د. عبد الخالق حسين
بقلم: د. عبد الخالق حسين
أفادت الأنباء في الأيام الأخيرة، أن لقاءً تم في تركيا بين ما يعرف بـ«المجلس السياسي للمقاومة» العراقية وممثلين عن الحكومة الأميركية برعاية تركية، لضم المجموعة المسلحة إلى العملية السياسية...، وأن هذا اللقاء تم دون علم الحكومة العراقية، مما أثار استغرابها والتي بدورها وجهت استفساراً إلى سفارة الدولتين، أمريكا وتركيا، واعتبار هذا العمل تدخلاً في الشؤون العراقية... وهناك أنباء عن ضلوع السيد طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية، بهذه اللقاءات، الأمر الذي نفاه مكتبه بشدة. (تقرير صحيفة "الشرق الأوسط"، 28/7/2009).
على أية حال، يجب أن لا نستغرب ولا نتطير من لقاءات تتم بين الأمريكان والجماعات البعثية المسلحة التي تسمى نفسها بـ«المجلس السياسي للمقاومة العراقية». فهذا المجلس رغم إدعائه بأنه يضم أربعة تنظيمات، إلا إننا نعرف أن هذه التنظيمات هي مجرد مسميات للبعث نفسه وتحت أسماء إسلامية، فهذا ديدن البعث في توظيف الأسماء الدينية لأغراضه السياسية. أما فيما يخص الأمريكان، فهم كغيرهم من الدول الغربية الديمقراطية يتحلون بالصبر الجميل، ولن يمتنعوا عن طرق جميع السبل في حل أية مشكلة سياسية، ولا يرون ضيراً من عقد هذه اللقاءات طالما لا تضر بالغرض السياسي النهائي الذي يعملون من أجله. فهذه اللقاءات تمت قبل سنوات بين الأمريكان وبعض الجماعات المسلحة من العشائر العربية السنية في الرمادي، والتي تمخضت عن ولادة "مجالس الصحوة" التي لعبت دوراً كبيراً في دحر الإرهابيين من فلول البعث وأتباع القاعدة.
إلا إننا نعتقد أن الأمر مع المسلحين البعثيين أو ما يسمى بـ«المجلس السياسي للمقاومة» يختلف كثيراً عن حالة مجالس الصحوة التي تمثل العشائر العربية السنية والتي كانت تخاف من التهميش والإقصاء في المشاركة في حكم بلادهم... ولما تم توضيح الأمر لهم وطمأنتهم ودعوتهم للمشاركة في العملية السياسية، ونظراً لما أصابهم من قتل ودمار على أيدي الإرهابيين أنفسهم، فغيروا موقفهم وانضموا إلى العملية السياسية، وهم الآن يلعبون دوراً إيجابياً وفعالاً في دحر الإرهاب. وهذا لا يمكن تطبيقه على فلول البعث.
فالبعث ينقسم إلى فريقين: فريق الأغلبية الساحقة التي تضم نحو مليونين من أبناء شعبنا من الذين اضطروا للانتماء إلى حزب البعث لضمان سلامتهم وكسب معيشتهم في الحصول على الوظائف ومقاعد الدراسة في الجامعات والبعثات التي احتكرها حزب البعث الحاكم للبعثيين فقط...الخ، ومعظم هؤلاء لم تتلطخ أيديهم بدماء العراقيين، وربما ارتكبوا أخطاءً، وهم الذين وصفهم رئيس الوزراء السيد نوري المالكي عندما أطلق دعوة المصالحة مع البعثيين في التاسع من آذار 2009 بقوله: «يجب أن نتصالح مع أولئك الذين ارتكبوا أخطاء، ممن اضطروا في تلك الفترة الصعبة إلى التزام جانب النظام السابق، واليوم هم مجدداً أبناء العراق ... وسوف نتصالح معهم، شريطة أن يعودوا إلينا وأن يقوموا بقلب تلك الصفحة السوداء من تاريخ العراق... فما حصل قد حصل.»
وخلافاً للتشنجات التي أبداها البعض من تصريحات السيد المالكي، أنا لا أرى أي خطأ في هذه الدعوة، إذ ليس من العدالة ولا من الفائدة لشعبنا، منع نحو مليونين من العراقيين من حقوق المواطنة، وحرمان بلدنا من مساهماتهم الايجابية في إعادة الإعمار، خاصة ومن بينهم عدد كبير من التكنوقراط ومن حملة الشهادات العالية وأصحاب خبرات عملية في التنمية البشرية والاقتصادية والإدارية. وهؤلاء هم الذين عناهم السيد المالكي، وتمت المصالحة معهم بصفتهم الشخصية وليس بصفة تنظيم سياسي وتحت أي مسمى.
أما الفريق الثاني من البعثيين، فهم الأقلية التي لا تتجاوز نسبتهم 1% من مجموع المحسوبين على حزب البعث، وهم الذين ارتكبوا الجرائم البشعة ضد شعبنا، ومازالوا يواصلون إرهابهم في تخريب البلاد وقتل العباد باسم مقاومة الاحتلال. فهؤلاء لا يمكن المصالحة معهم، لسببين أساسيين:
الأول، هو دستوري حيث تنص المادة السابعة من الدستور العراقي الدائم، أولاً :ـ" يحظر كل كيانٍ او نهجٍ يتبنى العنصرية او الإرهاب او التكفير أو التطهير الطائفي، او يحرض أو يمهد أو يمجد او يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمىً كان، ولا يجوز ان يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون. "
السبب الثاني، وكما بينا مراراً وتكراراً، أن هؤلاء البعثيين هم أنفسهم يرفضون بعناد ومكابرة، أي نوع من المصالحة مع الحكومة العراقية، وذلك لأنهم يريدون السلطة لهم كاملة، وإلغاء كل ما تحقق للشعب العراقي من مكتسبات منذ 9/4/2003، وهذا مستحيل. إن سبب تمسك البعثيين بهذا الشرط التعجيزي هو لأنهم يعلمون علم اليقين أنهم منبوذون من الشعب ولا يتسطيعون مواجهته مرة أخرى، وبأي وجه يواجهون الشعب بعد أن تسببوا له كل هذه الكوارث والنكبات؟ لذلك يطرحون الشروط التعجيزية ليبرروا مهمتهم في مواصلة التخريب والإرهاب، ولسان حالهم يقول: "فليكن من بعدي الطوفان... عليَّ وعلى أعدائي يارب".
كذلك أعتقد أن اللقاءات التي تمت بين الأمريكان والمسلحين البعثيين، هي استجابة الأمريكان للضغوط التي توجهها بعض الحكومات العربية على أمريكا وبدوافع الطائفية ومعاداة العملية السياسية في العراق، خاصة وقد حاول البعثيون طرح أنفسهم عند العرب على أنهم يمثلون السنة العرب في العراق، ومنعهم من المشاركة يعني منع العرب السنة، وهو إدعاء كاذب وزائف ومضر بسمعة السنة العرب الذين لم يسلموا من شرور البعث. فالبعث معروف بعدائه للإسلام وبجميع مذاهبه، ورغم حملته الإيمانية الزائفة قبل سقوطه. لذلك نعتقد أن الأمريكان استجابوا لهذه الضغوط والتقوا مع المسلحين وهم يعلمون في قرارة نفوسهم أن هذه اللقاءات ستبوء بالفشل، ولكنهم استجابوا للضغوط لكي يجردوا العرب من أي عذر لهم في دفاعهم عن البعثيين.
وهذا ما حصل فعلاً، حيث توصل الأمريكان في لقائهم مع ما يسمى بـ«المجلس السياسي للمقاومة العراقية» إذ أكد متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية وقوع المحادثات على جولتين،... وأشار إلى تعثر عقد لقاء ثالث بسبب رفض الجانب الأميركي شروط المجموعة. (المصدر السابق).
ملاحظة أخرى أود الإشارة إليها وقد ذكرتها في مقالة سابقة لي، وهي إلحاح البعض من أصحاب النوايا الحسنة، في المطالبة بالاستفادة من تجربة جمهورية جنوب أفريقيا بعد انهيار النظام العنصري، والتعامل مع حزب البعث والجماعات الإرهابية الأخرى بنفس الطريقة التي جرت في بريتوريا. في الحقيقة ليس هناك أي مجال للمقاربة والمقارنة بين الحالتين وذلك للأسباب التالية:
إن الحزب الحاكم في النظام العنصري في بريتوريا بقيادة ديكلارك، وتحت ضغط النضال الوطني بقيادة نيلسون مانديلا، هو الذي استجاب لمتطلبات المرحلة واعترف بأخطائه، واعتذر للشعب وطلب الغفران منه، وقام بعملية التغيير من نظام عنصري إلى نظام ديمقراطي. بينما حزب البعث لم يبادر بأي تغيير، بل فرض عليه التغيير عن طريق الحرب من التحالف الدولي بقيادة أمريكا وتعاون شعبنا بعدم الدفاع عنه. كما وإن البعث رفع السلاح ضد الشعب العراقي عندما حصل التغيير عنوة، ومازال يقود الإرهاب والتخريب بالتحالف مع جماعة القاعدة الإرهابية ضد الشعب العراقي، ويعمل على إلغاء جميع ما تحقق من مكتسبات ديمقراطية، ويحاول إفشال العملية السياسية عن طريق الإرهاب ونشر الذعر والرعب بين الشعب وإثارة الفتن والحرب الطائفية وتدمير المؤسسات الاقتصادية لوضع الشعب أمام الأمر الواقع بأن أما أن يحكمه البعث أو الفناء. ولحد الآن يرفض قادة البعث أي سلام مع الشعب العراقي. ولذلك لا يمكن استنساخ تجربة جنوب أفريقيا أو حتى التجربة الأيرلندية. فحزب البعث هو حزب فريد من نوعه، بفاشيته وجرائمه وأيديولوجيته وتاريخه الدموي.
ومن الجانب الآخر، يجب تنبيه المسؤولين في الحكومة العراقية أن يكونوا حذرين من إطلاق تصريحات غير مسؤولة ضد أمريكا، سواءً كانت مقصودة أو للاستهلاك المحلي، إذ يستغل أعداء العراق هذه المناسبات، وباسم الحرص على مصلحة العراق وسيادته الوطنية، خلق شرخ بين الحكومة العراقية والإدارة الأمريكية. لذلك يجب على الحكومة أن لا تسقط في الفخ. كما ويجب علينا أن لا نتطير من عقد لقاءات بين الأمريكيين وممثلين عن فلول البعث المقبور وغيرهم، لأن الغرض من هذه اللقاءات هو إسكات بعض الحكومات العربية التي تدافع عن البعثيين وتطالب بمشاركتهم في السلطة، كذلك يريد الأمريكان سحب البساط نهائيا من تحت أقدام البعث الصدامي المسلح، وتعريته كل التعرية أمام الرأي العام العربي والدولي.
العنوان الإلكتروني: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com/
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=5626&I=153