بقلم: د. أماني قنديل
إن هذا السؤال الوحيد, هو مشروع علمي متكامل, يطرح علي عينة ممثلة من المواطنين, ليس في مصر فقط, وإنما في كل بلاد العالم.. الإجابة علي السؤال تختلف بالطبع, وفقا للسياق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. هل تشعر بالأمان؟ هو سؤال يثار في مواجهة أطروحة مجتمع المخاطر العالمي, وهو مفهوم يصف إنتاج وإدارة المخاطر في العصر الحديث, ويؤكد أن المخاطر حاليا ـ وفي إطار العولمة ـ تتزايد بشكل غير مسبوق أمام البشر, جزء منها ناتج عن المخاطر, الطبيعية والبيئية, وجزء آخر ضخم, ناتج عن النشاط الإنساني. إن مجتمع المخاطر والقضايا التي تتعلق بأمن الإنسان, وشعوره بالأمان, أصبح لها موضع رئيسي علي جدول أعمال علماء الاجتماع, ويتجه البحث فيها نحو الحكومات من جهة, والمجتمعات من جهة أخري. فالأولي ـ أي الحكومات ـ لابد أن تنشغل بالمستقبل, وتنشغل بإدارة المخاطر( وهي أكبر وأهم من إدارة الأزمات) ولها معاهد ومراكز متخصصة.. أما المجتمعات, فلابد هي الأخري أن تكون علي وعي, وتتعامل بكفاءة وفاعلية مع المخاطر التي تهدد أمانها, سواء في اللحظة الحالية أو في المستقبل..
وبالتأكيد في عصر العولمة, وسقوط الحدود, فان المخاطر لم تعد تهدد مجتمعا معينا, وإنما تمتد وتنتشر ببساطة, عبر المجتمعات.. وهناك أربعة أنواع من المخاطر, تهدد العالم أجمع, و يركز عليها المعاهد والمراكز البحثية, والمعنيون بدراسات المستقبل.. أولاها مخاطر ناتجة عن التطور الصناعي, والتطور التكنولوجي الهائل غير المسبوق والذي امتد إلي التأثير في وسائل الاتصال, سواء عبر الانترنت أو الفضائيات.. ثانيتها مخاطر بيئية, هي في جزء منها نتاج للنشاط ونتاج اندفاع الرأسمالية المتوحشة لاستنزاف الموارد, وهو ما دفع أخيرا إلي التركيز علي مفاهيم المسئولية الاجتماعية, والرأسمالية الأخلاقية.
المجموعة الثالثة من المخاطر, هي مخاطر صحية تأخذ شكل الأوبئة التي تهدد الإنسان, والحيوان, والطيور.. الأوبئة ـ مثل إنفلونزا الطيور, و إنفلونزا الخنازير ـ تخطت كل الحدود, وأصبح من الصعب حصارها في منطقة معينة, وهو ما جعل البعض يستخدم تعبير عولمة الأوبئة أو الأمراض الكونية.. رابع هذه المخاطر, التي يشار إليها علي خريطة المجتمع العالمي للمخاطر, هي تلك المخاطر الناتجة عن متغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية, و هي ما ترصدها المراكز البحثية العالمية بأنها الأشد ضراوة وخطرا. لماذا؟ لأنها تتفاعل معه وتتأثر بكل أنواع المخاطر السابقة, كما أنها تتسم بعدم اليقين, وتؤثر بشكل كبير علي شعور الإنسان بالأمان.
يبرز ذلك بشكل رئيسي في غياب الأمن الوظيفي( أي شعوره بالاستقرار النسبي في مجال عمله), ويبرز في غياب القدرة التنافسية في مخرجات التعليم, ليس فقط في الحاصلين علي نوعية تعليم متدنية, ولكن أيضا في أولئك الذين سمحت أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية, بالحصول علي تعليم مرتفع النوعية.. والسبب الرئيسي هو صعوبة التنبؤ باحتياجات السوق في المستقبل.. ضمن هذه المجموعة الرابعة من المخاطر تقع الأزمات المالية والاقتصادية الكبري, عابرة الحدود والقارات, والتي أطلقت عليها بعض الكتابات الحديثة الغربية الأزمات العالمية متعددة الجنسيات, في مقابل الشركات العالمية متعددة الجنسيات هناك أيضا اهتمام من النظريات الاجتماعية التي تناقش مجتمع المخاطر, بقضية كبري امتدت إلي كل المجتمعات, وهي تآكل العائلة التقليدية, والتغيرات القيمية والسلوكية داخل العائلة, وتزايد العنف داخل الأسرة, وضعف التواصل بين الأطراف, وظاهرة العنوسة.
وضمن هذه المجموعة الرابعة من المخاطر, يدخل السياق السياسي ليؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر علي شعور الإنسان بالأمان, وعلي ترقبه للخطر, وبالطبع يقوي التأثير السلبي للسياق السياسي إذا غابت الديمقراطية, وكانت المؤسسات السياسية تتسم بالهشاشة, وحين يغيب احترام قواعد القانون, ولا يطبق علي الجميع بشكل عادل, وتزداد المخاطر في غياب العدالة الاجتماعية, وضعف احترام حقوق الإنسان, وتفشي الفساد.. ثم يأتي المكون الأخير, وهو المخاطر القيمية والأخلاقية, ليضيف أبعادا أخري لمجتمع المخاطر.
إن المراكز والمعاهد البحثية العالمية, تسعي بوعي وفهم وإدراك, إلي احتساب المخاطر, أي العمل علي زيادة القدرة علي التحكم في المستقبل وفي الزمن.. هذه المراكز والمعاهد تتعامل بشكل علمي وواقعي مع مجتمع المخاطر, هي لا تشكل مراكز لإدارة الأزمات ـ كما هو الحال في مصر ـ تتدخل للتعامل مع المشكلات الكبري بعد وقوعها, أو تتدخل للتخفيف من آثارها( كما هو الحال في المخاطر الصحية الحالية التي تتعلق بإنفلونزا الطيور, أو إنفلونزا الخنازير), هي ليست مراكز لإدارة أزمات, تقدم مساعدات عينية أو مادية للمتضررين من انهيار منازل ومناطق عشوائية, وبالتالي يتسم سلوكها بالعشوائية والتخبط.. وإنما هي مراكز ومؤسسات علمية بحثية تخطط بشكل علمي, وتتحالف مع كل الفاعلين ـ في الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص ـ للتدخل المحسوب بدقة قبل وقوع المخاطر وغياب الأمان نهائيا عن المواطن. وهنا فإن التعامل مع أمان المواطن, يتطلب عدة أمور, أبرزها احتساب المخاطر بزيادة القدرة علي التحكم في المستقبل, وتوافر رؤية واقعية علمية لخريطة المخاطر الحالية في مصر, ومدي تفاقمها في المستقبل( من أهمها الفقر,
وتدني نوعية التعليم, وضعف القدرة التنافسية لخريجي العملية التعليمية, والبطالة, ونوعية الخدمة الصحية وتوفير السكن اللائق الذي يوفر الحد الأدني من الأمان...) يتطلب التدخل للحد من المخاطر, إدخال فاعلين جدد إلي الساحة, وبشكل حقيقي فعال ومؤثر, وليس بخطاب سياسي أو إعلامي يتحدث عن الشركاء وبناء الشراكة.. احتساب المخاطر وتزايد القدرة علي الحكم في المستقبل, يحتاج إلي جهود العلماء والباحثين في مصر, معا في منظومة واحدة تتحدد فيها الأدوار ليس فقط لصياغة خريطة المخاطر, وإنما التدخل الاستراتيجي للحد من هذه المخاطر.. نحن نحتاج إلي إرادة التحكم في المستقبل( وليس مجرد المخاطر الكبري الحالية) وفي حاجة إلي أدوات فعالة ومتكاملة للتعامل مع المخاطر..
ونعود إلي نقطة البداية, وهي السؤال عن هل يشعر المصريون بالأمان؟ إذا امتد استطلاع الرأي في المشروع العالمي, الذي يختبر بشكل مقارن شعور المواطنين في دول العالم بالأمان, اعتقد أننا سوف نفاجأ باستجابات تعكس التنوع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي, الذي يؤثر علي إدراك الخطر أو الشعور بالأمان.. ووفقا للمقاربات الاجتماعية الحديثة, سوف يقول الغالبية العظمي من المصريين ـ الفقراء المطحونين اقتصاديا واجتماعيا ـ الحمد لله أو رضا أو زي الفل( وهو التعبير الشائع لدي الشباب).. أما علي مستوي صانعي السياسات, فسوف نفاجأ بحالة إنكار المخاطر أو أن المخاطر لن تطولنا واقتصادنا بخير( راجع تصريحات المسئولين مع بداية الأزمة المالية العالمية).. أما الشرائح العليا الغنية ـ والتي وفقا للمقاربات الانثربولوجية المعنية بمجتمع المخاطر ـ فهي الوحيدة التي لديها قلق كبير من المخاطر المستقبلية, وتشعر بعدم الأمان, إزاء إدراكها تهديدا لما تمتلكه من ثروة أو سلطة أو نفوذ.. ألا يستحق هذا الموضوع
أن يكون محلا لدراسة علمية جادة, تصيغ في النهاية خريطة المخاطر وأدوات التعامل معها؟
نقلا عن الاهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=5881&I=160