يبدو واضحًا أن حصاد الربيع العربي جاء إسلامياً في مجمله، فلقد وصلت التيارات الإسلامية إلى مقاعد السلطة من خلال البرلمانات المنتخبة بعد ثورات عام ،2011 كما امتد التأثير إلى دول أخرى لم تشهد ربيعاً ثورياً، ولكنها شكلت برلماناتها الجديدة من أغلبية إسلامية . ولعل النموذجين “المغربي” و”الكويتي” يؤكدان أن المنطقة تدخل في مرحلة تتميز بأن المشروع الإسلامي يتقدم بشكل ملحوظ ويعطي مؤشراً لما هو قادم، ويختلف الإسلاميون بين الاعتدال المتزن والشطط المتطرف، وبينهما تقع مظاهر متعددة لمحاولات التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية على مجتمعات تأثرت بالغرب طويلاً وارتبطت بروح العصر ومقتنياته وأدواته فأصبح لها تطلعات في اتجاهات مختلفة .
يردد أصحاب الاتجاه الإسلامي مقولتهم (إنكم قد جربتم المشروع الاشتراكي فلم يكتمل، والمشروع القومي فتراجع، فلماذا لا تعطون المشروع الإسلامي فرصته خصوصاً أن صندوق الانتخاب هو الفيصل في ذلك) . ونحن نظن أن حدثين مهمين قد وقعا في العقود الأربعة الأخيرة يشكلان معاً جزءاً من هوية هذا المشروع الجديد الذي يحاول أن يحيي “النظرية الإسلامية” في الحكم أو العودة إلى السلف “الصالح” في التطبيق، وهذان الحدثان هما “الثورة الإسلامية الإيرانية” منذ عام 1979 و”حادث 11 سبتمبر 2001” وهما يمثلان إيجابًا وسلبًا طبيعة العوامل التي تدخلت في تشكيل ما نطلق عليه “المشروع الإسلامي الكبير”، وهنا لا بد أن نعترف أن “الحركة الإسلامية العالمية” هي ابنة شرعية لجماعة “الإخوان المسلمين” التي بدأها معلم مجتهد في مدينة الإسماعيلية عام 1928 وهو الإمام “حسن البنا” . وأظن عن يقين أن ميلاد الجماعة كان هو الميلاد الحقيقي أيضًا لحركة “الإسلام السياسي” في العالم كله، لأن الإمام المجدد محمد عبده جعل دعواه تنويرية قبل أن تكون سياسية، كما أن عبدالرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان ومحمد رشيد رضا كانوا يأخذون منحىً أقرب إلى “السلفية” منه إلى التجديد، وبذلك تكون جماعة “الإخوان المسلمين” هي المرجعية برموزها في العالم كله والإسهامات الفكرية التي جاء بها سيد قطب في مصر وأبو الأعلى المودودي في باكستان وأبو الحسن الندوي في الهند، حتى إننا نستطيع أن نقول إن الحركة الإسلامية الدولية بأجنحتها المختلفة “الدعوية” و”العسكرية” و”المالية” قد أفرخت عناصر متعددة، بل إنني سمعت مفكراً خليجياً كبيراً يؤكد أن مهاتير محمد في ماليزيا كان هو الآخر واحدًا من الإفرازات الفكرية لحركة “الإخوان المسلمين”! وأزعم كذلك أن “الحركات الجهادية” في العالم الإسلامي كله بدءاً من “أبو سياف” في الفلبين وصولاً إلى حركة “حماس” في “فلسطين” مرورًا بالمركز المالي للحركة في “جنيف” هي كلها جزء من منظومة واحدة، لذلك حصدت الحركة الإسلامية الدولية عام 2011 ما كانت تحلم به على امتداد ثمانية عقود . وهنا نتساءل أين يقف “المسيحيون العرب” من المد الإسلامي المتنامي في الفترة الأخيرة، إن ذلك يستوجب تأمل النقاط الآتية:
* أولاً: إن المسيحيين العرب بدءًا من الشام حيث أصولهم من قبائل عربية يغلب عليها طابع الغساسنة والعراق حيث تنحدر أصولهم من المناذرة فضلاً عن الكنائس القديمة من “الكلدان” و”السريانيين” وغيرهما، أي أنهم من أصول عربية سابقة على الإسلام، أما مسيحيو مصر أو من نطلق عليهم مجازًا “الأقباط” وهم الذين يمثلون أكبر تجمع مسيحي في الشرق الأوسط فهم ينحدرون من أصول مصرية خالصة، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن “المسيحيين العرب” جميعاً ينحدرون من أصول عربية أو مجاورة حتى إن النبي “صلى الله عليه وسلم” قد أوصى بأقباط مصر، وأكد أن للمسلمين فيهم نسباً وصهراً، لذلك كان طبيعيًا أن يكون “المسيحيون العرب” بل وأيضًا “اليهود” في المنطقة شركاء أصليين في “الحضارة العربية الإسلامية”، والقائل بغير ذلك واهم أو ناقص معرفة .
* ثانياً: لقد أدى الربيع العربي إلى وصول متزامن لتيارات إسلامية إلى مقاعد السلطة ونحو مراكز الحكم، وليس ذلك أمراً جديداً فقد تعايش المسيحيون العرب مع الدولة الإسلامية في مراحلها المختلفة، خصوصاً أن “الخلافة” لم تكن تعبيراً عن دولة دينية بقدر ما كانت تعبيراً عن ملك وراثي لا يختلف في تقديره اثنان، وأنا لا أزعم هنا أن العلاقات بين المسلمين والنصارى في تاريخ العالم الإسلامي كانت كلها سخاءً رخاءً، آمنة فهي لم تخل من صراعات ومواجهات وأزمات ولكنها أثبتت في مجملها إمكان التعايش المشترك والوجود المقبول من الطرفين، ولكن الذي جد حالياً وطرأ على مسرح الأحداث هو تلك الأصولية الدينية التي برزت على السطح على نحو غير مسبوق، وكأنها تعلن عن مرحلة جديدة في الشراكة بين المسلمين و”أهل الكتاب” في ما يتصل بالسياسة والحكم في هذا العصر، ولعلي أعترف هنا أن هناك مخاوف كثيرة ومحاذير أكثر، ولكن يظل الأمر مقبولاً إذا صدقت النوايا وخلصت الرؤى من الجانب الإسلامي تحديداً، لأن الأغلبية العددية هي المسؤولة دائمًا عن رعاية الأقلية العددية والحفاظ على أواصر العلاقة وعوامل الشراكة، ولعل القراءة الأخيرة للمشهد العربي العام تؤكد إمكان استمرار العيش المشترك والوجود المستند إلى قواعد مقبولة تمثل إطارًا للعلاقة العصرية العادلة بين المسلمين والمسيحيين في وطننا العربي الكبير .
* ثالثاً: إن ثورات الربيع العربي، وقد أفرزت برلمانات تعكس صناديق الانتخاب الداعمة أحيانًا لبعض الناشطين السياسيين من الأقباط والمسلمين، قدمت تصوراً جديداً للحكم في هذه المنطقة شديدة الحساسية من عالمنا المعاصر، كما تقدم طرحاً جديداً لبيئة سياسية مختلفة قد يتفق معها البعض وقد لا يتفق معها البعض الآخر، لذلك فإننا نتطلع إلى درجة عالية من الاعتدال والسماحة اللذين عرف بهما المسلمون الأوائل، أما محاولات الإقصاء والإبعاد في جانب والاستئثار والاستحواذ في جانب آخر فإنني أرى أنها بداية النهاية مهما رأى البعض غير ذلك .
. . إننا نطلب من جماعة “الإخوان المسلمين” وجناحها السياسي “حزب الحرية والعدالة” وكذلك من أشقائنا “السلفيين” الذين لديهم رصيد السلف الصالح الذي يدعو إلى حسن معاملة “أهل الكتاب”، إننا نطلب منهما احتواء مظاهر العصر والاندماج الكامل في معطياته الحديثة، فالثوابت قائمة ولكن لكل زمانٍ أفكاره ولكل مكان خصوصيته، إننا نريد أن نتقدم نحو “الإسلام” لا أن نعود إليه، فهو أسبق بكثير من المشهد الذي نراه اليوم .
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=55971&I=1128