الأقباط والكوتة

كمال غبريال

بقلم: كمال غبريال
يطالب بعض المستنيرين من أخوة الوطن بتخصيص كوتة للأقباط في مجلس الشعب، لتعويض غيابهم عنه، طوال فترة ما بعد انقلاب يوليو 1952، ويوافق بعض من الأقباط على هذا المقترح، كأنه خطوة في سبيل تصحيح وضعهم في الساحة السياسية الوطنية، رغم أن الأقباط من أكثر من نصف قرن، يوم كان بمصر حياة سياسية حقيقية، لم يكونوا بحاجة لتخصيص كوتة لهم، بل كان تواجدهم بجوار أخوة الوطن من كل دين، تواجداً قوياً وفاعلاً.
الأمر إذن مشكلة سياسية وطنية عامة بالأساس، وما يتعلق بالأقباط منها، هو مجرد فرع من شجرة الفشل السياسي العام. . هي مشكلة بالفعل، تبحث عن حل لابد وأن يكون حقيقياً، وليس حلاً ترقيعياً، يجلب من المضار، بأكثر كثيراً مما يتخيل المتحمسون له من منافع، فالحياة السياسية والنيابية المصرية بكاملها مريضة بمرض صار مزمناً، ونحن جميعاً نعرف قدر مجلس شعبنا، ومدى جديته وفاعليته الحقيقية في الحياة السياسية، وربما لا يجوز لي التوضيح بأكثر من هذا، ومع ذلك نجد من يتحمس لضرورة التواجد القبطي بأي ثمن، وعلى جثة أي مبادئ واعتبارات. . مثل تلك الحلول التلفيقية هي من قبيل الاستسهال أو العجز، ولا تؤدي فقط لبقاء الإشكالية والورطة السياسية كما هي، لكنها أيضاً تعني القيام بالتستر عليها، والتظاهر بأنه لا مشاكل ولا اختلال لدينا.

إذا بررنا اللجوء إلى الكوتة باعتبارها دعماً مؤقتاً، لخلق أمر واقع جديد، يلعب فيه الأقباط دوراً، يؤهلهم بعد ذلك للاستغناء عن ذلك التمييز الإيجابي، فإن الواقع العملي في مصرنا يقول بعكس ذلك، فأي كيان ضعيف لابد وأن يكتشف المدقق في أحواله، أن عوامل ضعفه بعضها خارجي مفروض عليه، ويحاسب عليه الوسط مصدر الضغط، والبعض الآخر داخلي لعيوب في هذا الكيان ذاته، ويُسأل وحده عنها، وقد تختلف النسبة بين حجم وتأثير العوامل الخارجية والداخلية باختلاف الحالات، لكن تجاهل أو إنكار أيهما، بمثابة قصور في الرؤية، يفضي إلى فشل أي محاولة للعلاج.
لدينا في هذا السبيل مثال الدعم الذي حظيت به شركات القطاع العام طوال نصف القرن الماضي، إذ لم تؤد إلى تطور أداء تلك الشركات، بل تدهورت أحوالها. . نفس هذا يقال عن تخصيص 50% على الأقل من مقاعد مجلس الشعب للعمال والفلاحين، فلم يساهم هذا التمييز الإيجابي في دفع العمال والفلاحين إلى حيازة مقومات التمثيل البرلماني، بل كان هذا الامتياز مجرد نافذة يتسلل منها إلى المجلس العديد من عديمي الكفاءة.

نعلم جميعاً وإن أنكرنا وكابرنا، أن هناك تقصير واضح من المرأة ومن الأقباط في ممارسة النشاط الاجتماعي والسياسي، ولنر ماذا سيكون أداء المرأة التي ستصل إلى مجلس الشعب، وفق الكوتة التي تم تخصيصها لها. . فالمرأة المصرية في الأغلب هي التي تقاوم التغيير باتجاه إنصاف المرأة، فهي تردد في هذا الشأن كالببغاء ما تشبعت به في ثقافة ذكورية شمولية، بل وتستشعر نفسها في المكانة الأدنى، التي أقنعها الرجل أنها فيها، وتصعيد هذه النوعية من المرأة إلى مجلس الشعب سيؤدي إلى نتائج عكسية في غير صالح المرأة، كما نعرف جميعاً ونكتم غيظنا، ممن نسميهم أقباط الحكومة، والذين لا يجيدون إلا ترديد ما يلقن لهم، بل ويزيدون عليه من جيوبهم، كما يفعل أخونا (الدكاترة فلان الفلاني)، في حين أن المطلوب بإلحاح، هو البحث عن السبل الكفيلة بتطوير وتحديث ثقافة المجتمع، وقد دابر مصادر ترويج الكراهية بين أبناء الوطن الواحد. . نحن لا نطمح للوصول لمستوى الولايات المتحدة، التي وصل فيها رجل أسود من أصول إسلامية إلى رئاسة الجمهورية، لكن لنصل فقط إلى مستوى بنجلاديش والهند، اللذين وصلت فيهما المرأة إلى رئاسة الوزراء، ووصل مسلم إلى رئاسة الجمهورية في الهند!!

إذا تأملنا التاريخ وأحوال الأمم التي تحررت جميع مكوناتها (أغلبية وأقلية)، سنجد أن تحرر الأقلية أو المكون الضعيف كان دائماً رهناً بتطور فكر وقناعات الأغلبية أو الجانب الأقوى، فالرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن هو الذي قاد حرب تحرير العبيد في أمريكا، وهنا في مصر لن تتحرر المرأة، وتعامل على أنها إنسان كامل، إلا إذا اقتنع الرجل بهذا وناضل من أجله، أيضاً الأقباط قضيتهم رهن باستنارة إخوانهم من المسلمين، الذين يعتنقون مبادئ الحرية والمساواة، فبدون إحساس الأغلبية بآلام الأقلية، لا يمكن إحراز أي تقدم، لا على مستوى حقوق الأقليات، ولا على مستوى تحديث المجتمع ككل.

لا نعني بهذا أن تتخذ الأقليات مواقف سلبية بانتظار أن يحل لها الآخرون مشاكلها، بل بالعكس فإننا نقول بضرورة نزول المرأة والأقباط لساحة العمل العام، والعمل بجدية على تذليل كافة ما يواجههم من صعوبات وتعصبات، فإصرارهم على التواجد الفعال في جميع المواقع والأنشطة، هو الكفيل بإقناع الرجل بجدارة المرأة، وإقناع المسلم بجدارة القبطي، وبجدوى التكاتف معه للرقي بالوطن، بما يؤدي لخلق حالة مجتمعية صحية وبصورة طبيعية، دونما حاجة إلى تشريعات وتمييز، تكون بمثابة مكافأة وحافز لمزيد من تكاسل المتكاسلين، سواء في جانب المرأة أو الأقباط.
هنالك أمر آخر جدير بالانتباه، هو أن تشريعات التمييز الإيجابي هذه، والتي تحدد نسباً معينة للمرأة والأقباط في مجلس الشعب، تؤدي لوصول عناصر غير فعالة في الساحة الاجتماعية والسياسية، وبالتالي تؤدي إلى مزيد من التدهور في مستوى أداء مجلس الشعب، فنحن نستطيع أن نجد في أوساط المرأة والأقباط كفاءات علمية ومهنية على أرقى مستوى، لكن هذا وحده لا يكفي ليكون لدينا نائب برلماني كفء، كما لا يكفي ليكون لدينا وزير سياسي قادر على القيام بمهامه الوظيفية، فحكم الكفاءات العلمية (التكنوقراط) لا يناسب مرحلة نسعى فيها لإصلاح سياسي واجتماعي وثقافي، فالتكنوقراط مكانهم المواقع التنفيذية، التي يكونون هم وحدهم من يصلح لها، أما القيادة السياسية والنيابة البرلمانية فأمر آخر مختلف تماماً.

كيف نلزم مثلاً الأحزاب المتقدمة لانتخابات البرلمان بنظام القائمة، بأن تضم على قوائمها المرأة والأقباط بنسب محددة كما يقترح البعض، في حين أن المرأة والأقباط غير موجودين في قواعد تلك الأحزاب بنفس النسبة، ولا حتى بأي نسبة يعتد بها؟!
هل يكون هذا أمراً منطقياً، أو يمكن أن يرجى منه أي تقدم وتطوير؟!
في المقابل إذا تخلت المرأة والأقباط عن حالة السلبية والغياب، وانضموا إلى قواعد الأحزاب، وبعثوا فيها الروح، بعد موتها السريري الحالي، ألن يكون من المتوقع تواجدهم على قوائم تلك الأحزاب بصورة تلقائية وطبيعية، دون ما حاجة إلى نصوص دستورية تضر بأكثر مما تنفع؟!
الإصلاح الدستوري والتشريعي مطلوب في مجال تمكين المرأة والأقباط وسائر مكونات المجتمع، مثل البهائيين والشيعة وغيرهم، لكن ليس بمنهج التمييز الإيجابي، بمنح مزايا تفرض تعسفياً على المجتمع والواقع المعاش، وتعصف في الوقت نفسه بمبدأ المساواة التامة بين جميع المواطنين، وهو المبدأ الذي إن تاه عنا، لن نستطيع أن نخطو خطوة واحدة للأمام، لكن الإصلاح الدستوري والتشريعي مطلوب لإزالة التمييز السلبي، الذي تناولناه وسنتناولة في مقالات ومناسبات عديدة.

من يبحث عن الإصلاح السياسي والاجتماعي الحقيقي، أمامه مجالات كثيرة تحتاج لإزالة التمييز السلبي، سواء في التشريعات واللوائح، أو في التطبيقات في سائر الهيئات الحكومية والوزارات، وفي مقدمتها وزارة التربية والتعليم، كذا التمييز ضد الأقليات في وسائل الإعلام المسماة بالقومية، لكن أن نترك القاعدة متجمدة ومتخلفة ويسودها التعصب والكراهية، ونخدع أنفسنا بتزيين القمة، بنواب في برلمانيين مفروضين غصباً وبلا جدارة، ولا يستندون لإرادة جماهيرية حقيقية وفاعلة، فهذا أمر لا يمكن أن يندرج ضمن مسيرة الإصلاح، وإنما هو أقرب لوضع رقعة جديدة على ثوب عتيق ومهلهل.
kghobrial@yahoo.com