محمد زيان
ملاحظات حول الدستور والدين ومؤسسات الدولة
بقلم: محمد زيان
بادئ ذي بدء فإن هناك مجرد تصدير لهذه السطور لا بد من الوقوف عنده وقراءة معطياته حتى يتسنى لنا أن نقف على حقيقة المنظومة المسيطرة على العقل المسلم في هذا الوقت، فمن خلال الأحداث الأخيرة التي جرت في مصر وهي: الاعتداء على كنائس عديدة في أماكن متفرقة من الوادي، انتهاك حرمة دور العبادة المسيحية وضرب المصلين حتى ينقض السقف والجدار عليهم، قتل الأقباط بدعوى أن الدين لا يمكن أن يقبل هذا الكافر مع المسلم في بلد واحد وأرض واحدة، البيع والشراء للمسلمين فقط دون المسيحيين وإن لزم الأمر وجاء المسيحي ليبتاع فليشتري وهو صاغر ولا يجوز له أن يطلب سلعة ذات جودة عالية أو يطالب بسعر أرخص، الانتقاص من قدر المواطن المسيحي على شبابيك الانتظار في المترو أو في الأحوال المدنية، ويا حبذا لو كانت فتاة مسيحية فإنه تتم مضايقتها لأنها في منزلة أقل من المسلمة (بالطبع تُعرف من شعرها ولبسها) فتبدأ منظومة الاستهداف على أساس الدين وتجرنا معها إلى سلسلة من أعمال العنف المبنية على دافع عقيدي مغلوط، تم شحن المواطن المصرى البسيط لينجز عملية التناحر الطائفي الممتد عبر جسدين أو اكثر ليتم تكسير عظام المسيحي وتتحطم ناصيته ويحرق بيته ويهدر دمه من خلال استصدار الفتاوى المطبوخة على حسب المزاج الطائفي الذي يكرس للانقسام وعمليات القتل والضرب والإهانة المشحونة على الوتر العاطفي والذي يعزف في النهاية منظومة من القتل والخراب والدمار، فهذا هو المنتج الأصيل الذي نجح المصريون في تصديره عبر أكثر من نصف قرن إلى العالم متباهين بأنهم يمارسون أسمى الغايات وأنبل الأعمال وهو الجهاد ضد العدو القريب كما تقول أدبيات الجماعات الإسلامية المتطرفة، وضد أحفاد القردة والخنازير ومواطني الدرجة الثانية بحسب النظرة العنصرية الاستعلائية التي يملكها أصحاب هذه الأدمغة المتطرفة، ولعل آخر الأحداث التي جرت هي قتل مواطن قبطى على يد مسلم في صعيد مصر.
انتهى التصدير على أنني هنا أعني في مرحلة البناء على هذا التصدير بربط كلامي عن الفتوى التي صدرت مؤخرًا من إحدى مؤسسات الدولة -دار الإفتاء- والخاصة باعتبار أن الوصية ببناء كنيسة هو من قبيل الوصية ببناء ملهى ليلي أو مكان لتربية القطط والكلاب والخنازير وأن هذا العمل معصية لله، وهنا سنعرض للأفكار التي تأتي منها مصادر الفتوى عند أهل العلم في دار الإفتاء:
- قال ابن قدامة في المغني (12/811) ط دار الحديث صفحة رقم (7687) فصل: أمصار المسلمين على ثلاثة أقسام; أحدها، ما مصره المسلمون، كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط، فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعة ولا مجتمع لصلاتهم، ولا يجوز صلحهم على ذلك، بدليل ما روي عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: أيما مصر مصرته العرب، فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا، ولا يتخذوا فيه خنزيرًا.
وروى كثير بن مرة، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تبنى الكنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها}. ولأن هذا بناء كنيسة في دار الإسلام، فلم يجز، كما لو ابتدئ بناؤها. وفارق رم شعثها; فإنه إبقاء واستدامة، وهذا إحداث.
- قال الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: "ليس ينبغي أن تترك في أرض العرب كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار.
- وفي المدونة الكبرى "قلت: أرأيت هل كان مالك يقول: ليس للنصارى أن يحدثوا الكنائس في بلاد الإسلام؟ قال: نعم كان مالك يكره ذلك".
