التحول نحو الطائفية في مصر الآن‏!‏

بقلم: نبيل عبدالفتاح

بصراحة كاملة لا يمكن السكوت ـ تحت أي ظرف سياسي أو ديني ـ علي تزايد وتسارع وتائر العنف ـ ذي السند والتأويل الديني ـ بين المسلمين والمسيحيين المصريين‏,‏ إنها مؤشرات حاملة لنذر خطر داهم علي مقومات وأسس الاندماج القومي وتقاليد الدولة ـ الأمة الحديثة‏,‏ وثقافة الحياة المشتركة‏.‏ إنها تعبير عن تراكم وتشكل ثقافة الكراهية والخوف بين أبناء الأمة الواحدة التي تتأكل أمام أعين الصفوة المصرية علي اختلافها‏,‏ ولا تستشير همة أحد‏,‏ ولا إرادة سياسية حازمة في التصدي لأكبر الأخطار التي تهدد التكوين المصري الحداثوي بامتياز لصالح تدمير القاعدة الاجتماعية والثقافية والدينية التي تأسست عليها الدولة الحديثة‏.‏

أن التساهل والتهاون أمام الخطابات الدينية الإسلامية المتشددة‏,‏ والتي تتناول عقائد وطقوس ورموز وتاريخ المسيحيين أمر بالغ الخطورة لأنه يشكل ازدراء‏,‏ ومسا بكرامات وعقائد مكون رئيسي من أبناء الأمة شارك تاريخيا في تشكلها التاريخي‏.‏

لا يمكن أيضا التغافل عن غلو بعض الخطابات المسيحية الدينية القليلة التي تتناول العقائد الإسلامية‏,‏ وتاريخ الرسول الأكرم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏و قضايا دينية أخري‏,‏ انطلاقا من إرث مسيحي ـ يهودي‏,‏ واستشراقي من القرون الوسطي ينطوي علي سجالات حادة‏,‏ وعنيفة تحض علي الكراهية والعنف اللفظي إزاء الديانة الإسلامية‏.‏ لا يمكننا التسامج مع النزاعات التي ترمي الي تحويل الحياة اليومية الي جحيم‏,‏ وحروب دينية ومذهبية بين السنة والشيعة‏,‏ وبين الأرثوذكسية والبروتستانتية والكاثوليكية‏.‏ نعم نحن ـ الأمة والدولة والنخبة ـ أمام مفترق طرق‏,‏ وعلي جميع الأطراف أن يتسلحوا بالعيون اليقظة إزاء كافة مصادر تهديد الموحدات القومية التي كانت‏.‏

نعم‏..‏ لا يمكن التغاضي عن مغامرات بعض رجال الدين ـ المسلمين والمسيحيين ـ الذين يريدون إشعال الحرائق والفتن ونشر سموم الكراهية بين المصريين‏,‏ من أجل أن يشيدوا هياكل المجد الشخصي‏,‏ والشهرة والذيوع ويراكموا ثروات طائلة علي أشلاء الوحدة الوطنية‏,‏ ويبثوا نيران الحقد والكراهية وقذائف العنف المادي والرمزي واللفظي‏.‏ الحالة الدينية باتت في طور التحول من مستوي التوترات والاحتقانات الحادة وبعض النزاعات الدينية ـ الاجتماعية البسيطة‏,‏ الي مستوي النزعة الطائفية‏,‏ من خلال انتشار شبكات التعاضدات والاندماجات الاجتماعية بين المصريين حول الدين والمذهب‏,‏ وتحت سطوة أهواء وطموحات بعض قادة المؤسسات الدينية‏..‏ نعم ثمة تطور مضطرد نحو الطائفية الاجتماعية والدينية‏,‏ حيث التقاعس عن علاج بعض مشكلات الأقباط أدي الي بروز طلب سياسي ـ لدي بعض كبار رجال الدين وأقباط المهجر والداخل ـ علي نظام الحصة داخل المؤسسات السياسية والمستويات القيادية لأجهزة الدولة‏,‏ وذلك علي أساس نسبة المكون المسيحي للعدد الاجمالي لسكان البلاد‏.‏ وثمة بعض من التفاعلات وأشكال التعامل اليومي تتم علي أساس دائرة الانتماء الديني‏,‏ حيث يقصر البعض تعامله في التصرفات والسلوكيات الاجتماعية علي نظرائه وفي البيع والشراء والسكني‏.‏

أمة يسيطر علي بعض قواها الاجتماعية الخوف من بعضها البعض‏,‏ حيث يخشي غالب المعسورين من السراة ورجال الأعمال وهؤلاء من أولئك‏,‏ والأقباط من المسلمين‏,‏ والأخيران من تحولات العالم الزلزالية في أنظمة القيم الكونية الجديدة‏,‏ ومن ثورة التقنيات والاتصالات والمعلومات ومن ظواهر وفاعلي الاسلاموفوبيا في الغرب والعالم‏.‏
خوف يولد من خوف علي المستويات الفردية والجماعية‏.‏

بيئة الخوف المصري تتساند مع ثقافة الكراهية التي يغذيها بعض الغلاة علي الجانبين‏,‏ علي نحو أدي الي بروز مؤشرات التحول نحو الطائفية‏,‏ والأخطر في ظل غموض وعدم يقين من مسارات المستقبل الفردي أو الأسري أو العائلي أو المجتمعي‏,‏ والسياسي حول شكل النظام والخلافة السياسية‏,‏ وثمة ماهر أقسي نفسيا ألا وهو غياب الأمل الجماعي‏,‏ أو الشخصي‏.‏

والسؤال الذي نثيره هنا‏:‏ ما هي العوامل التي أدت الي التحول نحو الطائفية بكل مخاطرها في الحالة الدينية والاجتماعية المصرية؟

ثمة عديد من العوامل التي نطرح بعضها تمثيلا لا حصرا فيما يلي‏:‏
‏1‏ ـ إن تحول الخلافات علي الري أو علي الأراضي والحيازات والمرور والمشاجرات أو التلاسنات الشخصية الي عنف طائفي‏,‏ هو تعبير عن تراكم وتضافر عوامل عديدة تراخت الدولة وأجهزتها وصفوتها الحاكمة عن التصدي لجذورها‏,‏ بعض هذه العوامل يعود الي تمدد وتضخم المجتمع المصري بشرائحه وقواه الاجتماعية علي اختلافها‏,‏ ومع التحول الي نظام السوق والخصخصة وتراجع السياسات التدخلية والاجتماعية للدولة‏,‏ بدا وكأن الصفوة وجهاز الدولة غير معنيين إلا بقضايا وسياسات الأمن الداخلي والسياسي علي وجه التحديد إزاء الجماعات الإسلامية والراديكالية‏,‏ والإرهابية‏.‏

أدي ذلك الي ترك الدولة والنخبة المجتمع يحاول توفيق أوضاعه وقواه وأمنه وحسم نزاعاته عبر آليات القوة والنفوذ والمكانة الاجتماعية‏,‏ والآليات العرفية التقليدية‏.‏
ثمة بروز لظاهرة قوة المجتمع وضعف الدولة وأجهزتها علي إدارة فعالة لشئون وصيغ العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص‏(‏ رجال الاعمال‏)‏ و المجتمع المدني‏,‏ وذلك كنتاج لانتشار مظاهر الفساد بأشكاله المختلفة‏...‏ إن تمدد قوة المجتمع لا تعني قدرته علي الاستقلال التام عن الدولة وأجهزتها‏,‏ ولكنها قوة الضعف والهشاشة‏,‏ لأن الفاعلين الاجتماعيين لم يستطيعوا استيلاد مؤسسات وآليات فاعلة‏,‏ وقادرة علي إدارة شئونه وتناقضاته بعيدا عن الدولة ومؤسساتها ونظامها القانوني والقضائي‏.‏

