د. ماجد عزت اسرائيل
بقلم: د. ماجد عزت اسرائيل
ولد مفهوم الثورة مع تاريخ العلوم نفسها في القرن الثامن عشر، واستخدم لأول مرة سنة 1727م، ثم انتشرت الكلمة بسرعة للحديث عن فيزياء نيوتن وغدا شائعًا في دائرة معارف فلاسفة الأنوار وأصبح لكل علم ثورته، وباختصار أربعة مفاهيم: مفهوم الثورة العلمية، ومفهوم الثورة الصناعية، ومفهوم الأخلاق والتقاليد وأخيرًا مفهوم الثورة السياسية.
وتعد ثورة 1919م التي اندلعت في التاسع من مارس منذ تسعين عامًا من الثورات السياسية الخالدة في تاريخ مصر الحديث، فقد جاءت هذه الثورة نتيجة للشحنة الكامنة في نفوس المصريين ضد الاحتلال منذ عام 1882م، فكانت حانقة من تصرفات السياسة البريطانية ومتحفزة للثورة، ثم جاء اعتقال الوفد المصري الذي كان يستعد للسفر إلى مؤتمر الصلح بباريس للمطالبة باستقلال مصر بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة التي استمرت في اشتعالها وانتقل صداها إلى جميع أنحاء مصر.
وقد اتسمت ثورة 1919م بشموليتها واشتراك كافة طوائف المصريين وفئاتهم الاجتماعية من طلاب وموظفين وعمال وفلاحين وتجار ومحامين حتى الأمراء والوزراء والأعيان والمرأة وفي مقدمتهم "صفية زغلول وهدى شعراوي"، وقد رفع شعار وحدة عنصري الأمة "الهلال يعانق الصليب"، -تعتبر الفترة مابين ثورة 1919م وثورة1952م هي العصر الذهبي لمشاركة الأقباط سياسيًا- ويعزى هذا الشمول الذي اتسمت به الثورة فداحة ما أصاب مصر والمصريين من جراء الأجانب والاحتلال البريطاني سواء على الصعيد السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي.
وبقدر قوة الثورة جاءت نتائجها وكان حصادها، الإفراج عن سعد زغلول وصحبه، وبضغط من الثورة سافر الوفد المصري إلى باريس للمشاركة في مؤتمر الصلح، ولكن ذلك تم بعد فوات الأون حيث كان المؤتمر قد أنهى أعماله وأغلق أبوابه ولم يجد له مؤيدًا أو نصيرًا من ممثلي الدول الكبرى، ومع ذلك فقد استمر "سعد زغلول" وأعضاء الوفد في باريس لتوضيح عدالة القضية المصرية، ونظرًا لشعور الحكومة البريطانية بنقمة المصريين على سياستها وما تسبب عنها من قيام الثورة فكرت في معالجة الموقف بإرسال لجنة إلى مصر للتحقيق في الأمر وبحث الوسائل الكفيلة بالتهدئة، لذلك أعلنت في 15 مايو 1919م إيفاد لجنة برئاسة "اللورد ملنر" وزير المستعمرات وتفويضها في تحقيق أسباب الإضرابات وتقديم تقريرعن أحوال مصر.
وانتهت المفاوضات بين سعد وملنر والتي جاءت في أعقاب لجنة ملنر بالفشل، وهو وضع طبيعى –لتباين وجهة نظر الطرفين- غير أنها كانت البداية نحو وضع آلية للتعامل مع الطرف البريطاني والتي تمثلت في سياسة الخطوة، أو أخذ وطلب، وكانت البداية أيضًا لسلسلة من المفاوضات المرهقة والمضنية والتي انتهت بمعاهدة 1936م.
وفي أعقاب فشل مفوضات "سعد-ملنر" جاء الصدام بين "سعد وعدلي يكن" إلى شق الصف الوطني، وهو ماعجل بريطانيا إلى إصدارتصريح 28فبراير 1922م في أعقاب فشل مفاوضات "عدلي– كيرزون" في أواخر سنة 1921م، وإذا كان تصريح 28 فبراير 1922م من طرف واحد إلا أنه اعترفت فيه إنجلترا لأول مرة بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة وإنهاء الحماية البريطانية، وعلى الرغم من أنه استقلال مشروط بشروط محددة فإنه يعتبر خطوة أولى في سبيل الاستقلال الفعلي للمصريين، وكذا تلقب السلطان "فؤاد" بلقب "الملك فؤاد" وأصبح زمام الخارجية بيدها.
في ذات الوقت جاء صدور دستور 1923م ليشكل جانبًا مهمًا من حصاد الثورة والذي تمثل في أصدار قانون الإنتخابات وما ترتب على ذلك من إجراء أول انتخابات نيابية في مصر في ظل الدستور، والتي جاءت نتيجتها انتصارًا مدويًا للوفد في مواجهة القوى السياسية القديمة (الحزب الوطني) والقوى السياسية الناشئة (حزب الأحرار الدستوريين)، كما جاءت شاهدًا على نزاهة حكومة "يحيى إبراهيم" التي أرادات نجاح العملية الإنتخابية، وجاءت هزيمة "إبراهيم" في دائرة منيا القمح بمديرية الشرقية شاهدًا على نزاهة الحكومة ورئيسها، وبذا شكل سعد زغلول في 1924م أول حكومة دستورية.
في ذات الوقت جاء ظهور حزب الوفد إلى النور إلى جانب ما خرج منه من تشكيلات حزبية أخرى مثل الأحرار الدستوريين والهيمنة السعدية والكتلة الوفدية لتشكل جانبًا مهمًا من حياة مصر الحزبية، وشارك الأقباط في هذه الأحزاب.
من جهة أخرى جاء إصدار مجموعة من القوانين لتطتهير الإدارة المصرية من الأجانب، ويأتي على رأسها قانون تعويضات الموظفين الأجانب، وإذا كانت مصر قد دفعت من أموالها تلك التعويضات فالمال يهون أمام تحرير الإدارة واستقلال البلاد.
أما الحصاد الإقتصادى فتمثل في أعقاب الثورة دعوة "طلعت حرب" –رائد الاقتصاديين المصريين– إلى تأسيس بنك مصر "أغسطس 1919م"، وقد تجسد هذا الطموح فعلاً سنة 1920م كنتيجة لبيئة ما بعد الثورة، فكان بذلك نواة النهضة الاقتصادية والمالية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى "1914-1918 م".
كما تجسد الحراك الإجتماعي في تشكيل فرق الكشافة المصرية في المدن والأقاليم، وزيادة الدور الإجتماعى للنوادي الرياضية، كما تمتعت المرأة بمزيد من الأدوار الإجتماعية من خلال تأسيس الجمعيات النسوية والقيام بأعمال البر والإحسان والتعبير عن قضايا الأمة والمرأة في الصحف والمجلات.
وتأثر مجال الإبداع الفني والأدبي الذي تفاعل مع الثورة، فبقدر ما ساهمت الأعمال الإبداعية في الحشد للثورة والتعبير عنها وإيصال رسالتها للجماهير أو اتخذتها موضوعات لها في السنوات التالية، بقدر ما كانت التغيرات المجتمعية التي أحدثتها الثورة في مصر دافعًا لتطور الإبداع الأدبي والفني.
إذا كان الشعر والموسيقى والغناء قد واكبا الثورة وعبر عنها وكان أداة للتحريض الثوري في صفوف الجماهير، فإن الأعمال الروائية المهمة التي اتخذت ثورة 1919م موضوعًا لها كانت في معظمها بعيدة زمنيًا عن الحدث، ولعل أجلى التعبيرات الأدبية عن الثورة جاءت من خلال "عودة الروح" لتوفيق الحكيم و"قنطرة الذي كفر" لمشرفة والجزء الأول من ثلاثية محفوظ "السكرية"، أما الفن التشكيلي والذي كانت أجلى تعبيراته عن الثورة تمثال "نهضة مصر" لمحمود مختار فقد جمع بين الخاصيتين، ففكرة التمثال كانت وليدة اللحظة الثورية وتعبيرًا عنها لكن العمل الذي استغرق ثمان سنوات حتى ينتهي كتمثال "ميدان باب الحديد" جعل منه تخليدًا لها عبر الزمن، كذلك كان تمثال "سعد زغلول" في القاهرة والإسكندرية لمختار توثيقًا لحدث الثورة بعد سنوات على وقوعها.
وظهر من خلال ثورة 1919م العلاقة بين الفن والثورة وخاصة في مجالي الموسيقى والغناء والفن التشكيلي من خلال أعمال "سيد درويش" و"محمود مختار"، في محاولة لاستقصاء دور الفن في الثورة من ناحية وتطوره بتأثيرها من ناحية أخرى.
هكذا جاءت ثورة 1919م رائدة في حجمها ورائدة في ثمارها وميلاد جديد لآمال وطموحات الشعب المصري نحو الاستقلال والتقدم في شتى المجالات، وعليه فقد أفرد لها تاريخنا الحديث والمعاصر مكانة تستحقها.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=5902&I=161