السلام الاجتماعي‮.. ‬في‮ ‬خطر‮!‬

بقلم: نبيل زكي

هل نعيش في‮ ‬زمن التفاهة والاضمحلال‮.. ‬وفي‮ ‬مرحلة الانحطاط‮!‬
الغريب ان ما‮ ‬يشغلنا أو نشغل انفسنا به‮.. ‬هو كل ما هو هامشي‮ ‬او ثانوي‮ ‬أو سطحي‮ ‬بحيث نتخذ كل الاجراءات الاحتياطية اللازمة للحيلولة دون طرح القضايا الحيوية التي‮ ‬تتصل بالاحتياجات العاجلة والملحة للمجتمع المصري‮!‬ واصبح لدينا من‮ ‬يدمنون تناول نفايات وفضلات أفكار عقيمة‮. ‬كما اصبح لدينا من‮ ‬يحتوفون الثرثرة حول أي‮ ‬شيء للإثارة أو لقتل الوقت والتسلية‮.. ‬ولا مانع من إجراء المسابقات وعرض الجوائز علي‮ ‬المتسابقين حتي‮ ‬يعرف من لم‮ ‬يشاهد المسابقة ان‮ »‬العبقري‮« ‬الفائز هو الذي‮ ‬يحفظ اسم مؤلف اغنية‮ »‬الليلة حارتنا فل وهنا‮« ‬في‮ ‬فيلم‮ »‬تعاليلي‮ ‬يابطة‮«!
وحتي‮ ‬يدرك،‮ ‬من لم‮ ‬يدرك حتي‮ ‬الآن،‮ ‬ان الطريق إلي‮ ‬المجد والمال هو ان‮ ‬يحفظ المصري‮ ‬عن ظهر قلب أسماء المطربين والمطربات وعناوين الاغاني‮ ‬والافلام‮.‬
وكان البعض منا‮ ‬يسخر من برنامج‮ ‬يقدمه مذيع عربي‮ ‬بعنوان‮ »‬من سيربح المليون‮!« ‬ويتأكد الآن ان ذلك البرنامج كانت له قيمة ثقافية كبري،‮ ‬لأن المسابقات تدور فيه حول المعلومات التاريخية والسياسية والعلمية والجغرافية‮.. ‬والتراث الفكري‮ ‬الانساني‮.‬
***‬ وفي‮ ‬مصر‮.. ‬بعد ان فرغنا من مشكلة‮ »‬رضاعة الكبار‮« ‬والحجاب والنقاب،‮ ‬وختان البنات وتعليم البنات‮.. ‬بدأ الجدل حول لاعبي‮ ‬الكرة‮.. ‬وهل‮ ‬يحق لهم الافطار‮ ‬في‮ ‬شهر رمضان،‮ ‬أم انهم‮ ‬يجب ان‮ ‬يصروا علي‮ ‬الصيام رغم حاجة فرقهم لجهودهم في‮ ‬مباريات هامة؟ وهل نطالب الاندية الدولية بان تكون المباريات في‮ ‬الليل بدلا من النهار؟
والعجيب ان هذه المشكلات‮ ‬يجري‮ ‬طرحها بينما الكرة المصرية تعاني‮ ‬من نكسات مستمرة،‮ ‬بحيث لا نتوقع فارقا جوهريا بين مباريات الليل والنهار‮!
