سهيل أحمد بهجت
بقلم: سهيل أحمد بهجت
إن قطاع الإعلام و الإعلانات ـ الذي يسميه المسيري بقطاع اللذة ـ و النظام الاقتصادي الغربي الرأسمالي لا يمتلك خاصيات الأيديولوجبة أو الفكر الشمولي على عكس ما يزعمه المسيري من أنه يكون في الإنسان و بشكل لا شعوري موقفا شاملا و يخلق فيه نمطية محددة، و يورد على ذلك أمثلة من صناعة السينما الأمريكية و أفلام كارتون "توم و جيري ـ نموذجا" و ما إلى ذلك، و لكي نفهم فكرة الرجل و نستطيع نقدها فعلينا الالتزام بإيراد أفكاره كما كتبها هو، يقول المسيري:
و لعل أهم آليات هذه العلمنة البنيوية الكامنة الشاملة الكاسحة هو قطاع اللذة ككل، و خصوصا الأفلام الأمريكية و البرامج التلفزيونية التي تصل إلى السواد الأعظم من البشر، و تقوم بإعادة صياغة رؤيتهم لأنفسهم (عادة في إطار دارويني أو فرويدي أو برجماتي) بشكل بنيوي كامن غير واع، و لكنه شامل. و لنضرب مثلا بالكارتون المسمّى "توم و جيري" الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح، حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقيا، فهي لذيذة و ذكية و ناجحة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل، و لنلاحظ أن القيم المسنخدمة هنا قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية، لا علاقة لها بالخير و الشر، قيم تشير إلى نفسها و حسب، و لا تفرق بين الظاهر و الباطن. كما أن الصراع بين الإثنين لا ينتهي، يبدأ ببداية الفيلم و لا ينتهي بنهايته، فالعالم، حسب رؤية هذا الكارتون الكامنة، إن هو إلا غابة داروينية مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط و الفأر: توم و جيري." العلمانية تحت المجهر ـ ص 22
كـــل هذا الكلام و التنظير عن "الرؤية الكامنة" للمنتج الفني الغربي لا يعدو كونه تأويلا ينسب "فكرة معينة" باستطاعة أي شخص كان أن ينسبها إلى أي عمل فني أو أدبي، فأفلام الكارتون التي يرى المسيري أنها تمثل "العالم الدارويني" المزعوم ليس لها إطلاقا أي علاقة بأي نظرية فلسفية، خصوصا الدارويني منها، فالشركات المنتجة لهذه الأفلام و غيرها تهدف أولا إلى جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، و هذا تصرف إنساني لا يخلو مجتمع من المجتمعات على نماذج منه، و طبيعي أن لا ينسجم فلم كارتون توم و جيري ـ وهو نقطة من بحر المسلسلات و الأفلام التي تحوي أنماطا إنسانية و قصصا معبرة ـ مع مزاج المسيري و غيره من الذين يريدون تحويل التلفزيون و حتى أفلام الكارتون إلى أداة للوعظ الأخلاقي و إلقاء محاضرات عن تراث الأجداد و مفاخر الأمة المزعومة، فنظرة الغربي تختلف عن نظرة المسيري الذي يعتبر الطفل "رجلا أو إمرأة صغيرة" يكفي أن تعطيه بضعة دروس في الأخلاق و السلوك و سيصبح إنسانا ملائكيا على خلق، متناسيا أن الطفل يكره الواجبات فكيف إذا ارتبط التعلم بالواجب فإن ذلك يكون من أثقل الأمور على صدور الأطفال، لذلك نجد المدارس و مؤسسات التعليم غالبا ما تمزج عملية التعلم بالمرح و التنزه و ممارسة نشاطات تعكس أجواء الحرية، بينما نخبنا المثقفة ـ و المسيري نموذج ممتاز لها ـ التي نشأت على ثقافة الوعظ "حسب نظرية الأستاذ الكبير المرحوم علي الوردي" و الذين تربوا على الحقيقة المطلقة و شعارات "من جد وجد"، نجدهم يعاملون الطفل بعقلية الالتزام بالوقار و ثقافة التلقين، و كنتيجة طبيعية لهذه النمطية تخرج مدارسنا المزيد من الفاشلين و العاطلين ذهنيا.
