التسامح والسماحية

كمال غبريال

بقلم: كمال غبريال
التسامح من المفاهيم الشائعة في ثقافة شعوبنا، بغض النظر عن مدى الالتزام بها في الممارسة العملية والحياتية، هي قيمة نحرص على ادعاء امتلاكها، حتى لو قنعنا واكتفينا بمجرد الادعاء، وحتى لو اعتنقنا إلى جانبها، مقولات ومفاهيم تنسف ذاك التسامح المدعى من أساسه.
أن تتسامح forgive يعني تغفر خطأ قد ارتُكب في حقك، من قبل طرف آخر، وقد يرجع المعيار الذي تقيس عليه "الخطأ والصواب" إلى قناعاتك الشخصية باختلاف أنواعها، كما قد يرجع إلى السائد في المجتمع من قيم ومعايير. . وقد يكون الخطأ محل النظر موجهاً لك شخصياً، أو تستشعر الخطأ في حق جماعة تنتمي إليها، سواء كانت عائلة أو جماعة دينية أو وطنية، كما يمكن أن تعتبر "الخطأ" في حق فكرة أو العقيدة الدينية ذاتها.
قد يكون الموضوع محل النظر (من حيث التسامح من عدمه) متفقاً على تصنيفه كخطأ بين الطرفين، أي بين مرتكب الخطأ، وبين الذي ارتكب الخطأ في حقه، هذا إذا كان معيار قياس "الصواب والخطأ" يندرج ضمن القيم والمفاهيم العامة والمتفق عليها من جميع أفراد الجماعة، التي قد يتسع حجمها في بعض المواضيع لتشمل الإنسانية جمعاء. . في مثل هذه الحالة لا تكون ثمة إشكالية في مفهوم التسامح forgiveness، لكن هناك نوعية أخرى، مما يمكن أن نعده أو يعده شخص ما خطأ موجها له بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، حين يكون معيار قياس "الخطأ والصواب" متضاداً لدى الطرفين، ويحدث هذا في حالة انتماء الطرفين إلى منظومتين مختلفتين جذرياً في العادات والتقاليد، كما تبرز في هذا المجال بقوة حالة الاختلاف في الدين.
في الحالة الأخيرة يحسب كل طرف، أن ما يعتنقه من قيم ومبادئ وعقيدة دينية هي وجوده وهويته ذاتها، لتكون النتيجة أن يعتبر وجود الطرف المناقض له، بمثابة "جريمة" كائنة مقابله، وقد لا يحتاج الأمر هنا لكي يستشعر أحد الأطراف أن "خطأ" قد أرتكب في حقه، ربما يستدعي أو لا يستدعي التسامح، أن يقوم الطرف المقابل بأي فعل، فوجود هذا الآخر على ظهر البسيطة في حد ذاته بمثابة "خطأ" دائم، يستدعي أن يكون مستفزاً بصورة مستديمة، مالم يتحل بقدر -قد يستدعي الأمر أن يكون هائلاً- من "التسامح"، يكفي لتسكين حالة الاستفزاز الذي يسببه هذا الآخر، سواء بوجوده ذاته، أو عبر أي مظاهر تخصه، كالجهر بصلواته مثلاً، أو اقامة دور عبادة له.
نستطيع بسهولة أن نستنتج مما سبق أن التسامح forgiveness في حالة "الخطأ" المقاس على معايير وقيم مشتركة بين الناس، يكون حلا ناجحاً تماماً، وكافياً لتهدئة النفوس وإقرار السلام، خاصة وأن التسامح يتم عادة، بعد إقرار المسئ أو المخطئ بخطأه، وتعهده بعد تكراره، ما لم يندرج هذا الخطأ تحت طائلة القانون، الذي يستدعي توقيع عقوبة على المخطئ. . أما في حالة انتماء الطرفين (اللذين يستشعر أحدهما أو كلاهما خطأ الطرف الآخر) إلى منظومتين مختلفتين لقياس "الخطأ والصواب"، كحالة الانتماء إلى عقيدتين دينيتين مختلفتين، فإن "التسامح" هنا، حتى في حالة سيادته على الموقف، يكون مصحوباً بحالة توتر دائم، يسببه شعور الطرف "المتسامح" بالتفضل على مقابله بتسامحه، خاصة وأنه لابد وأن يعتبر "المخطئ" هنا مستمراً وسادراً في خطأه، بالإصرار على الانتماء إلى المنظومة الاعتقادية المضادة لما يؤمن به الطرف المتسامح.