‬ثم لماذا لا‮ ‬يكون الصيام أو عدم الصيام مسألة‮ ‬يقررها اللاعب نفسه وفق ما‮ ‬يوحي‮ ‬به حسه الديني؟ ولماذا تعتبر هذه المسألة هي‮ ‬قضية القضايا؟
وقد استمر الجدل عندما اجازت دار الافتاء للاعبي‮ ‬كرة القدم المحترفين‮.. ‬الإفطار أيام المباريات التي‮ ‬تقام في‮ ‬نهار رمضان‮. ‬
والاغلب ان الجدل سوف‮ ‬يستمر طوال شهر رمضان‮.‬ وعثر البعض علي‮ ‬موضوع مثير‮ ‬يصلح للجدل،‮ ‬والأخذ والرد‮.. ‬والرد علي‮ ‬الرد،‮ ‬وهو‮: ‬هل‮ ‬يصح ان‮ ‬يتبرع مسلم لبناء كنيسة؟ وتفرع النقاش ليشمل‮: ‬هل‮ ‬يصح لمسيحي‮ ‬ان‮ ‬يتبرع لبناء مسجد؟ وكنا في‮ ‬السابق قد فرغنا من مناقشة هل‮ ‬يصح للمسلم ان‮ ‬يهنئ المسيحي‮ ‬بأحد أعياده الدينية أم أن هذا كفر وخروج علي‮ ‬الدين؟
ولكن‮.. ‬ما إن ننتهي‮ ‬من قضية حتي‮ ‬تفرض علينا قضية اخري‮ ‬من نوع مماثل‮.. ‬أو قل انها تنويعات علي‮ ‬موضوع واحد‮.‬
أما عن المرأة،‮ ‬فإنها محور معظم المناقشات والفتاوي‮ ‬ماذا ترتدي؟ وكيف تصلي؟ وماذا تفعل في‮ ‬كل المواقف التي‮ ‬تتعرض لها؟ ويبدو ان موضوع الجنس الآخر هو الشغل الشاغل لآخرين في‮ ‬عالمنا العربي،‮ ‬حتي‮ ‬اولئك الذين‮ ‬يخوضون،‮ ‬أو المفترض ان‮ ‬يخوضوا معركة تحرير أرضهم من الاحتلال ويكرسوا لها كل جهودهم‮.‬
البعض ترك قضية تحرير التراب الوطني‮ ‬لكي‮ ‬يوجه نشاطه إلي‮ ‬فرض ارتداء الجلباب‮ »‬الذي‮ ‬يوصف بانه الزي‮ ‬الاسلامي‮ ‬الشرعي‮« ‬علي‮ ‬طالبات المدارس الثانوية في‮ ‬غزة ومنع الرجال من مدرسين أو اداريين ـ من التواجد في‮ ‬مدارس البنات في‮ ‬جميع المراحل‮! ‬وكانت فتاة‮ ‬غزاوية قد تعرضت للضرب في‮ ‬مركز للشرطة في‮ ‬غزة بتهمة انها‮ »‬ضحكت بصوت عال‮«!!‬
هل تنتظرون من أشخاص‮ ‬يفكرون بهذه العقلية ان‮ ‬يحققوا‮ »‬منجزات‮« ‬في‮ ‬طريق تحرر بلادهم من الاحتلال؟ ‮
***‬ والآمثلة المحدودة التي‮ ‬تعرضنا لنا تكشف ان مجتمعنا لا‮ ‬يعرف أولوياته‮.. ‬سيظل أسير التخلف والجمود،‮ ‬بل ان العديد من المناقشات في‮ ‬العالم العربي‮ ‬تدور حول قضايا تم حسمها منذ بداية القرن الماضي‮!‬
وهناك قضايا مهمة لا تلقي‮ ‬ما تستحق من اهتمام في‮ ‬مجتمعنا‮.. ‬وأحيانا لا تجد من‮ ‬يتوقف امامها أو‮ ‬يعلق بشئ إلا قلة قليلة‮.‬
مثلا‮: ‬استمرار جرائم التعذيب في‮ ‬مصر والانتهاك المستمر لحقوق الإنسان والمعاملة السيئة التي‮ ‬يلقاها أي‮ ‬مواطن في‮ ‬مراكز الشرطة،‮ ‬كما لو كان هناك تصميم من جانب بعض افراد الشرطة علي‮ ‬إهانة المواطنين وتجريدهم من آدميتهم وإنسانيتهم‮.‬ ‮.. ‬قضايا توريث الحكم والهيمنة المنفردة والمطلقة للحزب الواحد علي‮ ‬مقدرات البلاد والقانون الانتخابي‮ ‬الذي‮ ‬يكرس ظاهرة‮ »‬نواب الخدمات‮« ‬ومجرد العملية الانتخابية من محتواها السياسي‮.. ‬
وهناك العوائق التي‮ ‬تقف أمام نزاهة أي‮ ‬انتخابات عامة أو محلية أو رئاسية في‮ ‬مصر،‮ ‬لماذا لا تكون موضع نقاش عام في‮ ‬المجتمع؟ وهناك استمرار حالة الطوارئ لعشرات السنين والمبررات التي‮ ‬يقدمها المسئولون لاستمرارها إلي‮ ‬ما لا نهاية‮.‬
