحت عقاب الإمبراطور ففقد إحدى عينيه وإضطر أن يهرب هو ومن معه جنوباً بين حى وميت حتى وصل إلى صحراء الفيوم وأقام بها ديراً لازال يحمل إسمه للآن، كما فرّ بعض الرهبان إلى دير نهيا (بإمبابة محافظة الجيزة حالياً).. على أن هذا كله لم يمنع رضوخ بعض الرهبان الذين آثروا السلامة الجسدية وقبولهم للوثيقة، وهؤلاء عاشوا باقى حياتهم فى أديرة وادى النطرون.
الرهبنة القبطية تضمحل فى العصر العربى وتحت حكم دولة الخلافة الإسلامية:
]دخل جيش العرب بقيادة عمرو بن العاص حدود أرض مصر من العريش عام 639م ومنها إلى بلبيس فالوجه البحرى والقبلى، وأعملوا الذبح فى المصريين (حتى قيل أنهم فتكوا بأهل مدينة نقيوس فتكاً ذريعاً ولم يبق أحداً ممن كانوا فى الشوارع أو الكنائس) وفرضوا الضرائب الثقيلة (ثلاثة أضعاف) على سكان المدن التى إحتلّوها بدون مقاومة تذكر وأحرقوا المدن التى قاومتهم وحملوا لواء الظفر فى قتال جيش الروم حتى سقطت البلاد تماماً بتسليم المقوقس الأسكندرية عام 641م.
لما رأى المقوقس إشتداد بأس العرب تفاوض معهم، فكتب إليه عمرو يقول "ليس لك ولقومك سبيل للنجاة إلا إذا إخترت واحداً من هذه الشروط إما الجزية أو الإسلام أو إستمرار القتال"، فجمع المقوقس رجال حكومته وتفاوض مع رسل عمرو واتّفق رأيهم على إيثار الجزية ورضوا بها على أنها صُلح يكون بينهم، فاجتمع المقوقس وعمرو وتقرر الصلح بينهما بوثيقة مفادها أن يعطى الأمان للأقباط ومن أراد البقاء بمصر من الروم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم فى نظير أن يدفع كل قبطى دينارين عدا الشيخ والولد البلغ من العمر 13 سنة والمرأة، وأحصى من دفع الجزية فى تلك السنة من القبط ستة ملايين.. وكان عدد الأقباط قد نقص بعد إضطهاد ديوكلتيانوس، ولكنه أخذ يتزايد بعد إنتشار المسيحية حتى بلغ إبان دخول العرب مصر أربعة وعشرين مليوناً تقريباً.
ذكر المقريزى أنه بعد إستتباب السلطان للعرب فى مصر وبينما كان القائد العربى يشتغل فى تدبير مصالحة بالأسكندرية، سمع رهبان برية شيهت أن أمّة جديدة ملكت البلاد فسار منهم إلى عمرو نحو سبعون ألفاً وفى يد كل منهم عكّازه واتجّهوا نحو طرانة واستقبلوا عمرو وهو فى طريق عودته من الأسكندرية إلى حيث بنى الفسطاط (والذى بناه بمساعدة الأقباط وجعله عاصمة الديار المصرية ومركز الإمارة)- ومع أن هذا العد ربما يكون مبالغاً فيه إلا أنه يدل على وجود نشاط رهبانى كبير فى هذه المنطقة، فخاف عمرو أن يكون هذا الجيش قوة مقاومة ولكنهم تقدّموا إليه وطلبوا منه أن يمنحهم حريته الدينية ويأمر برجوع بطريركهم من عزلته الإضطرارية، فأجاب عمرو طلبهم وأظهر ميله للأقباط فازداد هؤلاء ثقة به ومالو إليه خصوصاً لما رأوه يفتح لهم الصدور ويبيح لهم إقامة الكنائس فى وسط الفسطاط،كما عزل البطريرك الملكانى وأصدر إعلانه أو أمانه المشهور يدعو فيه البابا بنيامين ليعود من مخبئه ويدير شئون الكنيسة بالأسكندرية.. فعاد البابا بنيامين من دير أبى مقار عام 644م إلى كرسيه بالأسكندرية (على أن عودته لم تقلل من شأن هذا الدير بل ظل إنتقال الباباوات إليه مرعياً فترة طويلة حتى كان يمر البطريرك المنتَخَب بحفلة تجليس ثانية به، وتعوّد الكثير من البطاركة قضاء فترة الصوم الكبير وحضور صلاة عيد الفصح فيه، وكانوا يحرصون على طبخ الميرون فى هذا الدير لمدة طويلة) وبدأ عمله بلمّ شعث الكنيسة التى فرّقتها الإضطهادات السابقة ولم ينسَ أن يمد يد البناء لأديرة وادى هبيب وسليا، وذكر المقريزى أن البطريرك أعاد بناء دير الأنبا بيشوى ودير العذراء بوادى هبيب.. ولا شك أن هذا أدى إلى إنعاش الحياة الرهبانية- حيث أيّدت المراجع هذه الزيادة فى عدد الرهبان وكذلك زيادة عدد القلالى وقتذاك.
وكتب المقريزى فى الخطط عن فتح مصر يقول أن عمراً أعلن لأهل مصر أن من كتمنى كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته، واحتمل المصريون جشع عمرو بسبب موقفه من البطرك بنيامين الذى كان له النفوذ الأكبر على قلوب المصريين.. ومع ذلك فإن عمرو بن العاص هو أفضل من حكم مصر وأكثرهم رفقاً بالمصريين بالمقارنة بغيره ذلك أن ولاة مصر التاليين لم يتحلّوا بنفس الذكاء السياسى الذى تحلّى به عمرو الذى أعطى الكنيسة بعض المميزات بعد أن أدرك طبيعة العلاقة بين الكنيسة والشعب من جهة وبينها وبين السلطة الحاكمة من الجهة الأخرى، والثابت أنه لم يكن مسرفاً فى سفك الدماء كما فعل غيره من الولاة، كما أنه كان حسن السياسة فى جباية الخراج والجزية وكان يجمع الجزية 12 مليون دينار، فأصبح الوالى بعده عبد الله بن أبى سرح يجمعها 14 مليون دينار.
وتبدل الحال بعد تحكم الأمويين من أولاد مروان بن الحكم، ووصل الإضطهاد إلى البطاركة والرهبان أنفسهم.. ففى ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر صودر البطرك مرتين، كما أمر عبد العزيز بإحصاء الرهبان وأخذ منهم الجزية- وهى أول جزية أُخذت من الرهبان..
وتولى مصر عبد الله إبن الخليفة عبد الملك بن مروان، فإشتد على النصارى.. وإقتدى به الوالى التالى قرّة بن شريك فأنزل بالنصارى شدائد لم يُبتَلوا بمثلها من قبل على حد قول المقريزى.. وأقام الأمويون مذبحة للأقباط سنة 107 هجرية حين ثاروا فى شرق الدلتا بسبب جشع الوالى عبد الله بن الحبحاب.. وفى خلافة يزيد بن عبد الملك تطرّف الوالى أسامة بن زيد التنوخى فى إضطهاد الأقباط فصادر أموالهم ووسم أيدى الرهبان بحلقة من حديد، وكل من وجده منهم بغير وسم قطع يده، وفرض غرامات على الأقباط، وصادر الأموال من الأديرة، ومن وجده من الرهبان فى تلك الأديرة بلا وسم ضرب عنقه أو عذبه، وهدم الكنائس وكسر الصلبان.. وفى خلافة هشام بن عبد الملك تشدد الوالى حنطلة بن صفوان فى زيادة الخراج، وأحصى الأقباط وجعل على كل نصرانى وشماً فيه صورة أسد، ومن وجده بلا وشم على يده قطعها.. وأدى تطرف الولاة الأمويين فى جمع الأموال من المصريين (وهم أقدر شعوب الدنيا على الإحتمال والصبر ولكن العسف الأموى كان فوق طاقة المصريين أنفسهم) إلى اضطرار المصريين للقيام بثورات متعاقبة، فأخمد الأمويون ثوراتهم بالحديد والنار وتطرّفوا فى إضطهادهم والعسف بهم.
يسترسل ساويرس بن المقفّع فى ذكر المصائب التى حلّت بالأقباط على أيدى هؤلاء الولاة بما يفوق تعذيب الرومان للرهبان فى فترة الشدة العظمى، وفرضهم الضرائب على رهبان ورجال الكنيسة مما لم يكن مسبوقاً أبداً فى العهود السابقة.. ويروى أنه بمجرد إعلان حفص بن الوليد (127- 128 هجرية) إعفاء كل من يسلم من الجزية، بادر حوالى أربعة وعشرين ألفاً من الأقباط واعتنقوا الإسلام تخلّصاً من قيود الجزية وشتى أنواع الضرائب والإضطهادات الأخرى.. وبمرور الأيام وتوطيد دعائم الحكم العربى كانت الحلقة تضيق حول وضع الأقباط المصريين.. ولم يعد التقسيم الأول بين كونهم أهل ذمّة يدفعون الجزية والخراج ويعيشون فى أماكنهم بعيداً عن العرب حامياً لهم، بل تعرّضوا لضيق حلقة العزلة من حولهم رويداً رويداً، وأخذت عوامل الضعف تعمل فى الكنيسة والرهبنة القبطية.. ودفع هذا الحصار الكنائس والرهبان إلى المزيد من الجمود والإنغلاق والدخول فى ظلامية القرون الوسطى.
فعمرو بن العاص كان رائداً للدولة الأموية فى شراهتها فى جمع الجزية من الأقباط وغيرهم، وحتى من أسلم من الأقباط كانوا لا يعفونه من دفع الجزية، والإستثناء الوحيد من خلفاء بنى أميّة كان الخليفة عمر بن عبد العزيز فى حكمه القصير- فقد رفع الجزية عمن أسلم.. وظلت الجزية نقطة سوداء فى تاريخ الولاة الأمويين والعباسيين يدفعها من بقى على دينه من المصريين إلى نهاية العصر المملوكى.. وجاء العثمانيون ففرضوا الجزية على المصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين، وظلت الخزانة المصرية تدفعها لتركيا بصورة عادية حتى تنبّه لها عبد الناصر وألغاها.
توالت على مصر دولة الخلافة العباسية والدول المستقلة فى إطار الخلافة العباسية كالطولونية والأخشيدية، ثم الدولة الفاطمية وبعدها الدولة الأيوبية التى إنتهت بسيطرة المماليك.. ومنذ بداية الخلافة العباسية فى خلافة المتوكل على الله العباسى واصل الأقباط ثوراتهم على ظلم الولاة العباسيين، وكان الإضطهاد فى أغلبه رسمياً من السلطة الحاكمة التى تريد إعتصار الضرائب بالقسوة والعنف فلا يجد الأقباط طريقة إلا الثورة التى تنتهى بالهزيمة والمذابح وهدم الكنائس ومزيد من التضييق عليهم.. وكانت ثورة 216 هجرية هى آخر ثورات الأقباط الحربية وبعدها إتبعوا طريق المقاومة السرية، وننقل معاناة الأقباط عن المقريزى (وهو الذى لا يخفى تعصّبه ضد النصارى) فيقول فى التعليق على ثورة 216 هجرية وآثارها "ومن حينئذ ذُلّت القبط فى جميع أرض مصر ولم يقدر أحد منهم على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكيدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين".
وشهد عصر الخليفة المتوكل ظاهرة جديدة هى إنتصار الفكر الحنبلى المتشدد وهزيمة الفكر المعتزلى العقلانى، وقد إستمال السلفيون من أصحاب إبن حنبل ورواة الأحاديث الخليفة المتوكل إليهم، وبتأثيرهم دخلت الدولة العباسية فى إضطهاد مخالفيها فى المذهب والدين، فحوكم شيوخ التصوّف وطورد الشيعة وهُدم ضريح الحسين فى كربلاء وصدرت قرارات لإضطهاد اليهود والنصارى، وإنتشرت الروايات والفتاوى التى تضع الإطار التشريعى لتلك الممارسات- ومنها الحديث المشهور "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" والذى يعتبر الدستور العملى للتطرف حتى الآن.. وهذا الفكركان له أبلغ الأثر فى إنتقال الإضطهاد للأقباط من دائرة الحكم والسياسة إلى الشارع والعوام، وساعدت الروايات والفتاوى وجهود الفقهاء والقصاصين وأهل الحديث فى شحن الأفراد العاديين بالكراهية ضد مخالفيهم فى المذهب سواء كانوا صوفية أو شيعة أو كانوا مخالفين لهم فى الدين أى من اليهود أو من النصارى، وبالتالى تحول الإضطهاد الرسمى العنصرى للأقباط إلى إضطهاد دينى يشارك فيه المصرى المسلم ضد أخيه المصرى القبطى.
وقامت الدولة الفاطمية بخلافة شيعية فى مصر تناوئ الخلافة السنّية فى بغداد، وفى البداية كان الفاطميون متسامحين مع الأقباط واليهود خصوصاً الخليفة المعزّ لدين الله وإبنه الخليفة العزيز بالله.. إلا أن الخليفة الحاكم إبن الخليفة العزيز بالله الفاطمى كان مشكلة مزمنة لكل المصريين وخصوصاً الأقباط بسبب قراراته الغريبة المتناقضة وجرأته على سفك الدماء، ففى عام 393 هجرية أمر الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمى بإعتقال البطريرك زخارياس لمدة ثلاثة شهور، وإنتقل الإضطهاد من القاهرة إلى الأقاليم فكتب الخليفة الحاكم إلى ولاته بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والأديرة فعم الهدم فيها منذ عام 403 هجرية واستمر الهدم حتى وصل طبقاً لإحصاء المقريزى سنة 405 هجرية إلى أكثر من ثلاثين ألف منشأة دينية بين بيعة لليهود ودير وكنيسة للنصارى فى مصر والشام وتم نهب كل مقتنياتها وأوقافها، ثم إشتدت الحالة العصبية بالخليفة فأصدر قراراً بنفى الأقباط وإخراجهم من مصر إلى بلاد الروم ومعهم اليهود فإجتمع أعيانهم تحت قصر الخليفة يبكون ويصرخون حتى رحمهم الخليفة ورجع عن قرار النفى.. وإضطر كثيرون للدخول فى الإسلام.. وكانت تلك أفظع تجربة للإضطهاد الطائفى فى تاريخ مصر الوسيط.
وعلى عكس المتوقّع لم ينعكس إنتصار الصوفية - المشهورين بتسامحهم- على الفقهاء المتزمّتين من تيار إبن تيمية إثر الصراع السياسى بين الحنابلة والصوفية فى العصر المملوكى- لم ينعكس تسامحاً سائداً على صعيد العلاقة بالأقباط، بل ظل إضطهاد الفقهاء والصوفية للأقباط موجوداً فى فترات مختلفة، لأن بعض الصوفية إتّفق مع الفقهاء الحنابلة فى إعتبار السنن المكتوبة فى العصر العباسى الثانى تراثاً دينياً يجب التمسّك به (أى يتصارعون فيما بينهم ولكن يجتمعون على كراهية الأقباط).
وحدثت هذه الواقعة الإرهابية والغامضة بالتاريخ المصرى وهى واقعة الإحراق العام للكنائس المصرية فى وقت واحد سنة 721 هجرية، إذ أنه بعد صلاة الجمعة يوم التاسع من شهر ربيع الأول سنة 721 هجرية فوجئ المصلون فى كل المدن المصرية التى بها كنائس بمجذوب مجهول الشخصية يقف صائحاً مضطرباً داعياً لحرق الكنائس، وحين يخرج المسلمون من المسجد يفاجأون بتدمير الكنائس فى المدينة وحرقها وقد سويت بالأرض، وفى ضوء الإعتقاد فى بركات المجاذيب الذى تسيّد العصر المملوكى يؤمن الناس بأنها إرادة إلهية وانكشفت أمام بصيرة ذلك المجذوب "المكشوف عنه الحجاب"، وسرعان ما يدبّ الحماس إلى العوام ويشاركون فى الإجهاز على ما تبقى من بنيان للكنيسة، ووصل إلى علم السلطان الناصر محمد بن قلاوون ما حدث حيث جاءته الأنباء بأن الكنائس قد دمرت فى نفس الوقت وبنفس الكيفية من ضواحى الأسكندرية والوجه البحرى والقاهرة والصعيد وأن كل الكنائس- عدا الكنيسة المعلقة- قد أصابها الهدم والحريق فى نفس الوقت، وبلغ عدد الكنائس المنهدمة ستين كنيسة !! وبعض الأقباط كان يعلن إسلامه لينجو من دائرة الاضطهاد ويدعم مركزه الوظيفى فى الدولة المملوكية التى قامت إدارتها على الظلم والعسف.
وفى عام 1517م كان الغزو العثمانى والخلافة العثمانية التى سيطرت على مصر فعلياً أوإسمياً حتى سقوطها، وقد كان إضطهاد الأقباط فى هذه الفترة سمة بارزة، وإعتنق الإسلام فى هذا العصر كثيرون من الصنّاع الأقباط.
ومن هنا ندرك كيف وُجِّهَت إلى الرهبنة القبطية ضربات مؤثرة بعد القرن السابع الميلادى حتى بدأ الرهبان والمتوحدون يهجرون الأديرة، فضلاً عن خراب الأديرة وهدمها.. وتلاحقت غارات البربر على أديرة وادى النطرون نذكر منها غارتين عام 807م وعام 817م.. وشهدت الأديرة منذ عصر المماليك (1251- 1517م) الخراب والهدم، وفى عصر العثمانيين (1517 وحتى عام 1849م) هُجِرَت معظم الأديرة.. وقدّم أبو صالح الأرمنى وصفاً مفيداً للأديرة فى مصر فى القرن الثالث عشر، كما فعل ذلك المقريزى فى وقت لاحق.
ويوجد من النسّاك الأقباط من ذاع صيتهم فى تلك الحقبة بالإضافة إلى آباء الكنيسة، مثل القديس سمعان الدبّاغ أو الخرّاز (القرن العاشر الميلادى)، والأم أفروسينا رئيسة دير مارجرجس بحارة زويلة (القرن 13)، والقديس برسوم العريان (القرن 13 وأوائل 14)، والقديس فريج (رويس) (القرن 14).
لقراءة الجزء الأول
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=489&I=13