راغب مفتاح رائد الموسيقى القبطية

د. ماجد عزت اسرائيل

بقلم: ماجد اسرائيل
  (1898 – 2001م)
إن الموسيقى الروحية تسمو بالنفس من عالم الماديات إلى عالم الروحيات، وهي هبة كامنة في النفس البشرية، ومن الناس من يمتلك القوة على التعبير بها، ومنهم من يتحلى بقدرة ثروتها والحس والثائر بها باعتبارها إحدى وسائل التعبير في المجتمع، فهي مرآة واضحة للتقاليد والأخلاق السائدة في حياة العصور، ومن ثم تكون على اتصال وثيق بغيرها من سائر الفنون ومتمشية معها، وقد تسلسلت التيارات الموسيقية منذ عهد الأسقف "بيروتان الأكبر" أسقف كنيسة نوتردام بباريس في أواخر القرن الثاني عشر الذي كان يردد أناشيد المنشدون داخل الكنائس القوطية، إلى عصر "لوللي" الذي اتسمت موسيقاه بطابع فرساي في عهد لويس الرابع عشر.

أما عصر "بيتهوفن" فيمكن أن يعد الرمز الكامل للتحول نحو الحركة الرومانتيكية الكبيرة إلى أن نصل إلى "سترافنسكي" مؤلف الموسيقى الروسي وزعيم المدرسة المعاصرة، فإذا اعتبرنا هؤلاء هم رواد الموسيقى بشكل عام، فراغب مفتاح هو رائد الموسيقى والألحان الكنسية القبطية بشكل خاص، فهو أحد الرواد الذين حفظوا لنا بكل أمانة وإخلاص نهر الموسيقى منذ أن عرفها القدماء المصريون.

وُلد راغب حبشي مفتاح في 21 ديسمبر 1898م بمدينة القاهرة، من أبوين كريمين شريفين، اشتهروا بالتقوى والصلاح وربياه على الفضيلة والتمسك بآداب الاستقامة والثقافة القبطية، اشتهرت هذه الأسرة منذ أيام البابا بطرس الجاولي البطريرك رقم (109) (1809- 1852م)، منهم من تولى رئاسة المرقسية، ومن تلامذتها أقلاديوس الوجية, يوسف مفتاح، وعريان مفتاح (1826-1886) م، وراغب مفتاح الذي أدخله والده المدرسة حتى حصل على درجة البكارلوريا سنة 1918م (الثانوية العامة)، ثم أرسلته الأسرة إلى ألمانيا لدراسة الزراعة بها، للوقوف على أحداث الدراسات والأساليب والأنظمة العلمية في هذا المجال حتى يكون عند عودته إلى مصر خبيرًا في الزراعية ليتولى الإشراف على أراضيها وحاصلاتها الزراعية.

وبعد عودته من ألمانيا بدأ اهتمامه بالتاريخ القبطي والموسيقي والألحان القبطية، وفى سبيل المحافظة على سمات اللحن القبطي سافر إلى إنجلترا سنة 1927م ليستعين بخبراء الموسيقى، فتعرف على الأستاذ "أرنست نيولاند سميث" الأستاذ بالأكاديمية الموسيقية الملكية بلندن واتفقا –بعقد مكتوب– على أن يحضر سميث إلى مصر ويقيم بها لمدة سبعة شهور سنويا ما بين (أكتوبر – إبريل) على نفقته الخاصة لتدوين الموسيقى القبطية وتواصل هذا العمل ما بين (1928- 1936م).

وفي ثلاثينيات القرن العشرين اختار راغب مفتاح المرتل "ميخائيل جرجس البتانوني" كبير مرتلي الكاتدرائية المرقسية الكبرى (بالأزبكية) وذلك من بين كثير من المرتلين المشهورين في جميع أنحاء البلاد، وبحضور الأستاذ سميث لتسجيل طقوس وألحان الكنيسة القبطية لتسجيلها كنوتة موسيقية على ورق، فبلغ ما سجله راغب مفتاح ستة عشر مجلدًا.

وقد رأى راغب مفتاح بأن هذه الموسيقى القبطية تعكس تقاليد مصر الفرعونية، التي أثر منذ زمن طويل على تطور الموسيقى الغربية، وأكد ذلك في عام 1931م عندما سافر بصحبة أستاذه في الموسيقى أرنست سميث والذي دعاه لإلقاء مجموعة من المحاضرات بجامعات إنجلترا وOxford , Cambridge.