يترتب على تلك الحالة الأخيرة من "التسامح" أيضاً، ونتيجة لاختلاف قدرات الناس على التحلي بقدر التسامح المطلوب، خاصة في حالة ما إذا تضمنت المعتقدات الرائجة، تأثيماً وتجريماً ووعيداً للمخالفين، أن يتفاقم التوتر في أحيان كثيرة إلى احتقان، يهدأ حيناً ويشتد أحياناً، لكنه لا يمكن أن ينتهي نهائياً، مادمنا نواجهه بفلسفة التسامح forgiveness، الذي يعني على وجه الدقة المغفرة.
في هذه الحالة، والتي تعاني منها مصر بالتحديد، مع منطقة الشرق الكبير عموماً، يلزمنا أمراً أو مفهوماً آخر غير مفهوم "التسامح"، ذلك هو "السماحية tolerance"، والذي يعني اعتقاد الفرد بأن ما يعتنقه من مبادئ وقيم واعتقادات، يحتمل إلى جانبه خيارات أخرى لأناس آخرين، وأنه رغم اعتقاده الجازم بأن ما يتبناه هو عين الحق والحقيقة، فإن هؤلاء الآخرين أيضاً لديهم ذات اليقين بأحقية وحقيقة ما يعتقدون فيه. . بهذا تكون الصورة المتمثلة في ذهن الجميع، ليست صورة تسامح طرف محق بصورة مطلقة، "يتسامح" مع طرف آخر مخطئ ومدان يقيناً، وإنما أن جميع الفرقاء بكل ما يؤمنون به ويعتقدون فيه، يقفون على قدم المساواة في ساحة، لابد وأن تتسع للجميع، الذين في هذه الحالة لابد وأن يجدوا لأنفسهم قاعدة مشتركة ومتفق عليها، يتعاملون على أساسها.
لا ينبغي أن تنبع قاعدة التفاهم المشترك المنشودة تلك، من داخل دائرة أو دائرتي الاختلاف المتصادمتين، حتى وإن حوت تلك الدوائر ما يصلح كأساس مشترك، كوصايا التسامح مثلاً في جميع الأديان. . فاستناد المشترك المنشود إلى مرجعيات مختلفة، ليستمد منها قبوله وشرعيته، لابد ورغماً عنا أن يقوم البعض باستدعاء نقاط الاختلاف، بذات نوعية وقدر الشرعية التي نستند نحن إليها في تأسيس الاتفاق، لنعود ثانية إلى حالة التوتر والاحتقان الأولى.
كيف إذن يمكن أن نؤسس للسماحية التي نحن في أشد الاحتياج إليها؟
لاشك أن "التسامح" مفهوم أخلاقي متسام، حتى وإن كان له جذوره المادية الواقعية، الراجعة إلى أمل "المتسامح" في المعاملة بالمثل، إذا ما ارتكب في يوم ما خطأ في حق أحد، لكننا لا نستطيع أن نعتمد على المنحى الأخلاقي في ترسيخ السماحية، لأنها ستكون في هذه الحالة هشة، وربما أيضاً منافقة. . ذلك إذا ما ظل كل منا يعتقد في امتلاكه الحقيقة المطلقة، والصالحة لجميع البشر، وليس لمعتنقها شخصياً، ومع ذلك نحرضه على ترك مساحة اختلاف للآخرين. . تحتاج "السماحية tolerance" إلى أساس منطقي متين تتأسس عليه، ويقوم على تخلي الإنسان عن وهم امتلاك اليقين أو الحقيقة المطلقة.
فطوال مسيرة الإنسان كان يبحث عن الفهم والتفسير لكل ما حوله من ظواهر، كان يبحث عن يقين، ينقذه من الحيرة والخوف، من ذلك العالم الحافل بالألغاز والمخاطر، أي أن اليقين كان ضالته، وليس مجرد المعرفة بالكون، لذا كان يسارع بمنح كل ما يتوصل إليه أو يقال له صفة اليقين المنشود، فهو لا ينشد ولا يقبل بأقل من اليقين، الذي يرتاح بعده، فيملأ النوم جفنيه.
الآن وقد وصلت البشرية إلى ألفيتها الميلادية الثالثة، فقد نضجت بما يكفي، لتعرف وتعترف أنها لم تتوصل يوماً إلى يقين حقيقي، وأنها تبحث دوماً عن حقائق متغيرة، والإنسان هو الذي يغيرها بنفسة، خلال سعيه نحوها. . هو يعرف الآن أن العلم قد أدرك أخيراً أنه لا يوفر من خلال نظرياته وأسالبية اليقين المتصور قديماً، حتى في فحصه للعالم الطبيعي، فعلاوة على أنه يداوم دحض نفسه بنفسه، فإنه لا يعطينا في حالات عديدة أكثر من احتمالات مرجحة، تحمل في طياتها نقيضها.
أما في مجال الدين، حيث النصوص مقدسة ومطلقة الصحة في ذاتها، نظراً لمصدرها الإلهي، فإننا  ينبغي أن نقر أن النصوص وإن كانت مقدسة، إلا أن فهمنا لها، يدخل فيها العامل البشري، فالبشر الذين يفهمون هذه النصوص ويفسرونها، ليسوا بأي حال معصومين، ولا يزيد حجم نجاحهم في الفهم الصحيح للنصوص المقدسة، عن حجم نجاحهم في التوصل بالعلم إلى الحقائق المادية للعالم الطبيعي الذي يعيشون فيه، وأي ادعاء من بشر غير ذلك، يعني إما جهلهم، أو ادعاء عصمة وحكمة مطلقة لأنفسهم، لا يتصف بها بالفعل غير الله.
لا نريد من هذا الكلام أن نروج  للتذبذب والتقلقل واللا أدرية، فهذا لو حدث لشخص لكان في احتياج إلى علاج فكري أو ربما نفسي أيضاً. . المقصود لا يمكن أن يكون فقدان الثقة في كل من العلم والدين، فيتخلى الإنسان عن كل ميراثه ومكتسباته، ليعود ينظر للعالم من حوله ببلاهة. . المقصود هو تحلي كل صاحب علم وفكر وعقيدة بتواضع حقيقي وليس متصنعاً، بإدراك أن ما يتوصل إليه صحيح تماماً له ولحياته، وأن هناك آخرون أيضاً، يتوصلون لحقائق مختلفة عما توصل إليه بدرجة أو بأخرى، وأن حقائقهم عزيزة وموثوق بها لديهم، بنفس القدر الذي يعتز ويثق هو بما توصل إليه. . كما يعني هذا أن علينا، لكي نستطيع العيش في مجتمعات مشتركة، ولا نعود إلى العيش فرادى كما كان الإنسان البدائي، أن نجد لأنفسنا حداً أدنى من المشتركات، تكفي لكي نقيم على أساسها حياتنا ومجتمعاتنا، دون استعلاء أو محاولة هيمنة طرف على سائر الأطراف. . هذا المشترك  وتلك السماحية، هي التي توصلت إليها وتبنتها الأمم التي نصفها الآن بالتقدم والحداثة، وهي بالتحديد ما تحتاج إليه شعوبنا لكي تلتحق بها.
Kghobrial@yahoo.com
Kamal Ghobrial
Alexandria- Egypt

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع