سهيل أحمد بهجت
بقلم: سهيل أحمد بهجت
من خلال استشهادنا بالفقرات التالية نحن نهدف إلى فهم طبيعة النقد الذي وجهه المسيري للعلمانية و عبر ذلك نستطيع نقد مكامن الخلل في نظرته ذات الأحكام المسبقة تجاه العلمانية، يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:
واقع الإنسان يتكون من مستويين (أو بنيتين) البنية الظاهرة و البنية الكامنة، و عادة ما تكون البنية الظاهرة تبديا للكامنة. و أفضل أن أراهما باعتبارهما دائرتين متداخلتين، الأولى صغيرة (و نشير لها بالجزئية) و الأخرى كبيرة و نشير لها بالكلية و هي تحيط بالأولى و تشملها، و هي بمثابة الإطار الذي ينتظمها، و يمكن القول: إن الأولى إن هي إلا مجرد إجراءات تشكل تبديا للثانية، و لا يمكن فهمها حق الفهم إلا بالرجوع إلى الدائرة الأشمل، لأن هذه الدائرة الأكبر هي البنية الكامنة و المرجعية النهائية، و في حالة العلمانية يشكل الفصل بين الدين و الدولة الدائرة الصغيرة الجزئية الإجرائية، و هو دائرة لا يمكن فهمها في حد ذاتها، و إنما بالعودة إلى الدائرة الشاملة الأكبر التي تشمل الأمور النهائية و المنظومات المعرفية و الأخلاقية الكلية التي تمت عملية الفصل في إطارها." ـ المصدر ص 15
إن عملية "فصل الدين عن الدولة" ليست عملية ناتجة عن علمنة أجزاء أخرى من الحياة، و هو ما يوحي به المسيري في كتاباته الأخرى حيث يبدو و كأن علمنة مجالات الحياة كانت نتاجا لعلمنة الدولة و ليس العكس، و هنا يبرر المسيري وجود حتمية لفصل الدين عن الدولة و يرى ذلك أمرا حتميا إذ يقول:
و نــحن نذهب إلى أن عملية فصل الدين و مؤسساته عن الدولة عملية حتمية في جميع المجتمعات، باستثناء بعض المجتمعات الموغلة في البساطة و البدائية، حيث نجد أن رئيس القبيلة هو النبي و الساحر و الكــاهن [ و أحيانا من سليل الآلهة] و أن طقوس الحياة اليومية طقوس دينية. ففي المجتمعات المركبة نوعا، ثمة تمايز بين السلطات أو المجالات المختلفة يبدأ في البروز (و هو أمر يعرفه أي دارس للمجتمعات الإنسانية). و حتى في الإمبراطوريات الوثنية التي يحكمها ملك متأله، فإن ثمة تمايزا بين الملك المتأله، و كبير الكهنة، و قائد الجيوش! فالمؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد بالمؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي و حضاري مركّب، تماما مثلما لا يمكن لمؤسسة الشرطة الخاصة بالأمن الداخلي في الدولة الحديثة أن تتوحد بمؤسسة الجيش الموكل إليها الأمن الخارجي، كما لا يمكن للمؤسسة التعليمية أن تتوحد بالمؤسسة الدينية، و في العصور الوسطى المسيحية، كانت هناك سلطة دينية (الكنيسة) و أخرى زمنية (النظام الإقطاعي)، بل داخل الكنيسة نفسها، كان هناك بين رجال الدين من ينشغل بأمور الدين و حسب و من ينشغل بأمور الدنيا.." ـ المصدر ص 16
فالإقرار بالمبدأ من قبل المسيري هو خطوة مهمة في نقد النقد الذي وجهه المسيري إلى العلمانية بوصفها منتجا غربيا، فكون التطور جزءا أساسيا من وجود الإنسان و مواجهته و صراعه مع الطبيعة يجعل من العلمانية حلقة واقعية حتمية ضمن هذا الصراع، فالعلمانية جاءت كردّ فعل على استغلال الدين كأداة للسيطرة و الهيمنة و اتخاذه تبريرا لاستمرار هيمنة القوي على الضعيف بحجة أن الفعل الطبيعي ـ الذي يعتريه الظلم و الإجحاف ـ منسوبا إلى الله أو الإرادة الغيبية، من هنا كان الدين نفسه يعاني من أزمة من خلال الخلط بينه كطريق إلى الله ليختلط بالفعل الإنساني الباحث عن النزوات و الشهوات و المصلحة الخاصة، و لأن الإسلام نظام قائم على أفضلية المنفعة {{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}} الرعد 17 "خير الناس من نفع الناس" فإننا سنبدأ في الفصل الواقعي الضروري بين الدين كنصوص يحق لكل فرد دراستها و البحث فيها بالحرية الكاملة، و بين التعامل الدنيوي الذي يتغير بتغير الظروف و الحاجات، مع ملاحظة أن الحاجة نفسها تتفاوت من مجموعة إلى أخرى و من ظرف إلى آخر.
و الآن لنأتي إلى ما يقوله المسيري عن العلمنة في الإسلام و كإجراء نوع من الفصل بين الديني و الدنيوي، يقول الدكتور المسيري:
و حينما قال الرسول (ص): "أنتم أعلم بأمور دنياكم" فهو في واقع الأمر يقرر مثل هذا التمايز المؤسسي (فالقطاع الزراعي، حيث يمكن للمرء أن يؤبر أو لا يؤبر حسب مقدار معرفته العلمية الدنيوية، و حسب ما يمليه عليه عقله و تقديره للملابسات، متحرر في بعض جوانبه من المطلقات الأخلاقية و الدينية). و ثمة تمييز هنا بين الوحي (الذي لا يمكن الحوار بشأنه) و بين عملية الزراعة (التي تتطلب خبرة فنية معينة)، أي أن ثمة تمايزا بين المؤسسة الدينية و المؤسسة المدنية (ممثلة في قطاع الزراعة)، و مع تزايد تركيبية الدولة الإسلامية (مع الفتوحات و المواجهات)، تزايد التمايز بين المؤسسات، و تزايد الفصل فيما بينها، و من ثم، فإن فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة و المؤسسات المدنية عملية ليست مقصورة على المجتمعات العلمانية بأية حال، و إنما هي عملية موجودة في معظم المجتمعات المركبة بشكل من الأشكال (و من هنا نجد من يقول: إن المسيحية عقيدة علمانية، و من يقول: إن الإسلام دين علماني، و هكذا). و مع هذا حصر بعضهم العلمانية في هذه الدائرة الضيقة و حسب، و استبعدوا الدائرة المرجعية الأشمل، و تعريف العلمانية على هذا النحو يتجاهل قضية المرجعية و النموذج الكامن وراء المصطلح، إذ لا بد أن نسأل عن الإطار المعرفي الكلي و النهائي الذي تتم في إطاره عملية الفصل.." ، المصدر ـ ص 16 ـ 17
مشكلة هذا النقد هو أنه يقر أولا في ضرورة الفصل بين الدين و ممارسة فهم الواقع الذي ترتكز عليه السياسة، و هذا الواقع متغير بينما النص ثابت و جامد كحروف، مما يعني أن لا حدود و لا معنى لتجزئة هذا الفصل، فالسؤال الذي سيطرح نفسه مرة أخرى سيكون: من هي الجهة التي ستقرر متى نفصل بين الدين و الشؤون المدنية؟ و ما هي الحدود لهذا الفصل؟ حقيقة أن هذا الأمر يكتنفه غموض كبير، و إذا كــان هناك من سيضع هذه الحدود، كالمؤسسة الدينية مثلا، فحينها ستكون هذه العلمانية و هذا الفصل صبغة تخفي بشاعة دولة دينية تضع الحدود كما تشاء بين ما هو لله و ما هو للناس، بالتالي تكون هذه العملية غير ذات مغزى أو معنى، و إذا كان الشعب و أغلبية الناس هم من سيضع هذه الحدود حينها سنعود إلى النمط الغربي و النموذج الفرنسي خير مثال على ذلك.
إن الدين و إن كان مجموعة نصوص ثابتة، قرآن و أحاديث عند السنة و قرآن و حديث و أقوال الأئمة المعصومين عند الشيعة، إلا أن النص لا يسلم من الهوى و الرغبة و هو ما لا يسلم منه الفقيه أو المجتهد مهما كان متجردا من الرغبة أو الميول النفسية و السياسية، من هنا يصبح النص غير محايد و لا يمتلك صفة الحياد الموجودة في المنهج العلماني، و إن أقررنا بعصمة النص، فما دام النص انفصل عن النبي أو المعصوم فإن ذلك يستدعي فصلا حقيقيا بين نظام الدولة و آليات انتخابه فيما يناسب مصلحة الشعب و بين تسخير الدين لصالح فئة أو جماعة ذات بنية "مقدسة" تربط قسرا بين المطلق الإلهي لصالح النسبي المادي لصالح هذا الأخير مما يعني إضعافا لدور الدين و بالتالي جعله تابعا للسياسي ـ سواءٌ كان هذا السياسي علمانيا أو فقيها معمما ـ و هو ما لا يصب في مصلحة الشعب.
نجد مرة أخرى أن المسيري و بعد إقراره بالعلمانية كمبدأ ـ رغم أن علمانيته ليست سوى صبغة شكلية ـ إلا أنه يخلط مرة أخرى بين العلمانية كفصل بين الدين و الدولة و بين الإلحاد كظاهرة فكرية نتجت عن الحرية أو كرد فعل من ممارسات المتدينين بحق غيرهم، فالمسيري يريد إدخال المجتمعات الغربية كلية في نمط فكري صوره لنفسه، و من خلال عباراته يتضح لنا أنه يهدف إلى إخافة المجتمعات الشرقية الإسلامية من توابع "العلمانية" و عواقبها و كأن المشرق الإسلامي المغرق في الغيبية و الخرافة على خير ما يرام، و يحاول على الدوام إخافتنا مما يسميه بالانحلال الخلقي و الإباحية و ما إلى ذلك، مع أن العلمانية لا تنفي الأخلاق و لا تنكرها و إنما تترك للمجتمع و قواه الدينية و الثقافية أن تحدد مكامن العلاقة بين الحرية ـ في أوسع أطرها الممكنة ـ و الحدود الأخلاقية التي ينتجها الدين و الفلسفة التي يقوم عليها المجتمع، و طالما كان التنظير ينظر إلى الفكرة خارج أطرها الإنسانية ـ كما يفعل المسيري ـ و خارج طبيعة التجريب و الاختبار فإن الأفكار ستبقى بمعزل عن تغيير الواقع، و إذا كان الدين ناقصا من حيث أنه لا يتجسد إلا في ظل التجربة الإنسانية، نجد أن تجربتنا الدينية الإسلامية مغلقة عبر التكرار و التعصب و إظفاء المقدس على التجربة، فالتقديس تجاوز النبي و النصوص ليشمل فترات كاملة من التاريخ الإسلامي "الظلامي"، هذا في التطبيق السني، أما على المستوى الشيعي فقد تجاوز التقديس النصوص و المعصومين ليشمل "المجتهدين" و حتى الوصول إلى تجربة ولاية الفقيه "سلطان الواعظين".
Email: sohel_writer72@yahoo.com
Web: www.sohel-writer.i8.com
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=6315&I=172