وهناك قضية حماية الصناعة الوطنية وإعادة الاهتمام بالزراعة التي‮ ‬تم إهمالها لسنوات طويلة حتي‮ ‬أصبحنا نستورد طعامنا،‮ ‬وعجزنا عن تحقيق الاكتفاء الذاتي‮ ‬من القمح رغم وعود كثيرة‮.‬
وهناك قضايا الفقر وانهيار مستوي‮ ‬المعيشة وارتفاع الاسعار واتساع الفجوة بين مجموعة المليارات والأغلبية الساحقة من المواطنين وتفاقم البطالة علي‮ ‬نحو‮ ‬يهدد السلام الاجتماعي‮.‬
وهناك دور رجال الاعمال في‮ ‬العمل السياسي‮ ‬والحكومي،‮ ‬ومشكلة الإسكان،‮ ‬وفشل مشروع الاتحاد التعاوني‮ ‬الاسكاني،‮ ‬وارتفاع اسعار مواد البناء،‮ ‬مما‮ ‬يضع العراقيل امام أي‮ ‬تخفيف لحدة هذه المشكلة في‮ ‬المستقبل‮.‬
وهناك الكارثة التي‮ ‬تتعلق بمياه الشرب النقية وري‮ ‬المزروعات بمياه الصرف الصحي،‮ ‬وتلوث الهواء والطعام والاغذية والادوية الفاسدة‮.‬
وهناك الفشل في‮ ‬احتواء انفلونزا الطيور‮.. ‬والخنازير والزيادة اليومية في‮ ‬عدد المصابين،‮ ‬وأيضا الأرقام المخيفة لعدد ضحايا الإصابة بفيروس ـ سي،‮ ‬وكل انواع الفشل الكبدي‮ ‬والكلوي،‮ ‬وقائمة طويلة اخري‮ ‬من الامراض،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك تلك التي‮ ‬تصيب الحيوانات‮ »‬مثل الحمي‮ ‬القلاعية‮« ‬في‮ ‬نفس الوقت الذي‮ ‬تدهورت فيه الخدمات الصحية والاجتماعية وتراجع دور الدولة في‮ ‬مجالات متعددة،‮ ‬مما تسبب في‮ ‬مصائب متعددة منها انتشار القمامة في‮ ‬كل مكان‮.‬
وهناك الزيادة الخطيرة في‮ ‬عدد وأنواع الجرائم والنزوع إلي‮ ‬العنف علي‮ ‬نحو لم‮ ‬يشهده المجتمع المصري‮ ‬من قبل،‮ ‬وكذلك تقرير مركز البحوث والدراسات الجنائية والاجتماعية عن وقوع اكثر من‮ ‬20‮ ‬ألف حالة اغتصاب سنويا في‮ ‬مصر‮.‬ ولا‮ ‬يمكن إغفال كارثة أخري‮ ‬في‮ ‬انهيار نظام التعليم وما‮ ‬يترتب علي‮ ‬ذلك من عواقب وخيمة تتعلق بالجيل القادم‮.‬
وهناك ما‮ ‬يفسر انتشار ظاهرة الاحتجاج والاعتصام بين العمال وفئات أخري‮ ‬للمطالبة بحقوقهم،‮ ‬وتفاقم الأخطار التي‮ ‬تهدد السلام الاجتماعي‮.‬
ويبقي‮ ‬من مفارقات الحياة في‮ ‬مصر ان نرصد المبلغ‮ ‬الذي‮ ‬تم صرفه لبدلات للنواب في‮ ‬الدورة البرلمانية المنقضية ـ إلي‮ ‬جانب رواتبهم الاصلية ـ وهو‮ ‬15‮ ‬مليون جنيه‮ »‬علي‮ ‬عهدة الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية‮«.‬
ولا تبقي‮ ‬من مظاهر الاحتجاج في‮ ‬مصر سوي‮ ‬الإشارة إلي‮ ‬اللافتة التي‮ ‬رفعها المعتصمون من المحامين امام محكمة حوش عيسي‮ ‬ـ في‮ ‬البحيرة ـ احتجاجا علي‮ ‬قيام احد ضباط الامن بسب وإهانة زميل لهم والشروع في‮ ‬قتله داخل مركز الشرطة تقول اللافتة‮ »‬أين كرامة المواطن داخل مركز الشرطة«؟ ومع ذلك،‮ ‬فإن الجدل مستمر في‮ ‬بعض وسائل الإعلام حول تفاهات‮.. ‬وآخرها مسلسلات رمضان‮.. ‬ومعظمها دون مستوي‮ ‬المناقشة‮!! ‬وربما‮ ‬يتسلي‮ ‬أعضاء الحكومة بمشاهدة هذه المسلسلات إلي‮ ‬جانب الاشتراك في‮ ‬المسابقات‮.‬
نقلا عن جريدة الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع