حرية التعبير المهددة في العراق

د. عبد الخالق حسين

بقلم: د. عبد الخالق حسين
يبدو أن العراق محكوم عليه بالعسر في كل خطوة يخطوها في مسيرته التاريخية على طريق التحضر والتقدم. فولادة دولته الحديثة في أوائل القرن العشرين تمت بعملية جراحية دموية بعد الحرب العالمية الأولى على يد القابلة البريطانية، وليبتلي الشعب في الستينات بطاعون اسمه حزب البعث الذي أهلك الحرث والنسل، ولم يتخلص منه إلا بعد تدخل الدولة العظمى، أمريكا، وبعملية جراحية أخرى التي حررت الشعب من نير الحكم الفاشي وفتحت له أبواب الحرية والديمقراطية والانتخابات، ليقرر مصيره بنفسه، وإذا به يبتلي مرة أخرى بأكثر من طاعون وبأسماء مختلفة، مثل الإسلام السياسي، والمحاصصة الطائفية والإرهاب الإسلامي، والإرهاب البعثي وتفشي الفساد الإداري وعمليات النهب...الخ.

لا نريد هنا أن نتطرق إلى كل الويلات التي يواجهها هذا الشعب، فهي قائمة طويلة وتحتاج إلى مقالات عديدة، ولكن في هذه العجالة نود التطرق إلى ما يهدد حرية التعبير على أيدي أصحاب العمائم الذين كشفوا عن حقيقتهم وعدائهم الشديد ضد الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وأصحاب الديانات غير الإسلامية والمثقفين وكل من لا يوافق على سياساتهم الغاشمة. لقد تعرض القتلة منذ تحرير العراق من الفاشية البعثية، إلى المثقفين الأحرار وإلى أساتذة الجامعات والأطباء، في حملة جنونية من الاغتيالات ونشر الذعر في صفوفهم، القصد من هذه الحملة الإجرامية تفريغ العراق من العلماء والمثقفين وأصحاب الخبرات التكنوقراط والعقول النيرة، وذهبت ضحايا الاغتيالات أعداد كبيرة لا يمكن حصرها.

واليوم يواجه مثقف آخر هدر دمه بسبب مقال كتبه في صحيفة حكومية، ضد اللصوص الذين سرقوا مصرف الرافدين، فرع الزوية في بغداد بعد أن قتلوا 8 من حراسها الأبرياء. هذا المثقف المهدد بالقتل هو الشاعر المبدع والكاتب اللامع أحمد عبدالحسين، رئيس القسم الثقافي في صحيفة (الصباح) البغدادية.

قصة سرقة المصرف ومَنْ وراءها باتت معروفة، ومقالة الأستاذ أحمد عبدالحسين التي نشرها في ذات الصحيفة التي يعمل فيها وبعنوان (800000  بطانية) هي الأخرى باتت مقروءة ومعروفة. (ومن لم يقرأها بعد، يمكنه الضغط على الرابط في الهامش). ولكن الحديث هنا حول موقف رجل الدين، خطيب جامع براثا، الشيخ جلال الدين الصغير، وهو موقف ليس ضد اللصوص الذي يسرقون قوت الشعب، بل ضد من يعري اللصوص ومن وراءهم، ألا وهو المثقف الأعزل الذي سلاحه الوحيد هو القلم. والشيخ الصغير هذا نائب في البرلمان العراقي، وعضو بارز في تنظيم المجلس الإسلامي الأعلى، استغل مكانته الدينية كإمام جامع وخطيب جمعة في مسجد براثا، للتحريض على المثقف، ومما جاء في خطبته قوله: "إن الشخص الذي كتب المقال لا أصل له ولا فصل"، يقصد الكاتب أحمد عبدالحسين. وخطابه هذا نقل على الهواء مباشرة وأعيد نقله فيما بعد.

والمفترض بالشيخ وهو رجل دين، أن يتجنب التحريض ويترفع عن مثل هذه الأقوال النابية، فالإسلام لا يعترف بالأصل والفصل، بل بالأعمال. لذا فالشيخ فضح نفسه، إما بجهله بتعاليم الإسلام، أو أن هذه التعاليم لم تحرره من الأخلاقية البدوية التي نهى عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: "ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق" ناهيك عن أن الكاتب معروف الأصل والفصل، وهو مواطن عراقي أصيل وضحى من أجله كثيراً، ولكنها عنجهية بدوية لم يتحرر منها الشيخ الذي لم يحترم مكانته الدينية والسياسية. وبالمناسبة، فإن هذا الشيخ هو الذي نشرت صحيفة البينة الجديدة عن إصداره أوامر لنبش قبر العلامة علي الوردي، الأمر الذي أثار احتجاج المثقفين العراقيين عليه، فاضطر إلى إصدار بيان ينفي فيه الخبر، وهدد بمقاضاة الصحيفة، ولا ندري هل فعلاً نفذ هذا التهديد أم مجرد ذر الرماد في العيون.

إن معاناة الأستاذ أحمد عبدالحسين، هي معاناة المثقف العراقي، والتي هي جزء من معاناة الشعب في هذه الانعطافة التاريخية العاصفة. نحن نؤكد للقوى الظلامية الإسلاموية أنها مهما تمادت في غيها في اضطهاد المثقفين العراقيين، فإنهم لن يبلغوا قوة وجبروت وطغيان البعث الفاشي والذي انتهى إلى مزبلة التاريخ. نذكر الشيخ جلال الدين الصغير أن تهديده الذي أجبر الشاعر على الاختفاء القسري خوفاً على حياته، ومهما حصل له، فإن النصر النهائي هو للقلم وللعقل وليس لبلطجية الإسلام السياسي أو البعثي.

إني أضم صوتي إلى أصوات جميع المثقفين العراقيين والقوى الخيرة في العراق وخارجه في التنديد بالجهات التي هددت حياة الشاعر المبدع والكاتب المتميز أحمد عبدالحسين. إن هذا التهديد والتحريض هو عدوان على حرية التعبير في عراق ما بعد الفاشية. إن هذه الحملة المسعورة هي جزء من محاولات يائسة لخنق أصوات المثقفين العراقيين وتدجينهم ولكن هيهات. لذا فالمطلوب من جميع القوى السياسية التقدمية ومنظمات المجتمع المدني، المؤمنة بالديمقراطية وقيم الحرية، إدانة تصريحات الشيخ جلال الدين الصغير والجهات التي تقف وراءه، كما ونطالب بتوفير الحماية لحياة الأستاذ أحمد عبدالحسين وعائلته من أي عدوان، وإعادته لمزاولة نشاطه التنويري في صحيفة الصباح كما كان قبل غيابه القسري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال الذي أثار نقمة الشيخ جلال الدين الصغير:
أحمد عبدالحسين: 800000  بطانية   
http://sumer.elaphblog.com/posts.aspx?U=2326&A=23742

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع