يوم تصدع جدار (برلين)

كمال غبريال

بقلم: كمال غبريال
إذا الشعب يوماً أراد (أو لم يرد) الحياة، فلابد أن يستجيب القدر (قانون التطور)، ولابد لليل أن ينجلي، ولابد للقيد أن ينكسر. . هذا هو ما تدلنا عليه مسيرة الإنسانية، التي امتدت على مدى يزيد عن الأربعين ألف عام، منذ ظهر على الأرض الإنسان العاقل homo sapiens  الذي ننتمي إليه، وبدأ مسيرته منفصلاً عن القردة العليا، وعن إنسان نياندرثال، الذي يصنف كشبيه بالبشر. . من يومها وخط حياة الإنسان يتجه إلى الأمام بمقياس التطور، بالتوازي مع تطور وعيه، وتنامي توظيف قدراته وتنميتها. . نعم تعرض ومازال يتعرض لانكسارات وتراجعات، لكن هذه لا تعدو أن تكون دوامات ضمن تيار يسري في اتجاهه الدائم والأبدي.
كثيرة هي عبر مسيرة الإنسانية، الجدران التي أقامها الطغاة ومصاصو دماء الشعوب، ليسجنوا أسراهم داخلها، يحجبون عن عيونهم -التي لابد وأن تصير كليلة- ضوء الشمس. . لأنهم لن يستطيعوا السيطرة على الناس إلا في جنح الظلام، فالنور وحده هو الكفيل بكشف أنيابهم التي يسترونها بمعسول الابتسامات، ووجوههم القبيحة التي يخفون معالمها بنقاب التقوى. . جدران عالية وسميكة كثيرة تساقطت طوال آلاف السنين، وجدران بسبيلها للتساقط، وقد دبت فيها الشروخ، وتفاقمت التصدعات. .هذه لن يجديها، ولن يمنع أحجارها المتهالكة من التساقط حجراً بعد حجر، أن يصرخ الصارخون، ويرهب الإرهابيون، كما لن يفلح فيها ترميم أو طلاء، فلن يمد هذا من أجلها المحتوم أكثر من سويعات.

جدار (برلين) مثله مثل كل هذه النوعية من الجدران، التي ظن من شيدوها أنها ستبقى حاجزاً منيعاً بين الناس وبين الحضارة والتقدم. . تصوروه سيظل شامخاً أبد الدهر، وأن أسراه لا فكاك لهم، وأن الموت أيسر منالاً لهم من التجرؤ عليه. . كانوا قد قالوا قديماً، أنك قد تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وتخدع بعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. . بالتأكيد كانت هذه الحكمة المنظومة المنغومة صحيحة تماماً في وقت مضى. . أما الآن فجملة واحدة بسيطة حلت محل تلك الثلاثية، كقانون وجودي ملزم لا مهرب منه، وهو أنك لن تستطيع أن تخدع أحداً بعد الآن!!
يعتمد الجدار في سطوته وهيمنه على ثلاثة عناصر، وكلها لم يعد لها في عصرنا مجال، أولها الجهل، وثانيها التجهيل، وثالثها الإرهاب، ولنستعرضها واحدة واحدة، بعدها يكون من حقنا أن نتيقن من انتهاء أسطورة الجدار وكل جدار، يأسر البشرية داخل كهف خانق، ليحيلهم إلى جثث، أو يعيشون كحشرات تسعى على الجدران العتيقة.