- وقال الإمام الشافعي: "ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعًا لصلواتهم..."
- وقال الإمام أحمد: "ليس لليهود ولا للنصارى أن يحدثوا في مِصر مَصَّرَهُ المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس".
- وقال أبو الحسن الأشعري: "إرادة الكفر كفر وبناء كنيسة يكفر فيها بالله كفر، لأنه إرادة الكفر"
- وقال ابن قدامة: "ويُمنعون من إحداث البيع والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم".
- وقول ابن تيمية في (الرسالة القبرصية): "اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة... والمدينة التي يسكنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجد المسلمين لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها" وقال: "من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يُعبد فيها، أو أن ما يفعله اليهود والنصارى عبَادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر".
- وقال القاضي تقي الدين السبكي: "فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع، وكذا ترميمها".
- وقال الحافظ ابن القيم: "ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس كما شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه... وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى، وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ويعمل به مثل عمر بن عبدالعزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى".
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية قولهم: (كل مكان يعدُّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال، إذ لا تجوز عبادة الله إلا بما شرع الله سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامة للثقلين الجن والإنس وناسخة لما قبلها، وهذا مُجمع عليه بحمد الله تعالى.... ولهذا صار من ضروريات الدين: تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛... فجزيرة العرب: حرمُ الإسلام وقاعدته التي لا يجوز السماح أو الإذن لكافر باختراقها، ولا التجنس بجنسيتها، ولا التملك فيها، فضلاً عن إقامة كنيسة فيها لعبَّاد الصليب، فلا يجتمع فيها دينان، إلا دينًا واحدًا هو دين الإسلام الذي بَعَثَ الله به نبيه ورسوله محمدًا، ولا يكون فيها قبلتان إلا قبلة واحدة هي قبلة المسلمين إلى البيت العتيق،... وبهذا يُعلم أن السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره... عائذين بالله من الحور بعد الكَوْر، ومن الضلالة بعد الهداية).
- وجاء في فتوى وزارة الأوقاف الكويتية: (إنَّ إنشاء أي دار للعبادة لغير المسلمين في دار الإسلام لا يجوز، وكذلك لا يجوز تأجير الدور لتكون كنائس، ولا تحويل الدور السكنية لتكون كنائس أو معابد لغير المسلمين، وذلك لإجماع علماء المسلمين على أنه لا تبقى في دار الإسلام مكان عبادة لغير المسلمين) (29).
وقال الشيخ عبدالرحمن البراك: "ومما يؤسف له أن بعض المسلمين استجابوا للكفار في بناء الكنائس، فها هي بعض البلاد الإسلامية في أطراف الجزيرة العربية؛ جزيرة الإسلام، ها هم أذِنوا للنصارى في بناء معابدهم، وقد جاء في الحديث لا تكون في أرض قبلتان، فلا تجتمع قبلة اليهود والنصارى مع قبلة المسلمين" (المصدر: http://www.islamway.com)
رأيت أن يكون هذا العرض الموجز للفتوى الخاصة ببناء وترميم الكنائس للوقوف على حقيقة أن الفتوى لا تعد منجزًا عصريًا نابع من قناعات الشيوخ وفكرهم الخاص وانتاجهم المدموغ بخاتم الملكية الفكرية، وإنما اكتفى هؤلاء في كل طلب للفتوى بالرجوع إلى التراث وفتح كتب التاريخ لإنزال ما يمكن إنزاله منها على معيشة أهل البلاد والعباد، وبالتالي ظل العلماء المعاصرون عبيدًا للموتى ينقلون أفكارهم إلينا دون إعمال للعقل لربما لا تتفق هذه الآراء القديمة مع واقعنا المعاصر.
فما تقدم من فتاوى تجد أن معظم علماء الإسلام في القديم وتبعهم في ذلك بعضًا من العلماء الموجودين في العصر الحديث الذين لا يزالون يستقون أفكارهم من الكتب القديمة لا الواقع الحديث المُعاش الذي يفرض الكثير من المستجدات اليومية، فتراهم وقد أجمعوا على حرمة بناء الكنائس في البلدان الإسلامية وأنها في جزيرة العرب أشد إثمًا ولا يجوز مطلقًا بناء الأماكن الشركية فيها.