‏2‏ ـ إن التحول الي الطائفية يعود الي تأصل ثقافة التحيز والتمييز في نطاق الوظيفة العامة‏,‏ ولدي جماعات الموظفين العموميين في تقديمهم للخدمات للمواطنين‏,‏ ومن أبرز أشكال التمييز‏,‏ تعقيد الإجراءات في مواجهة من لا ينتمي الي ديانته‏,‏ لا سيما إزاء الأقباط‏,‏ أو إبداء تفسيرات ملتوية للقواعد القانونية أو اللائحية‏,‏ أو استخدام علامات ورموز دالة علي الانتماء الديني للموظف العادي أو الرئيس الإداري الأعلي‏,‏ مما يشعر الآخرين ـ أقباطا‏,‏ بهائيين‏,‏ وشيعة‏..‏ إلخ ـ أنهم خارج دائرة الاهتمام الرمزي للدولة‏..‏ وضع العلامات الدينية في أفنية المؤسسات العامة وقطاع الاعمال‏,‏ أو في الفضاء العام السياسي‏,‏ أو في المنازل والقطاع الخاص‏.‏

‏3‏ ـ من أبرز ملامح الاحتقان الاجتماعي ـ الطائفي‏,‏ اختلاط المجالات الدينية والسياسية والاقتصادية‏,‏ والثقافية‏.‏

‏4‏ ـ تمدد أدوار المؤسسات والسلطات الدينية‏,‏ ورغبة بعضهم في تأسيس سلطاتهم علي تأويل وضعي للمقدس وفوق ضمائر وحريات الناس‏,‏ ومحاولة تأميم روح الإنسان المصري‏.‏

‏5‏ ـ ميل أجهزة الدولة الأمنية والسياسية والإدارية الي الآليات العرفية في حل المنازعات بين المواطنين المسلمين والأقباط‏.‏

‏6‏ ـ تزايد عمليات الأسلمة القاعدية في مظاهر السلوك والرموز ولغة الخطاب الشفاهي اليومي‏,‏ وأنظمة الزي والعلامات الدينية علي الحوائط‏.‏

إن العوامل السابقة تكشف عن أن التحول نحو الطائفية يغزو الحياة اليومية للمصريين‏,‏ ويؤدي الي انتاج ثقافة انقسامية بينهم علي أنقاض ثقافة التكوين التاريخي الحداثوي للأمة والدولة العصرية‏,‏ وثمة تقاعس نخبوي عن حسم مسألة طبيعة الدولة ونظامها السياسي بين الديني والوضعي‏,‏ ومن أبرز تجليات اضطراب العلاقة بين الديني والدنيوي‏,‏ مسألة حرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية‏,‏ حيث نص عليها دستوريا‏,‏ ولكن هناك عوائق في الممارسة السلطوية والمجتمعية‏,‏ من قبيل بروز ظواهر التحول الديني ومشكلاته‏,‏ والبهائيين‏,‏ وحرية اختيار الزوج والزوجة خارج دائرة الدين الواحد‏,‏ وفي اطار نظام الأسرة‏..‏ تزداد الأمور اختلاطا واضطرابا مع بناء كل طرف لهوياته علي أساس ديني‏,‏ واختزالها في تأويل وضعي وتاريخي لعقائده وأصوله واستبعاده للآخر الديني في الوطن‏,‏ ثمة تأثيرات سلبية واحتقانية لمسألة هوية قانون الدولة ومرجعياته وهويته‏.‏

كلها إشكاليات فكرية وسياسية ودينية‏,‏ تحتاج الي رؤي وحلول خلاقة‏,‏ ولكن فقدان الهمة والعزم السياسي النخبوي أدي ـولا يزال ـالي تفاقم أزمات الاندماج والوحدة الوطنية‏,‏ وتحول الاحتقانات والعنف الديني نحو تشكلات وانتماءات طائفية خطيرة وبغيضة علي روح ووحدة الدولة والأمة‏.‏

*نقلاً عن جريدة الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع