محمد عبد الفتاح السرورى
بقلم: محمد عبد الفتاح السروري
إطلالة على كتاب الدكتور (برهان غليون)
بين مطرقة السلفية وسندان التبعية صار العقل العربي ثابتًا لا يستطيع من هذا الموضع فكاكًا ورسخ هذا العقل بين شقي الرحي حتى طحنه الواقع وأضاع ما تبقى من ملامحه. الذاتية العربية الضائعة هي موضوع هذا الكتاب القيّم الذي سطره المفكر الكبير الأستاذ (برهان غليون) وفيه يحاول إلقاء الضوء على بعض إشكاليات الثقافة العربية ووضعها الراهن....
*السكولستيكية أو النقاش خارج الواقع:
نبدأ رحلتنا مع هذا السفر القيم انطلاقًا من هذا المصطلح الغير متداول والذي لا يستخدمه الكثرة على الرغم من أن هذا المصطلح يشكل معناه أحد أهم الأسباب التي تتمحور حولها أزمة الذاتية العربية ومحنة عقلها الجمعي.
(والسكولستيكية) نعني بها [انغلاق العقل داخل دائرة أطروحات وقضايا تبلورت في وضع وحقبة معينين، فأصبحت هي التي تتحكم برؤية العقل للواقع وتمنعه من تحديد أدواته وطرائقه بالاحتكاك مع التجربة المتغيرة والملاحظة المباشرة وتجعله لا يعيش الواقع إلا على مستوى القضايا والأفكار المصاغة مسبقًا]، وهذا معناه أن السكوليستيكية هي عجز الفكر عن الإمساك بالواقع أو التحكم فيه.
وفي هذه المقدمة البليغة يصوغ المؤلف الأستاذ برهان غليون أحد براهينه على توصيف الحالة الفكرية العربية الراهنة مستعينًا بمصطلح نادر الاستخدام كما ذكرنا وكم كان موفقًا حينما عبر عن أصل السكولستيكية بأنها (عجز الفكر عن الإمساك بالواقع) والشاهد للعيان أن مكمن داء الثقافة العربية هو هذا الواقع الذي تعمي دائمًا هذه الثقافة عن رؤيته وتوصيف أحواله وصفًا يتيح لهذا العقل استبيان طرائق وسبل التعامل العملي والمنهجي معه مما يجعل هذا الواقع دائمًا في وضع أعلى من مستوى فهم وإدراك العقل العربي الذي أصبح في حالة سبات سلفي إن جاز التعبير. ولكن السؤال البديهي والذي يطرح نفسه في هذا المقام ما هي أسباب تسيد هذه الحالة على العقل العربي.. يجيب الأستاذ برهان غليون على هذا السؤال طارحًا قوله (إن للسكو لستيكية العربية جذورًا أعمق قائمة في قلب عملية التحول الثقافي الذي نعيشه منذ أكثر من قرن. فعندما تتعرض ثقافة ما إلى دفق متواصل من مفاهيم وأفكار جديدة لا تستطيع أن تقاومها ولا أن تستوعبها داخل أطرها النظرية يحصل أحد أمرين. إما أن تتفكك بنيتها القديمة ومن ثم تتحول إلى ثقافة مستقلة متكاملة لها أطر جديدة وتكون ذات انسجام ذاتي، أو أن تعدل من آلياتها وتكيف نفسها مع المفاهيم والأفكار الجديدة، حتى لو جاء ذلك على حساب التحامها بالواقع والتصاقها به. وهذه هي إحدى العمليات الأساسية لإعادة تغيير الواقع وتحويله بما يتطابق مع فكرة جديدة أو نماذج خارجية وهي أيضًا أحد مصادر التجديد. لكن هذا التجديد لا يحصل إلا في فترة تالية. إذ أن النظام الفكري الذي يخضع لعملية حقن سريع بالمفاهيم الجديدة التي تعكس واقع آخر أو تشير إليه يفقد في البداية صلته تدريجيًا بالواقع المحلي وبالتجربة الحية ويتحول إلى نظام مستهلك عاجز عن الإبداع.
أو ليس العجز عن الإبداع هي أوضح معالم العقل العربي؟ كم كان المفكر الكبير برهان غليون موفقًا حينما شخص أزمة الإبداع عند العقل العربي هذا التشخيص العلمي المنهجي السليم... وجعل من أزمة الإبداع (بل حتى والتعايش العادي مع الواقع) جعل من هذا الأمر نتيجة حتمية ومنطقية لمفارقة الفكر للواقع وتباعد النموذج المطروح من قبل الخطاب السلفي للحياة المعاصرة بكل أشكالها، عندئذ لن يجد هذا العقل المهزوم إلا أن يعادي الواقع بدلا من يعادي الأسباب التي جعلت منه خصمًا لهذا الواقع بل ولن يقف العقل عند خط المعاداة فقط بل سيمتد إلى مرحلة مرضية أكثر خطورة.
ألا وهي إنكار الواقع ذاته... إنكار الواقع الحي المعاش المرئي للعين ويبرهن الدكتور غليون على ذلك بما نصه [الدارس الاجتماعي الذي تشرب مفاهيم الطبقة والفرد والمشروع الصناعي والأمة.. إلخ.. لا يبدأ من تحليل العلاقات الاجتماعية عندما يدرس مجتمعه وإنما يبحث في هذه العلاقات عمّا يتماشى مع المفاهيم التي يحملها. وعندما لا يتحقق من وجودها، أو عندما يكتشف أنها تعمل بشكل ناقص أو مختلط مع مفاهيم العائلية أو الطائفية أو القبلية أو الجهورية المحلية فليس أمامه إلا أن يرفض هذه المفاهيم أو أن يعدل من طريقة استخدامها أو يعلن إذا أراد الاحتفاظ بها كما هي أن الواقع هو النشاز والخاطئ والمتخلف واللا عقلاني).
* الهوية والتراث والحداثة:
وما إن يأتي ذكر الحداثة إلا ويأتي في أعقابها ذكر التراث كمقابل لها وبين التراث والحداثة... تتللبور أزمة الهوية الحقيقة... أزمة فصام الوعي... فالأصوليون يرون أن الحضارة كامنة بالقوة في الثقافة المحلية أو في التراث ولا تحتاج إلا مناخ يهيئ ظهورها أما أهل الحداثة يرون أن المدينة كامنة في الحضارة ذاتها ويكفي استيرادها أو توطينها حتى تحقق العودة إلى التاريخ..
ويصيغ المؤلف الدكتور برهان غليون قانون يرى أنه يحكم هذه الإشكالية العربية المزمنة ومضمون هذا القانون (المبدأ) هو [أنه كلما زادت قوة الحداثة وأثارها زادت قوة الدفع المعاكسة نحو التأصيل والتواصل مع التراث وذلك بقدر ما أن للمشاركة في الحضارة تبقى استهلاكية وتعني عندهم تفكيك الثقافة المحلية. لذلك تزداد مطالب الهوية أكثر مع تقديم التحديث وقصور الثقافة المحلية عن التحكم فعليا بسلوك الناس والتأثير على أفكارهم ولقد توصل الدكتور برهان غليون لعدة نتائج في
كتابة موضع الحديث يمكن ترجمتها بإيجاز كما يلي:
ليست الحداثة كما يقول التراثيون والنظرية الأصولية هي ثمرة للغزو الفكري الغربي أو لتأمر بعض المثقفين المحليين مع الأجنبي إنما هي النتيجة المباشرة لفقدان الثقافة العربية تدريجيا تحكمها بالواقع وبسلوك الناس والجماعات وأفعالهم وذلك بقدر ما أصبح هذا الواقع يحدد من قبل ثقافة أخرى. هي ثقافة الحضارة التي تخلقه.
(التفويت الثقافي) يذكره المؤلف هنا بمعنى هو (هذا الشعور المتزايد لدى شعوب العالم الثالث بفقدان ثقافتها القومية للقيم الحية والإيجابية وهذا الشعور ناتج مما حصل للحضارات السابقة من تدهور وما أصاب ثقافتهم من حرمان حتى فقدت قيمتها التاريخية ولم يعد بينها وبين الواقع صلة كبيرة).
ويتوصل الدكتور برهان غليون الي نتيجة نحن أحوج ما نكون إليها وأحوج ما نكون إلى طرحها للنقاش العام ووضعها موضع الحديث في مختلف منتدياتنا وهي النتيجة التي صاغها بقوله (إن الاستمرار في المباهاة بقوة الثقافة العربية القديمة وعظمتها. وعدم الاعتراف بالأزمة الحقيقية والعميقة التي تمر بها لا يعني النجاح في تأكيد موقعها وتثبيت أقدامها أمام الغزو الفكري الأجنبي. بل هو الطريق الرئيسي لتوسيع مجال هذا الغزو والتمكين له فهو يشكل تجاهلاً للدوافع العميقة نحو الحضارة ومطابقة آلية بين الحضارة والاستلاب.
لنا عند هذه النتيجة وقفه لابد منها لأنها تذكرنا بما ذكرناه في أول المقام من تسيد فكرة السكولستيك على الذهنية العربية وكم أن الفكر العربي وأطروحاته مفارقة للواقع وهذه النتيجة الأخيرة تبرهن على ذلك فمفارقة الواقع تتجلى في أوضح صورها في هذا الخلق العربي العتيد ألا وهو (المباهاة بما مضى) ويقصد به الماضي (ككل) كوحدة واحدة فكونه ماضي فهذا معناه لدى العقلية العربية العامة أنه مبعث للزهو والفخار بل وأن الرجوع لكامل الحالة التي يمثلها هذا الماضي يقف حائط صد أمام محاولات العبث بناو بواقعنا.. فبئس ما يرجعون!!؟
ونكمل مع المؤلف القدير مبحث القيم ونستكمل عرض نتائج بحثه بالوصول إلى نتيجة أخرى مفادها أن الميل إلى الحداثة والتحديث لا ينبع من ترك الثقافة المحلية أو هجر التراث أو عدم إحيائه ولا من التخلي عن الهوية بل من تحويل الثقافة المحلية إلى مصدر من مصادر الميل للحداثة وزيادة التطلع إلى الاندراج في الثقافة العالمية الصاعدة كمنبع للقيم الفاعلة وتحقيق إنسانية الإنسان.
إن النظر للتراث كمصدر للاحتفاظ بالهوية ما هو في الواقع إلا حل شكلي هروبي لمسألة الذاتية ولابد أن ندرك أن الحفاظ على الهوية، هو أكثر من استرجاع الماضي،... وهذا أمر لا يتوفر إلا بقدر ما تنجح الذات في أن تكون مشاركة إيجابيًا في الحضارة القائمة ومبدعة فيها. إن الثقافة الغربية الحديثة الفعالة في الحضارة هي أكثر من كل الثقافات الأخرى ارتباطًا بالتراث وليس في حجرها من يطرح مسألة التراث والمعاصرة.
ولنا في نهاية حديثنا استطراد:
يبدو أن العلاقة المزمنة بين مصطلحي الحداثة والتراث وبين مؤيدي وأنصار كلاً من المصطلحين ومعارضيهما سوف تظل ولفترة طويلة تشغل فكر وبال كثير من المفكرين في الوطن العربي ولسوف يظل المعنى الكامن وراء هذين المعنيين (الحداثة والتراث) معنى مبهم يفسره كلاً من أنصاره ومعارضيه بما يحلو من التفاسير وبما يعضد وجه نظره ويؤيدها... ويبدو أيضًا أننا نحتاج لوقت طويل حتى نرحل عن المربع رقم واحد وننتقل من حال (الحديث) إلى حال (الفعل) ولكن هذه الترحال يحتاج إلى زاد.... ولا أحد حتى الآن يعلم (على كثرة ما كتب) ما هو هذا الزاد حيث أننا أيضًا مختلفين حوله وحول ماهيته. ولكن الشاهد الذي لا تخطئه عين هو أن السيادة اليوم لنصره التراث بكل ما فيه من عداء للحداثة بمجمل ما تطرحه وأن هناك إحساس جارف بالعرفان تجاه (التراث) مما يحمله من قيم سلفيه وإحساس مقابل بالتوجس تجاه (الحداثة) بكل ما توضعه من قيم حضارية وأن الإعتراك بينهما شديد ويبدو أنه سوف يظل على أشده فترة من الزمن حتى يضع العقل العربي أوزارة ويحط في أرض الواقع بعد طول تخبط
ولكن السؤال أليس كل ما مر بالواقع العربي كفيلا بأن يجعله يلتفت ولو لحظة لكنه أمره وحقيقة وضعه؟ وماذا يحتاج العقل العربي لأكثر مما حدث ويحدث له حتى يفيق من سباته (الماضوي) ويغتسل من درن الوهم والإحساس الكاذب بالاكتفاء.
كم نحتاج لمقوله الدكتور( برهان غليون) والتي سطرها في ثنايا كتابه أننا نحتاج أن تحيي التراث ولا نحيا به ولكن الشاهد المعاش أننا نحيي التراث لنحيا به ولذلك لاحياه لنا في عالم الصيرورة الدائمة والتغيرات المتسارعة والحضارة التي سادت وتسيدت بقيم ومرجعيات هي أبعد ما تكون عن القيم التي يطرحها التراث الذي نحيا جميعًا في ظل شجرته الوارف ظلها كذبًا.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=5623&I=153