أي أن العلماء المعاصرين لم يقدروا على حتى مواكبة التطور وإنجاز فتاوى عاقلة تحقق الخير والرفاهية الإقتصادية، وما سمعنا عن فتوى تتحدث عن تطوير القدرات البشرية أو بناء الذات وتحديث العقل، ومواكبة السرعة الحادثة في التقدم التكنولوجي وعلم الذرة وكيفية التعامل مع نظريات علوم الكيمياء والفيزياء والفسيولوجي، وهنا فليس من المستغرب صدور فتاوى جاءت من بطون الكتب التي علق عليها التراب منذ آلاف السنين.!
الجزئية الثانية والهامة هي ضرورة الاعتراف بأن هناك ثمة مرض متجذر في عقل المسلم وهو كراهية الآخر ونبذ أفكاره ومعتقداته، وإنكار عباداته وشعائرها ودمغها بالكفر.
أما الملاحظة الثالثة فهي نظرة الاستعلاء والتكبر التي تقعرت داخل العقل المسلم لدرجة أنه أصبح يمنح ويمنع بحسب رؤيته هو، وربما تجد هذا الذي يفتى لك بحرمة بناء الكنائس لم يقرأ كتابًا واحدًا أو ربما يكون أميًا.
رابعًا سيطرة ثقافة التخلف على العقل المسلم الذي ينساق وراء تفسيرات غيبية وهمية لا سند لها في القرآن، وربما يأتي لك بمائة برهان على خلاف الحقيقة وبالمغايرة للواقع، بالإضافة إلى التفسيرات الخرافية وسرد قصص من الخلفية الثقافية التي تربى عليها هذا المجتمع المتراجع ثقافيًا.
الجزئية الأخيرة التي أود أن أنهي بها هنا هي تلك الخاصة بالعنوان الذي تصدر هذه السطور "الدستور والدين ومؤسسات الدولة"، فالدستور هنا يحمل في صدارته المادة الثانية التي فتحت المجال أمام التيارات الإسلامية المتطرفة لكي تتغنى وتعزف على وتر الدين والعقيدة والنص ومن يخالفه والردة وحدها وما إلى ذلك من مناهج البحث الفقهية التي ربما نفذ المتطرفون منها إلى قلب الدولة ويجاهرون بتطرفهم على حساب الاستقرار.
هنا استقر المتطرفون على عرف التمسك بحرفية الدستور والارتكاز على المادة الثانية للنفاذ -كما أسلفنا- إلى مؤسسات الدولة كما حدث في مجلس الشعب ودار الإفتاء، لأن الدولة ربما ساعدت هؤلاء المتطرفون بتشديد تطرفهم المبني على أفكار ابن تيمية وغيرهم من شيوخ السلف.
أما الدين، فبالنظر إلى النصوص الخاصة بحقوق المخالفين في الاعتقاد وأصحاب الأديان الأخرى في القرآن نجد أنها تصب في اتجاه الاستقرار وإحداث حالة من الموائمة والمصالحة بين أهل الأديان حال ما إذا حدثت مشكلات بينهما.
وبالرغم من ذلك أنهي فأقول أن شيوخ الإسلام من السلف وزمن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا قد كتبوا من الفقه ما لم يقل به القرآن نفسه في خصوص بناء الكنائس، ونتساءل: هل الله عندما نزّل القرآن لم يكن قادرًا على أن يقول "لا يجوز بناء الكنائس في بلاد المسلمبن" مثلما قال ابن تيمية ؟، وهل ابن تيمية أكثر قدسية عند الناس من الله؟ وإذا كان الجواب ابن تيمية فلماذا لا يعبده العالم المسلم كله ويتركون عبادة الله إذا كان كلامه أكثر تصديقًا من كلام الله؟؟
أما إذا كان الجواب عكس ذلك فان الضرورة تحتم على الجميع إعادة النظر في هذا الكم الكبير من الكتب التي تحوي ملايين الصفحات من هذا الفكر المتشدد الذي يكرس لـ"اللاتعايش".
http://www.copts-united.com/article.php?A=6825&I=186