الركيزة الأولى للجدار هي اعتمادة على جهل الناس، فالجهل في هذا العصر وكل عصر، يجعل الإنسان مثل خرقة مهلهلة، يحتاج لمن يسوقه كما تساق النعاج. . فهو يستشعر ضعفه وضعته، إزاء ما يواجه من مشاكل وظواهر في الحياة، ومن الطبيعي أن يسعى بذاته ليبحث عمن يقيم عوده ويصلب ظهره، ما يجعله ليس قابلاً للخنوع وإحناء الرأس فقط، بل هو من يسعى إلى من يقيمه سيداً عليه، مقابل منحه الحماية والأمان الذي يفتقده، ونعرف المثل الشعبي المصري القائل "إللي مالوش كبير يشتري له كبير"، فالكبير المهيمن هو ضرورة حياة للضعفاء، ولا يكون الإنسان ضعيفاً بحق، إلا إذا كان جاهلاً، فالجهل يجعل الإنسان أضعف جميع الكائنات، فإمكانياته الجسدية والعضلية تضعه في مرتبة متأخرة عن أغلبها، والعلم وحده هو الذي مكنه من تحقيق التفوق عليها. . إذا كنا نستطيع بثقة الآن أن نقول، أن الجهل بين جميع الشعوب يتراجع في عصرنا هذا بمعدلات كبيرة وغير مسبوقة، فإن هذا بالتبعية يقودنا إلى اليقين بأن جدار (برلين) سيفقد سريعاً وأسرع مما نتصور، العامل الأول في إحكام سيطرته على الشعوب التي توطن فيها كسرطان، ليترك مكانه شرخاً لا سبيل إلى ترميمه!!

العمود الثاني في الجدار هو التجهيل، ونعني به تعمية الناس، بحجب الحقائق عنهم، وتقديم معارف مزيفة بدلاً منها، وفق ما نطلق عليه "إلباس الباطل ثوب الحق". . عندما لا تتوافر الحقائق للناس، يستوي الجاهل والمتعلم، فالتفكير السليم والعلمي، الذي يكتشف الزيف من الأصالة، والحق من الباطل، والكذب من الصدق، كل هذا لن يكون ممكناً، ما لم يتوفر للناس العلم بأوليات الحقائق، فعندها فقط يستطيعون إعمال عقولهم. . ففي ذروة الحقبة الناصرية مثلاً، كان يتم التشويش على الإذاعات الأجنبية، حتى لا يعلم الناس منها الحقائق، التي لابد على ضوئها أن يكتشفوا الكذب والتزييف الذي عشنا فيه وعشقناه ومجدناه ردحاً من الزمان، ورغم أننا اعتدنا أن نردد أن "الكذب مالوش رجلين"، إلا أنه في ظل التجهيل والتعتيم، يكون للكذب أرجل عديدة، حتى تنقشع الظلمة، فيظهر كسيحاً لتدوسه الأقدام. . الآن في عصر القنوات التليفزيونية الفضائية، العابرة لكل الحدود والحواجز والموانع، وفي عصر الإنترنت، التي توفر المعلومات بسهولة وسرعة فائقة لكل من يطلبها، لم يعد بمقدور سدنة الكذب والتزييف فرض التجهيل على أحد. . عبثاً يحاول الطغاة حجب أو مراقبة مواقع الإنترنت. . فالمعلومات الآن تتدفق كسيل يكتسح كل ما يعترضه من سدود، ولابد أن يكتسح نفايات الكذب والتضليل، ليوشك جدار (برلين) على التهاوي.

العمود الأخير للجدار هو الإرهاب والترهيب، محاولة لمنع الناس من خدش الجدار، أو من محاولة تسلقه، للقفز للجانب الآخر، أو على الأقل لمشاهدة كيف يعيش الأحرار. . كل من يقترب من الجدار يعتقل ويعذب ربما حتى الموت. . من يحدث به خدشاً تقطع يده. . من يحاول تسلقه يطلق عليه الرصاص فوراً ودون إبطاء. . يمكن أن يستمر الحال على هذا النحو، إذا تجرأ فرد واحد على قدسية الجدار، يمكن هذا أيضاً إذا كان المتجرئون عشرات وربما مئات، لكن إذا ما أدى انحسار الجهل، واستحالة التجهيل إلى تجروء الآلاف والملايين (وهذا ما يحدث الآن)، وأقدموا معاً أو تباعاً سراعاً على هدم الجدار والقفز من فوقه. . هنا لن يفلح إرهاب ولا ترهيب، في وقف التصدع الكامل والنهائي للجدار، الذي لم يكن أحد يوماً يتصور أنه من الممكن أن ينهار.
من له أذنان للسمع فليسمع، ومن له عقل للفهم فليفهم.

kghobrial@yahoo.com