وبين عشية وضحاها ذاع صيت شهرة راغب مفتاح في الموسيقى القبطية لدرجة حثت علماء أوروبا في مختلف العلوم على حضور محاضراته، وعلى سبيل المثال حضر محاضرته التي ألقاها بجامعة أكسفورد عالم المصريات بلاكمان Blachman، وعالم القبطيات كرم Crum، وعالم الفيزياء الشهير Einstein.

وفي عام 1932م وجهت الحكومة المصرية الدعوة لكبار الموسيقيين من ألمانيا والنمسا وفرنسا وإنجلترا والمجر وغيرها من البلدان، إلى مؤتمر لدراسة الموسيقى الشرقية للنهوض بها علميًا، وقد بلغ عددهم 29 موسيقيًا، كما وجهت الدعوة للأستاذ راغب مفتاح ممثلاً للموسيقى القبطية وكان من بين هؤلاء العلماء "بيلا برتوك Bela Bartock " و"إيجون ولز. Egon Wellesz" الذي فك رموز الموسيقى البيزنطية القديمة، ومدام "هيرشر كليمنص Clemence" رئيسة الجمعية الموسيقية في باريس، وقد طالب هؤلاء العلماء الموسيقيون بزيارة إحدى الكنائس الأثرية، فوقع الاختيار على كنيسة السيدة العذراء الشهيرة بالمعلقة بمنطقة مارجرجس بمصر القديمة، حيث أدى القمص مرقس شنودة صلوات القداس واشترك معه في ترديد المردات والألحان المرتل ميخائيل جرجس، فتأثر الجميع تأثرًا بالغًا حتى إن الأستاذ فلز قال: "إنه لم يتأثر في حياته بعذوبة ترديد الصلوات والألحان مثلما تأثر بها في هذا القداس" وقال آخر: "إذا كانت هناك موسيقى دينية تستحق الإبقاء عليها فإنها تكون الموسيقى القبطية".

وفي عام 1940م قام راغب مفتاح بتكوين خورس بمهمشة (مكان بالقرب من القاهرة) ومن أجل ذلك قام بالبحث على أشخاص ذوي أصوات جميلة يستلمون اللحن من المعلم ميخائيل البتانوني ويؤدونه بإتقان بأصواتهم الجميلة واستغرق هذا الأمر منه بحثًا ووقتًا وجهدًا، حتى أصبحت لديه تسجيلات بصوت المعلم ميخائيل وبأصوات الذين استلموا منه.

وفي عام 1945م قام صاحبنا بتأسيس مركز لتسليم الألحان للمرتلين والشمامسة بمنطقة مصر القديمة "كنيسة العذارء قصرية الريحان" وآخر بالقرب من ميدان باب الحديد (ميدان رمسيس حاليًا) لكبار المرتلين لاستلام وتثبيت الألحان.

وعندما تأسس معهد الدراسات القبطية سنة 1954م كان راغب مفتاح أحد مؤسسيه. وصار رئيسًا لقسم الألحان والموسيقى فيه، وتزامن ذلك مع تأسيس القسم العالي للكلية الإكليريكية بمبنى الأنبا رويس وفيه مجموعة من صفوة الطلبة المثقفين فاعتمد عليهم في تطوير الخورس ليسجل لمجموعة من الطلبة بعد أن كان يسجل لأفراد، وليؤدي اللحن جماعة بصوت واحد، متفق ومنسجم، لا نشار فيه، وبذلك لم يعد صاحبنا يجول المدن والقرى يبحث عن ذوي المواهب والأصوات، بل أصبح طلبة القسم الداخلي بالإكليريكية يتلقون دروس الألحان يوميًا في مكتبه بمعهد الدراسات القبطية، ويتابعهم ليصقلهم من خلال الدراسة، وفي الإجازة الصيفية كان يقيم لهم دورات دراسية في الموسيقى بضاحية أبي قير بالإسكندرية.

وشارك في تدريس الخورس بالإلكلريكية والدورات التدربية أساتذة موهوبين، نذكر من بينهم المعلم توفيق من دير المحرق (أسيوط) وكان أستاذًا يتقن التسبحة، والمعلم صادق عطا الله من أشهر المعلمين الذين سلموا الخورس فيما بعد المعلم إبراهيم عياد الحالي.

على أية حال، كان الأستاذ راغب مفتاح يقوم بتسجيل الألحان بأسلوب علمي دقيق، فلو وجد هزة واحدة غير سليمة، يعيد تسجيله من أوله دون كلل ولو مرات عديدة، حتى يستقر في أدق وأروع صورة، ومن أجل ذلك اعتمد على التسجيل بالاستوديو الذي أسسه من قبل بمصر القديمة، ثم استكمله بمعهد الدراسات القبطية على يد صليب بسطروس ومهندس الصوت، وكان يتولى هو بنفسه الإشراف على الجماعة الموسيقية.

واعتمد الأستاذ راغب مفتاح على مجموعة من العلماء في سنة 1970م، ومن أجل ذلك وجه الدعوة للعلامة الموسيقية المجرية "مارجريت توت" رئيس قسم موسيقى الفولكور بالأكاديمية الموسيقية المجرية، لاستكمال القداس الباسيلي الذي كان قد بدأه الأستاذ سميث واستمر العمل حتى تم تسجيله بألحانه تامة بالنوتة الموسيقية الصوتية.

ومن بين عام (1984- 2001م)، استمر صاحبنا في مواصلة عمله الجاد في تسجيل الموسيقى القبطية فأتم تسجيلات تشمل: طقس الأكليل، طقس الصوم الأربعيني المقدس، طقس أحد الشعانين (أحد الزعف) طقس سبت الفرح، طقس صوم الرسل طقس صوم السيدة العذراء، ثم القداس الغريغوري.

ولفتت أعمال راغب مفتاح الموسيقية أنظار العالم، فبدأ بعض الدول الأوروبية توجه الدعوة لخورس ألحان معهد الدراسات القبطية بقيادة راغب مفتاح لزيارة مدن أوروبا، ففي سنة 1989م تلقى دعوة من إذاعة برلين، لباها فاستمع الشعب الألماني-لأول مرة- الموسيقى الكنيسة القبطية وتوالت بعد ذلك الزيارات المماثلة.

كما أشارت مجلة الكرازة في مارس 1989م إلى بدء قسم الموسيقى والألحان بمعهد الدراسات القبطية في إعداد نوتة موسيقية على أسس علمية لأول مرة في تاريخ الكنيسة القبطية، وفي سنة 1996م صدر قرار بابوي بتدريسها بالمعهد.

وكان من مشروعاته المستقبلية رغم بلوغه سنة 102عام لتسجيل القداس الكيرلسي على النوتة.

ولمساندة مكتبة الكونجرس لأعماله الموسيقية والمساهمة في الحفاظ عليها ونشرها، قام في سنة 1995م بإهدائها مجموعة تسجيلات صوتية، موثقًا بها جميع الألحان القبطية لمكتبة الكونجرس الأمريكية ليتم حفظها كتراث هام من مجموعة التراث الموسيقي لهذه المكتبة العريقة.

ولإنجازاته في مجال الموسيقى والألحان القبطية، قام قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك رقم (117) في 7 يناير 1984م، في ليلة عيد الميلاد المجيد، بمنحه الدكتوراه الفخرية.

وكرمه في حفل بهيج بالكاتدارئية بمناسبة عيد ميلاده المئوي في 21 ديسمبر 1998م، وأهداه صليبًا مذهبا تكريمًا لجهوده وما قدمه للكنيسة من أجل المحافظة على تراثها؛ وكان مما ذكره عنه قوله: "عمره قد شاخ، ولكن آماله لم تشخ مطلقًا"، كما كرمته الجامعة الأمريكية بالقاهرة بهذه المناسبة، وصاحب ذلك صدور كتاب الموسيقى القبطية كأول تسجيل علمي متكامل لموسيقى ليتورجيه القديس باسيليوس الكبيرسنة 1998 م.


وفي 18 يونيو 2001م رحل راغب مفتاح عن عالمنا عن عمر يناهز 102 عامًا، وبذلك يكون قد عاصر ثلاثة قرون، كان له في موسيقاها دور بارز ساهم في تطويرها بحيث فاق مجهوده عدة جهود، كانت كفيلة بأن تشغل جوقة من الموسيقيين، عوضه الله في فردوس النعيم عن كل ما بذله.

الملاحق
 

 


صور لراغب مفتاح (1898 – 2001)

 
راغب مفتاح مع قداسة البابا شنودة الثالث

 

راغب مفتاح مع قداسة البابا شنودة الثالث

 

وداعًا راغب مفتاح (18-6-2001م
)

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع