نذير الماجد
بقلم: نذير الماجد
الحداثة التي هي في أبسط مضامينها سبقا في الزمن وسيرورة اجتماعية هي من ناحية أخرى حقل تصارع أيديولوجي بوصفها امتيازا يكافح في سبيله كل مذهب فكري أو اجتماعي سياسي، فهي بهذا المعنى تمثل صلاحية الفكر في تمثله وعلاقته بالواقع الآني تسعى الأيديولوجيا إلى احرازها، وبذلك تذوب الفوارق وتختفي بين الاتجاهات والرؤى الفكرية وتنهار المسافة بل تكاد تنعدم بين خطاب احيائي أو تراثي وآخر توفيقي وثالث حداثي، بما أنها جميعا تخوض حرب ادعاء الصلاحية المعرفية وتمثل العالم، وسواء كانت هذه المعرفة سعيا محموما لتمثل الأشياء ذهنيا أو كانت تتسم بغائية تجنح لتغيير العالم وليس فهمه أو اكتشافه، أي سواء كان الفكر واقعيا أو مثاليا، تفسيريا أو تغييريا، فإن هناك ادراكا بالزمن وسعيا مشتركا نحو الحداثة.
إن المفهوم الهلامي للحداثة بتجلياته ومدلولاته العديدة وباقترانه بحركة التاريخ والتي تنعكس في بعدها الجدلي كشعور بالزمن يتداخل مع مفهوم آخر لا يقل التباسا هو مفهوم المعاصرة، تجمع بينهما في ترادف مفهومي السمة القارة للتزامن أي ادراك حركة الزمن والشعور به، ولأنها سيرورة اجتماعية في الزمن تشمل الفكر والسياسة والحضارة والأدب وكل التجليات الثقافية الناجمة عن ادراك الانسان بذاته والكون والتاريخ فإن المفارقة والتحدي الثقافي المقترن بجرح نرجسي والكامن تحت تأثيرات الحداثة المحتمة هي تشكلها في سياق ثقافي وحضاري محدد، فالحداثة كظاهرة تاريخية انبثقت في وسط جغرافي وثقافي محدد هو الوسط الأوروبي.
هنا تكمن اشكالية الحداثة وبعدها الجدلي خاصة إذا ما ترافقت تأثيراتها مع ارادة هيمنة سلطوية تبلورت ثقافيا في بعض وجوه الاستشراق وسياسيا في الهيمنة الاستعمارية التي قادت إلى شعور مباغت بالصدمة الحضارية الناجمة عن المواجهة مع الآخر بوجهه المشرق الماثل في الحداثة والمترافق في الآن نفسه مع الوجه القاتم المتمثل في الهيمنة الاستعمارية والتوجه الكولوينالي.
كانت مواجهة كفيلة بتعرية الذات وانكشاف مدى التراجع والهزيمة الحضارية التي منيت بها الذات العربية والاسلامية فسرعان ما تشكلت خطابات عديدة ومتفاوتة في ادراكها لحجم الأزمة وتحديات النهوض، لكنها رغم هذا التفاوت تشترك في حافز معرفي مشترك أو أفق معرفي يمثل عقلانية الحداثة أي تلك العقلانية أو الأفق المعرفي "الأبستيمي" الذي تحدث حوله مشيل فوكو، فإذا كان لكل عصر أو مرحلة تاريخية أفق معرفي خاص فإن الحداثة بوصفها ظاهرة تاريخية ورؤية فلسفية وفكرية تشكل امتدادا طبيعيا للمكتسبات المعرفية لعصر الأنوار والذي يشكل بدوره امتدادا لافرازات النهضة في ايطاليا مرورا بلحظة الاصلاح الديني في ألمانيا وهي المحطات التي أدت إلى اعادة الاعتبار للعقل بعد انتكاسته في العصور الوسطى.
هذه المغامرة الفكرية التي خاض غمارها الانسان طيلة قرون عديدة أدت إلى أفق مفتوح للعقلانية تتسم بقطيعة معرفية، كما أن لها قابلية التمدد أو الانحسار، لكنها في الآن نفسه لازالت قيد التشكل، مما يعني أن نظريات "ما بعد الحداثة " ليست سوى امتدادا طبيعيا للحداثة كما يؤكد الفيلسوف العقلاني هابرماس، وذلك بخلاف من يلوذ ويتبنى أفكار ما بعد الحداثة ظنا منه أنها جاءت كتفنيد ونقض للحداثة التي تحتفي بالعقل وتسعى لانتشال الانسان من الماضي المحمل بالأوهام والتفاسير الميثولوجية للكون لتحل محله تفسيرا عقلانيا واعيا، وهكذا كان على الحداثة أن ترسخ شعورا متأصلا بالحاضر والتجربة المعاشة المتأتية من صيرورة متشكلة باستمرار.
هذا الانحياز للحاضر والعقل وترسيخ فكرة التقدم والتفسير العلمي للكون والأشياء وتكوين الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية وعلمنة المعرفة والمجتمع والسياسة وحتى الدين وتفسير بنية المجتمع تفسيرا علميا والانحياز المطلق للإنسان بوصفه قيمة مركزية تقوم على أساسها الأخلاق المدنية والنظام السياسي وغيرها من خصائص هي التي ستشكل سؤالا يتركز حول كيفية مواجهتها سواء باستعارتها وتأصيلها ثقافيا أو بتجاهلها تماما والاكتفاء بالتراث وافرازاته بما أنه التشكيل التاريخي الوحيد للذات أو الهوية الثابتة التي لا تخضع لأي سيرورة أو تثاقف ، وبعبارة جامعة يمكننا الاشارة إلى كل ما يتعلق بسؤال الحداثة.
هذه التحديات التي يرتكز عليها سؤال الحداثة ساهمت في تشكيل خطابات ومشاريع فكرية عديدة في العالم العربي والاسلامي، وهي مشاريع تكشف بوضوح عن تسلل الحداثة صامتةً بشكل ملتبس مما أدى إلى بروز تشوهات في المفهوم والممارسة بين تيارات حداثوية مسطحة تنمذج الذات لتبدو كما لو أن الحداثة ليست سوى تقنية جاهزة، وتيارات أخرى ساهمت في احداث تشويه مضاعف يحيل الحداثة إلى مجرد تناول وجبة هامبورغر أو ارتداء ربطة عنق فاخرة، وهو نفسه الالتباس الذي يقصر الحداثة على المعاصرة لتبدو كمفهوم مرادف، لكن هذا الالتباس يتجلى بوضوح حينما نتلمس طبيعة الاستجابة التي تحاول الأيديولوجيات الدينية التأسيس والتأصيل لها انطلاقا من المقولات الدينية نفسها التي تجاوزتها القطيعة المعرفية منذ عصر التنوير.
أغلب الأيديولوجيات الدينية تتجه للتوفيق بين الأسس والثوابت الدينية وبين العقلانية الحديثة أو الأفق المعرفي المعاصر "الأبستيمي" انطلاقا من تداخل أو حوار يسعى لاقامة هجين فكري وقيمي لا يخلو من اسقاط أو مغالطة، فيما القليل منها -وهو التيار التراثي- يحاول أن يتصف في منظومته الفكرية والسياسية والدينية بأصالة مقترنة بنقاء تراثي قابل في تصوره على اعادة انتاجه وبالتالي الأهلية الكاملة على مواجهة الحداثة، وبعبارة أخرى فإن لديه كامل القدرة على احراز الصلاحية المعرفية: الحداثة.
الاتجاه الأول باستماتته لاستنطاق النص التراثي الديني لكي يتوافق مع الحداثة يصل في النتيحة إلى استفراغ كل المضامين في النص وهو ما يعكس تخبطا واضحا بين السياقات التاريخية بحيث تصبح المرجعية الدينية معطلة تماما فيما ستبدو مكتسبات الحداثة وقد خضعت لعملية بسترة واجتزاء لكي تنسجم مع النص مشوهة وملتبسة بل ومعطلة هي الأخرى.
كما أنها ستقع في اشكالية تأويل النص الديني والذي يحمل بنية أسطورية مجازية تحتمل قراءات متفاوتة ومختلفة بل ومتناقضة في أحيان كثيرة، فكيف يمكن تأصيل فكرة حقوق الانسان مثلا ضمن مرجعية لنص هلامي متعدد الدلالة؟ كيف يمكن مواجهة معضلة الاقتصاد أو السياسة انطلاقا من نص ديني ذو بنية قصصية ميثولوجية؟ هل يمكن أن ينسجم النظام الاقتصادي مثلا مع نظام التحريم الديني الذي يحسم بشكل نهائي فكرة الربا أو الملكية الخاصة؟ كيف يمكن استنبات الفكر الديني بعقلانيته التي تجاوزها التاريخ في عصر تكتسحه الحداثة بكل جاذبيتها وفتوحاتها التقنية والعلمية والقيمية؟ لكن السؤال الأشد ارباكا لهذه الخطابات هو فيما يتعلق بالتحول الفكري الذي أحدث تلك القطيعة مع المفهوم المطلق للمعرفة والحقيقة فيما أغلب الأديان وخاصة الأديان الشمولية منها قد انبثقت في وسط يحتضن اللوغوس أو العقل الكلي المفارق للأشياء، وهنا ينبغي تمييز تلك المنظومات الدينية التي تستنسخ بعضها البعض وتقوم باستعارة العبادات كأي مادة ثقافية أو عنصر ثقافي من شأنه أن يعيد مجددا تشكيل الثقافة أو المنظومة الدينية برمتها، عن تلك الأديان الشمولية التي توارت خلفها الأديان المحلية القائمة على أرضية التسامح والتعدد.
ولأن النقاء التراثي أسطورة أو وهم لا يمكن العثور عليه بين كل الأيديولوجيات الدينية حتى وإن ادعت خلاف ذلك إلا أن تكون قد آثرت الانزواء في كهوف تورابورا، فإن كل الأيديولوجيات الدينية التي تنضوي تحت الاتجاه الثاني، أي الاتجاه التراثي/ السلفي، مسكونة هي الأخرى بالأسس النظرية للحداثة من حيث لا تشعر، كل فكر ديني مسكون بهاجس التراث قد أصابه شيئا من وهج الحداثة، وهو ما يعني أن ثمة تأثير حتمي للحداثة على الفكر الديني يتجلى في محاولات فكرية لا ترتكز على منهجية صارمة بقدر ما يشدها إلى ذلك عدم انعتاقها من هيمنة الماضي وانشدادها إليه.
على أن هذا التأثير الناجم عن العلاقة المتأرجحة مع الوافد الأجنبي تصبح واعية مدركة حينا وغير واعية أو مضمرة حينا آخر، لكن ثمة قاسم مشترك يؤكد الافتتان بمنجزات الحداثة والتي هي أقوى من أن تقاوم بمجرد الرغبة في حماية الذات الملتبسة والغير قادرة على تجاوز الماضي بالتموضع في العقلانية الراهنة، حتى وإن كان من الضروري، كما يرى البعض، لهذه الافرازات الحداثية أن تتلبس بالثقافة المستضيفة لكي يتاح لها أن تنغرس في تربة وأرضية مواتية فإن الشيء الأكيد هو حتمية التأثير الحداثي الذي يتطلب من كل التيارات الدينية المراجعة الجدية والنقدية لطرائق تفكيرها ورؤيتها للكون والانسان،
إن التأثير الحداثي على الخطابات الدينية يتجلى بوضوح أكثر في مثال الثورة الاسلامية في ايران العام 1979م بوصفها ردة فعل على اخفاقات وتجاوزات الحداثة الماثلة في انحسار قيم أساسية في الحداثة كالانسان والحرية وفكرة التقدم نفسها، وهي ليست تجاوزات بقدر ما هي تشوه آخر لذات المفهوم الملتبس والمبستر للحداثة والذي قاد سلطة الشاه إلى احكام قبضتها الأمنية على الحريات وافشال كل المشاريع التحديثية في التجربة والمشروع السياسي، وإذن فعودة العامل الديني بأشد تجلياته التراثية لم يكن استعادة خالصة للنمذجة وإيحاءات التراث، لم تكن استعادة الماضي بقدر ما هي ناتجة عن سيكولوجية الذات المنهزمة والتي ستلوذ بأشد مكونات الذات قدما وأصالة كلما تعرضت لطريق مسدود أو هزيمة حضارية.
ولكن مع ذلك فإن هذه العودة التراثية تضمنت هي الأخرى خطابا سياسيا وفكريا يدمج في داخلة بعض منجزات الحداثة والانتاج الفكري المستمد من عصر الأنوار مع روسو ومنتسكيو الذي كتب في العام 1748م "روح القوانين" وهو كتاب شهير أعتمد عليه في صياغة دساتير كثيرة منها الدستور الايراني بعد الثورة، فالامام الخميني رغم اعلانه في البداية أنه سيتوجه بعد الانتصار واسقاط الشاه إلى قم وليس إلى طهران لكي يعود إلى ما كان عليه قبل دخوله معترك المواجهة فإنه وقد عاد إلى طهران لم يقم بتكريس نظام ديني منفصل تماما عن الحاضر، ورغم سعيه لتثبيت الولاية المطلقة للفقيه إلا أنه خضع لارادة الشعب فجعله هو المعيار وهذا ما يعكس مفهوم السيادة السياسية للشعب والأمة المتشكل في الوسط الأوروبي بكل مسبقاته الفلسفية التي تأسس عليها بما في ذلك انتقال السيادة والمشروعية من السلطة الالهية المتعالية وحصرها في الانسان وحده هذا فضلا عن استعارة النظام الانتخابي والأنظمة الاقتصادية مثل اقتصاد السوق الحر أو الاقتصاد الموجه وما رافق ذلك من محاولات تنظيرية مشحونة بتخريجات تسعى إلى تبرير الشكل التوليفي بالقول أنه يأتي في سياق شكل الشريعة دون روحها أو أن الثوابت هي التي يجب أن تستمد من التراث دون المتغيرات، إن كل هذه التبريرات لا تكفي لحجب الحقيقة القارة في بنية الخطاب الديني حول انشغاله بالحداثة تماما كأي خطاب حداثي آخر وهو الأمر الذي يعكس عدم تصالحها مع الذات، مما قد ينبئ بانحسارها الوشيك.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=5054&I=137