المستشار نجيب وهبه
بقلم: المستشار نجيب وهبة
لننحدر إلى أطراف شبه الجزيرة في جنوبها الشرقي حيث تلقى بلاد اليمن الواسعة الكثيرة الخيرات, تمتد بين بحر القلزم وبحر الهند. ومن مدنها الشهيرة مأرب ذات السد, وكانت لغتها من اللغات السامية تدعى بالحميرية لها قلم خاص يعرف بالمسند, كانوا يدينون بالصابئية, ويكرمون القوات العلوية, والنيرات السماوية والسيارات السبع.
لا مراء أن النصرانية منذ بزوغها وجهت أنظارها إلى اليمن كما يشهد عليه أقدم الكتبة الغربيين والشرقيين، حتى أن بعض الآباء زعموا أن المجوس الثلاثة كانوا من اليمن, وماتوا شهداء في صنعاء بعد أن عمّدهم القديس توما قبل سفره من عدن إلى الهند.
ومن الرسل الذين يُنسب إليهم التبشير بالمسيح في اليمن متى الرسول. وسبق لنا ذكر القديس برثلماوس ودعوته للعرب في الهند –يريدون بها اليمن– لأن اسم اليمن كان مجهولاً لديهم فسموها بالهند. كما أنهم ينسبون أيضًا دعوة النصرانية في بلاد العرب إلى القديس توما قبل سفره إلى الأقطار الهندية. وقد اتفق المؤرخون على أن الهند القصودة هنا هي المجاورة لمصر -أعني اليمن-.
ثم أن النصرانية لم تدخل فقط إلى اليمن من جهة الجنوب ومن بلاد الرومان. ولكن نفذت إليها من جهات الشمال وخصوصًا من العراق.
ومن أعظم الشواهد التي أثبتها العرب على دخول النصرانية إلى اليمن ما رواه الطبري في تاريخه؛ وياقوت في معجم البلدان؛ وابن خلدون في كتاب العبر؛ وابن هشام في سيرة الرسول؛ وغيرهم. أن أهل نجران وهي من أمهات مدينة اليمن تنصروا جميعهم.
وأقام أهل نجران على دين المسيح حتى دعاهم اليهودية أحد ملوكهم اسمه ذونؤاس كان متعصبًا لدين اليهود، فأبى النجرانيون اتباعه في ضلاله, وكان رئيسهم آنذاك اسمه الحارث واستعدوا للدفاع عن بلدهم. إلا أن ذانؤاس دخله بالمكر وحفر أخاديد أضرمها نارًا وألقى فيها عشرين ألفًا من النصارى ماتوا في سبيل إيمانهم مع الحارث رئيسهم.
على أن الخبر لم يلبث أن نما إلى قيصر الروم؛ بواسطة رجل من أهل نجران فر هاربًا اسمه دوس, فاستنصره على ذي نؤاس. فأمر القيصر النجاشى الصبان ملك الحبشة بمحاربة اليهودي ففعل, ومات الطاغية غرقًا.
وقد أتت في الحقيبة الأخيرة شواهد جديدة غير منتظرة ألا وهي كتابات يونانية وحبشية وحميرية اكتشفها الأثريون. وهي تبين ما كان من النفوذ للحبشة في بلاد اليمن.
ومنها كتابة أخرى تاريخها 542م ورد فيها ذكر انفجار سد مأرب. وأردف أبرهة الملك الحبشي قوله: فأرسلت إلى قبائل لتنفذ الحجارة والأخشاب والرصاص لترميم السد في مأرب ثم توجهت إلى مأرب وبعد أن صليت في كنيستها عمدت إلى ترميم السد.
لا غور أن النصرانية في مدة ملك الحبشة على اليمن بلغت أقصى النجاح والتقدم, وكان أول ما باشر به الحبش أن جعلوا نجران كقبلة الدين النصراني بعد أن اصطبغت بدماء أهلها الشهداء. فأقاموا فيها مزارًا كان العرب يقصدونه من كل صوب. وكانوا أنفقوا عليه القناطير المقنطرة ليزينوه بأنواع الحلي. وهذا المزار قد شاع ذكره عند العرب فدعوه كعبة نجران أو كعبة اليمن.
ومما يعود فضله إلى الحبشة كنيسة عظيمة جمعوا فيها ضروب المحاسن, وانفقوا عليها المبالغ الطائلة, بنوها في حاضرة ملكهم صنعاء لا تزال حتى اليوم ترى بقاياها في جامع هذه المدينة.
وكانوا زينوها بكل أصناف الزينة والتصاوير، ضروب الفسيفساء، وهي الكنيسة التي عرفها العرب بالقليس. وكما فعلوا في صنعاء؛ أقاموا أيضًا في ظفار كنيسة أخرى جليلة كانت آية في الحسن والجمال.
وإن سأل السائل: أكانت النصرانية في اليمن مستقيمة خالية من البدع؟ الجواب: أنه من المرجح أن دينهم كان في أول الأمر خالصًا من كل شائبة. وإنما يظهر أن بدعة سرت إلى جهات اليمن وكدّرت صفاء إيمانهم. وعلى ظننا أن نساطرة العراق انتهزوا فرصة دخول الفرس في اليمن لينشروا هناك بدعتهم.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=6233&I=170