بقلم: أحمد يوسف أحمد
كلما حدث ما يمس العلاقة بين مسلمى الأمة وأقباطها عدت بالذاكرة إلى تلك الأيام من الزمن الجميل التى وصف «بهاء طاهر» بعض ملامحها بحس الأديب المرهف فى رائعته «خالتى صفية والدير»: جيرة السكن، وصحبة الأصدقاء، ورهافة المشاعر، وحسن المعاملة، والثقة المتبادلة، واستحضار المواقف الوطنية المشتركة، وتجليات سماحة الديانتين، وغير ذلك من مظاهر صحة العلاقة بين أفراد مجتمع واحد يعيشون فى وطن وصفه البابا شنودة يوما بأنه ليس وطنا نعيش فيه، وإنما وطن يعيش فينا.
لم تكن الحياة بالتأكيد فى تلك الأيام بمنأى عن المشاكل، لكنها كانت مشاكل العلاقة داخل الأسرة الواحدة التى يختلف أبناؤها، بل ويتصارعون أحيانا.
بالتدريج بدا وكأن جميع هذه المظاهر السامية للعلاقة بين مسلمى مصر وأقباطها تسحب من تحت أقدامنا، وبدلا من استمرار مسيرة تاريخية طويلة نحو الانصهار فى كيان مجتمعى واحد إذا بعلامات نكسة حاول المرء فى البداية ألا يصدق أنها ألمت بالمجتمع المصرى، غير أن الواقع فرض نفسه، فإذا بهذه المشكلة الكئيبة تتسلل إلى نسيج العلاقات داخل المجتمع المصرى، بل وتستشرى داخله شيئا فشيئا.
لا يستطيع المرء أن يحدد على نحو علمى كيف بدأت المشكلة، وهل تعود إلى تلك الثقافة المتطرفة التى تغلغلت فى حياتنا باسم الدين مع بداية سبعينيات القرن الماضى؟ أم إلى تطرف واستقواء بالخارج رعاه بصفة خاصة بعض من أقباط المهجر ومن خلفهم قوى لا تريد بالوطن خيرا؟ أم إلى الأمرين معا؟
على أية حال فإن ما حدث قد حدث، ولا شك أن الأزمة الوطنية العامة قد غذته، فأصبح بعض المصريين من المسلمين والأقباط يفرجون عن كربتهم الاقتصادية والاجتماعية بتوهم أسباب طائفية لهذه الكربة، وانعكس هذا فى سلوك كل منهم تجاه الآخر، وأصبح بعض المسلمين ــ الذين رفض واحد من أعظم الخلفاء الراشدين الصلاة فى كنيسة، حتى لا يأتى يوم يقال فيه هنا صلى عمر، ويقام مسجد فى موقع صلاته ــ يفتشون عن أماكن عبادة محتملة جديدة لشركاء الوطن ويعتدون عليها فى بعض الأحيان، وأصبحت قصص الحب الرومانسية العابرة ــ التى كان أصحابها سرعان ما يكتشفون القيود المحيطة بها لتنتهى تلك القصص بسلاسة مخلفة وراءها أجمل الذكريات ــ أصبحت هذه القصص وقودا لنيران بغض دينى متبادل يشعلها المتطرفون على الجانبين، وتلاحقها اتهامات الأسلمة أو التنصير، وانكمشت شراكات الأعمال والمعاملات التجارية بين أبناء الوطن الواحد إلى مشروعات تكتسى مسوح الدين، ومعاملات تجارية تبنى على أساسها، وبدأ التطرف يأخذ طريقه إلى المعتدلين على الجانبين، فأخذت العزلة الاجتماعية تتزايد بين شركاء الوطن، وبدلا من أن تدور نقاشاتنا حول قضايا كبرى كضمان المشاركة السليمة للأقباط فى الحياة السياسية، والإنصاف فى توزيع المناصب العامة، إذا بقبطى يقتل مسلما لخلاف قيل إنه حول رهن زجاجة مياه غازية!
وإذا كان تحديد الأسباب القاطعة والأوزان النسبية لهذه الأسباب التى تفسر ما آل إليه حال مصر يبدو صعبا ــ كما سبقت الإشارة ــ فإن الأمر ليس كذلك بالتأكيد فى نقد آليات المواجهة التى يفترض أن تقوم بها الدولة والمجتمع معا، ولنا فى هذا الصدد أكثر من ملاحظة.
أما الملاحظة الأولى فتتعلق بذلك الإصرار السخيف على أن ما يحدث ليس بالفتنة الطائفية، على أساس أنه فى كل يوم يقتل المسلمون مسلمين والأقباط أقباطا، فما الغريب فى أن يقتل المسلم قبطيا أو يقتل قبطى مسلما؟ وما يقال عن القتل يقال عن غيره، وما أحسب أننى سمعت أسخف من هذا المنطق فى الاستهانة بمستقبل الوطن، فالمسلمون والحمد لله لا يهاجمون مساجد بعضهم البعض، وكذلك لا يهاجم الأقباط كنائسهم، ولذلك من السخف أن توصف الأحداث الخاصة بممارسة الشعائر الدينية بأنها لا طائفية، كذلك فإن المسلمين لا يتهمون بعضهم البعض باختطاف بناتهم، وكذلك يفعل الأقباط، ومن التهافت إذن أن توصف الأحداث التى تلاحقنا كل يوم عن محاولات أسلمة أو تنصير ترتبط بهذه القضية بأنها حوادث عادية. ولذلك فأول العلاج أن نعترف بأن المرض قد أصابنا، وأن نصرف جهودنا فى تشخيصه وتحديد أسبابه، وقياس حدة أعراضه، حتى يمكننا أن نبدأ الخطوة الأولى على طريق العلاج.
والملاحظة الثانية أن حلول ما ينفجر من مشكلات طائفية بوتيرة متسارعة فى السنوات الأخيرة تبدو دائما حلولا شكلية وجزئية، ففى أعقاب كل أزمة يتحرك رجال الدين الرسميين من الطرفين، ومسئولو الحكم المحلى لكى يجمعوا بعد وقت يقصر أو يطول أطراف المشكلة، ويهتف الجميع للوحدة الوطنية، وتعلن عودة الأمور «كذبا» إلى مجاريها، دون أن تمس الأسباب الحقيقية للمشكلات. هكذا تتحول الدولة إلى عربة إطفاء تهرع من موقع لآخر فى محاولات عبثية لمحاصرة النيران، فيما هناك من يشعلها عمدا، والأسهل كثيرا أن نبحث عن مشعلى الحرائق، ونواجههم بالكيفية المثلى، بدلا من أن نلهث خلف الحرائق، خاصة عندما تكون عربة الإطفاء معطوبة، وما أدراك مدى العطب الذى أصاب هذه العربة بمن فيها!
والملاحظة الثالثة أن الدولة لا تبدى الاهتمام الكافى بهذه المعضلة الخطيرة، فإدارة الأزمات الطائفية موكولة إلى مسئولين من الصف الثالث (أى ما بعد المستويين الرئاسى والوزارى)، وظنى أن المشكلة باتت تحتاج تدخلا فاعلا على أعلى المستويات، لكى يشعر المتطرفون بخطورة ما يفعلون إن كانوا حسنى النية، أو يخشون قبضة الدولة إن كانت نواياهم سيئة، ولا ننسى أن إحدى البدايات الصحيحة للمواجهة قد ارتبطت بانغماس الدولة على أعلى المستويات وبجميع مؤسساتها فى سبعينات القرن الماضى فى علاج أحداث الفتنة الطائفية فى الزاوية الحمراء، وقد أفضى هذا كله إلى تقرير رفيع ارتبط باسم المرحوم جمال العطيفى ما زال يشار إليه كلما مرت بالوطن ليلة ظلماء، وإذا كانت هذه الإشارات تحمل معنى التقدير للتقرير فإنها تشير للأسف من ناحية أخرى إلى أنه قد ضل طريقه إلى التطبيق حتى الآن.
والملاحظة الرابعة والأخيرة أن قوى المجتمع المدنى تبدو بدورها غير مستنفرة حتى الآن كما ينبغى فى مواجهة هذه الأزمة الخطيرة، وربما يعود ذلك إلى أن جدول أعمالها صار مثقلا بأولويات أخرى، أو أن بعضها قد يكون جزء من الأزمة وليس من حلها، لكنه من الواضح أن كلا من الأزهر والكنيسة لا يقوم بالدور المنتظر منهما، وأخشى أن يكون كلاهما مواجه بمشكلات داخلية تعوق الاضطلاع بهذا الدور، كما أن الأحزاب السياسية بدورها ــ جريا على الممارسة الشائعة التى تكتفى بالقول دون الفعل ــ لا تقوم بدور يذكر فى هذا الصدد، وإذا كنت أعجب للأحزاب المصرية جميعا فإن عجبى أشد من حزب الوفد، ليس لأن قبطيا مصريا وطنيا يحظى باحترام الجميع يتولى أمانته العامة، ولكن لأن الوحدة الوطنية جزء من تاريخ الوفد وشرعيته.
لا مبالغة فى القول بأن أثمن ما تمتلكه مصر من عوامل القوة هو نسيجها المجتمعى الفريد الذى جعلها دائما بمنأى عن الانكفاء لمواجهة مخاطر التفكك الداخلى، كما يحدث فى أقطار عربية عديدة مجاورة، بل وفى بلدان أخرى كثيرة بطول العالم وعرضه، وأخشى ألا نكون مدركين حقا لقيمة الوحدة الوطنية ومعناها فى معادلة القوة المصرية فى زمن عزت فيه عناصر هذه القوة، ولا أحسب أن الغفلة سوف تصل بنا إلى أن نترك الأمور تسير سيرها الراهن نحو مستقبل محفوف بالمخاطر، غير أن إنقاذ الوحدة الوطنية المصرية لا يكون بالتمنى وحده.
نقلا عن الشروق
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=4931&I=133