نعود إلى المسيري و رؤيته الكامنة حيث يقول:
و لنضرب مثلا آخر بأفلام رعاة البقر المسماة "الويسترن Western" فثمة رؤية شاملة كامنة فيها، بشكل يصعب على الإنسان اكتشافه، تنقل لنا رؤية عنصرية بشعة، فبطل الفلم هو الرائد (بالإنجليزية: Pioneer)، الرجل الأبيض الذي يذهب إلى البرية ليفتحها و يستقر فيها و لا يحمل سوى مسدسه، و كلنا يعرف المنظر الشهير، حين يقف إثنان من رعاة البقر في لحظة المواجهة التي يفوز فيها من يصل إلى مسدسه "أسرع" من الآخر، إن هذا المنظر الذي انطبع في مخيلتنا منذ نعومة أظفارنا، يعلمنا كل أسس الداروينية الاجتماعية: أن الصراع من أجل البقاء هو سنة الحياة و أنه لا يكتب البقاء إلا للأصلح، أي الأقوى أو الأسرع أو الأكثر دهاء و مكرا، و هي مجموعة من الصفات التي لا علاقة لها بأية منظومة قيمية، دينية كانت أم أخلاقية أم إنسانية.." ـ المصدر ـ ص 22 ـ 23
يذكرني المسيري خلال هذه السطور بمثل شعبي يقول: إذا كره أحدهم شخصا حلم به أحلاما سيئة.." ففي حديث المسيري تجزئة واختزال لأعمال فنية كاملة و تعميم ظالم لمنتجات فنية لا تخلو من أعمال عظيمة و لا تخلو أيضا من أعمال هابطة، بمعنى أوضح أن الفن كبضاعة السوق فيه الغالي و النفيس و التافه و الرخيص، بل إن عملا فنيا ذا قيمة عند شعب من الشعوب هو منتج تافه و سخيف عند شعب آخر، و طبيعي أن الفلم الأمريكي ـ و المسيري لم يذكرنا و لو اسم فلم واحد ـ إذا تم تقييمه بمنطق البدوي و الواعظ و الشايخانات، فسيبدو تافها فعلا، و لا لوم على هذا التقييم إذ هو ينطلق من قيم مجتمع مغلق لا يزال يؤمن بقيم المجتمع المعزول الذي لا يعرف ما هو الإنترنت أو الهاتف أو الفاكس، و النتيجة هي أن هذا تقييم سطحي مستعجل يمت إلى الحكم العاطفي المسبق على الأشياء، خذ مثلا فيلم (من أجل حفنة من الدولارات For few Dollars more) بطولة الممثل الكبير (Clint Eastwood) الذي يعتبر من مؤيدي الحزب الجمهوري، فصحيح أن البطل في الفلم يعيش في بيئة خالية من النظام و لا قانون فيها و القوي يأكل الضعيف، و رغم أنه يبحث لنفسه عن ربح مالي إلا أنه يخاطر بحياته في سبيل إمرأة مخطوفة من قبل رئيس إحدى العصابات و البطل هنا ليس له أي علاقة "جنسية" ببطلة الفلم حتى يزعم المسيري أن الفلم قصد ـ المنفعة الشخصية الأنانية ـ بل هي امرأة متزوجة و أُم لطفل، فأين هي الداروينية الكامنة في فلم جسد بشاعة المجتمع من دون قانون أو نظام للعدالة، فالفارق في المجتمع الإنساني و غير الإنساني يكمن في هذه النقطة، سطوة القانون و مساواته بين الجميع و ليس في مظاهر "التراحم" الشكلية التي تمتليء بها مجتمعاتنا البائسة و الفقيرة العاجزة عن إدراك حقيقة وجوده على الأرض أو غاية وجوده.
و إذا كان المسيري يصرّ على أن "العلمانية" ليست ثابتة و أن لها تبديات "أفضل كلمة تجليات على الكلمة تبديات" متعددة الأوجه تتعلق بظروف و بيئة تطورها، بالتالي فنحن كشرقيين لسنا ملزمين بتطبيق العلمانية حسب المنظر الغربي وفق المسيري، فإن هذه التجليات ليست تحولا يكمن في ذات العلمانية بقدر ما هو تنوع مردّه يعود إلى ثقافة المجتمع و مستوى وعيه الثقافي، فالعلمانية في أوروبا في القرون الثلاثة التي سبقت القرن العشرين هي غير العلمانية منذ الحرب العالمية الأولى و إلى هذا العصر، كذلك في التجربة الأمريكية من نهاية القرن الثامن عشر إلى العصر الحاضر، أو في علمانية الدولة العثمانية و انتقالها إلى العلمانية في بداية الجمهورية و انتقالها إلى النظام العلماني الأرقى في تركيا المعاصرة.
مشكلة الذين ينتقدون "العلمانية" أنهم ينطلقون من اعتبار المادّية شرا و أن هذا العالم المادي هو نقيض الحقيقة الدّينية و ليس الوجه المعاكس لها، بالتالي يصبح الموت و مفارقة الحياة الحل الأنسب للخروج من الحالة السلبية ـ العالم المادي ـ إلى الحالة الإيجابية ـ عالم ما بعد الموت ـ و هو الأمر الذي أوقف عجلة الحياة في بلدان المشرق و جعل أبناء هذه الشعوب (الأغلبية) تنتظر الموت و تتخلى عن كل مظاهر و مباهج الحياة و التوقف عن الإبداع و الفعل الخلاّق، و المسيري لا يمتلك حلا للمسألة الدينية و كون الحقيقة الدينية نسبية كمجتمع ـ مطلقة ـ في التجربة الفردية الشخصية، بمعنى أنه هو نفسه يدرك أن لا خيار ثالث، فإما الدولة العلمانية ـ أُفضل إضافة الديمقراطية لترقية التجربة ـ أو الوقوع في دولة الفوضى حيث يزعم كل طرف أنه الذي يمتلك الحقيقة الدينية كاملة معتمدا على تأويله الخاص، و ما أكثر تجاربنا في مزاعم احتكار الحقيقة، بينما المعارضون كلّهم مخطئون و في جهنم، فالمسيري حكم على نقده للعلمانية بالفشل المسبق عبر حصرها في "نقد الغرب" و ربط الغرب مرة أخرى بنظرية "المؤامرة اليهودية العالمية"، مما جعله نقدا أعور.
فالعلمانية طوال تاريخها لم تكن موقفا أيديولوجيا و لا يمكن تحميل العلمانية مسؤولية جرائم النظريات القومية (النازية و البعثية و غيرها) و الفلسفية الاقتصادية (الماركسية) كما لا يقوم المسيري باعتبار الدين مذنبا إذا استغله بعض المتطرفين للعنف و القتل، و للعلم فإن المسيري لاذ بالصمت على حد علمي حيال نقد التطرف الإسلامي و القومي في مناطق المشرق الإسلامي بينما لم يترك فرصة دون أن ينتقد الغرب و العلمانية و حتى الديمقراطية، و كأن العالم الإسلامي هو جنة الله على الأرض!!
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=6705&I=182