هذا الهجوم علي‮ ‬العقل

بقلم: إبراهيم عبد المجيد

لم أكن افكر أبدا في‮ ‬كتابة هذا المقال مهاجما لاحد ـ أي‮ ‬أحد ـ في‮ ‬هذه الايام المباركه لكنه التليفزيون،‮ ‬هذا من ناحية‮. ‬من ناحيه أخري‮ ‬أنا أعرف وأومن من زمان ان من‮ ‬يملك‮ ‬يحكم ولكن ليس الي‮ ‬النهاية فالناس تستطيع في‮ ‬اي‮ ‬مكان واي‮ ‬زمان ان ترفض وان تقاوم‮. ‬مقولة من‮ ‬يملك‮ ‬يحكم قديمة في‮ ‬التاريخ قيلت في‮ ‬معرض الهجوم علي‮ ‬الاقطاع في‮ ‬اوربا ثم قيلت في‮ ‬معرض الهجوم علي‮ ‬الرأسمالية في‮ ‬اوروبا ايضا وقيلت في‮ ‬مصر بعد ثورة‮ ‬يوليو في‮ ‬معرض الهجوم علي‮ ‬العصر الملكي‮ ‬وستظل تقال دائما ويستخدمها كل من لا‮ ‬يملكون ضد من‮ ‬يملكون تبريرا لاعمالهم او ملكياتهم فيما بعد‮ ‬وهي‮ ‬مقوله ليست خاطئة معناها المجرد لكنها فقط تخفي‮ ‬امكانية المقاومة التي‮ ‬جعلت النقابات في‮ ‬الدول الرأسمالية تحصل للعمال والمجتمع علي‮ ‬مكاسب عجزت عنها الأنظمة الشيوعية لشعوبها التي‮ ‬اكتشفت ايضا انها لم تكن تملك وانها الدولة التي‮ ‬كانت تملك كل شئ فانتفضت هذه الشعوب بدورها علي‮ ‬النظام الشيوعي‮ ‬وتبخر في‮ ‬اكبر معاقله‮. ‬هذا كلام‮ ‬يبدو لي‮ ‬كبيرا جدا عل ما اريد التحدث فيه لكن لم اجد‮ ‬غيره معبرا عما‮ ‬يجري‮ ‬في‮ ‬التليفزيون المصري‮ ‬في‮ ‬رمضان هذا العام‮ .
 
‬التليفزيون المصري‮ ‬الذي‮ ‬هو ملكية عامه لكنه لا‮ ‬يقبل الا بسياسة الدوله ولا‮ ‬يتيح الفرصة للمعارضة الا بحساب وكل ذلك عرفناه وعرفه الجميع فانصرفوا عنه الي‮ ‬الفضائيات المصرية والعربية،‮ ‬استغنوا عنه بوصلة دش لا تكلفهم‮ ‬غير ثلاثين جنيها اصبحت تساوي‮ ‬الملايين المصروفه عليه والتي‮ ‬تصرف لتطويره‮. ‬وحكاية التطوير مهما قيل فيها فهي‮ ‬سياسيا لا تعني‮ ‬شيئا لانه‮ ‬سياسيا لن‮ ‬يتم أي‮ ‬تطوير الا في‮ ‬شكل البرامج وديكوراتها وهذا كله لا‮ ‬يضايقني‮ ‬ولا‮ ‬يضايق أحدا من المهتمين بالسياسة أو الشأن العام لانه كما قلت هناك عشرات المحطات التي‮ ‬يمكن أن‮ ‬يلجا اليها الناس ويجدوا فيها كل شيء ابتداء من حوادث الطرق الي‮ ‬شتيمة الحكومة عن اخرها لكن هناك بالفعل جوانب اخري‮ ‬من التطوير في‮ ‬استحداث قنوات جديدة او في‮ ‬الاقبال علي‮ ‬اذاعة المسلسلات التي‮ ‬لا اري‮ ‬فيها مشكلة فالانسان‮ ‬يستطيع ان‮ ‬يحدد لنفسه ما‮ ‬يشتهي‮ ‬والحياة لن تعطي‮ ‬احدا الوقت ولا القوة لمشاهدة كل شئ بل بالعكس ربما اري‮ ‬في‮ ‬هذه الكثرة دليلا علي‮ ‬القدرات الكبيرة لصناع الدراما في‮ ‬مصر التي‮ ‬كادت تنهار امام الدراما السورية منذ وقت قريب مثلا.

‬انا اتحدث هنا عن اكثر من قناة مصرية وعلي‮ ‬رأسها النايل كوميدي‮ ‬التي‮ ‬المفترض فيها ان تروح عن البشر فاذا بها تشن أكبر حملة علي‮ ‬العقل المصري‮ ‬وكأنما هناك سباق علي‮ ‬مسخرة كل شيء من العلم الي‮ ‬التدريس الي‮ ‬النشرات الاعلاميه الي‮ ‬الاثار الي‮ ‬التاريخ المعاصر والقديم‮ . ‬كل شئ فجاه اصبح قابلا للتقليد والمسخره بشكل كثيف وشامل كانه لم‮ ‬يعد لدينا شيئ حقيقي‮ ‬او محل احترام وتقدير‮ .
‬ليس هكذا ابدا‮ ‬يكون التقليد الذي‮ ‬بلا شك لدينا ممثلون من كل صنف ولون بارعون فيه وليس هكذا نعبر عن مواهبنا‮ . ‬يا سادة الكوميديا ضحك ولكن ليس علي‮ ‬العلم والعمل‮ ‬ولا علي‮ ‬انجازاتنا التاريخية والعقلية‮. ‬الكوميديا ضحك علي‮ ‬القيم‮ ‬القديمة مثلا‮ .‬علي‮ ‬التزمت،‮ ‬علي‮ ‬سوء الفهم،‮ ‬علي‮ ‬الادعاء،‮ ‬علي‮ ‬الحذلقة وغير ذلك من مظاهر السلوك‮ . ‬لكن ليس كم قلت علي‮ ‬العلم والثقافة والتاريخ والأبطال هذا لم‮ ‬يفكر في‮ ‬عمله الغوغاء فما بالنا بجهاز نملكه اسف تملكه الدولة‮ ‬يفعل ذلك ؟ هل رأت الدولة ان تسبق المحبطين من شعبها وتجرد كل شئ من قيمته‮ .

‬هذه المسخرة من العلم والتاريخ والحضارة في‮ ‬برامج تجعل مسؤول الاثار استاذ محتاس وكل ما‮ ‬يقال عن الاثار هجص او مدرس‮ ‬يسخر من كل الاساتذه والتدريس والعلم واللغة والنحو والصرف والقواعد وكل ما‮ ‬يخص العملية التعليمية‮. ‬من الذي‮ ‬سمح بذلك الهجوم علي‮ ‬العقل المصري‮ ‬بهذه الكثافة تحت شعار التسلية والضحك‮ . ‬يا اسيادنا ان مسرحية واحدة عرضت في‮ ‬النصف الاول من السبعينيات من القرن الماضي‮ ‬وهي‮ ‬مدرسه المشاغبين انتجت اجيالا لا تحترم العلم ولا التعليم ولا من‮ ‬يقومون به‮. ‬لقد اراد بها المؤلف انتقادا للعمليه التعليميه مبكرا عن‮ ‬غيره ومحذرا لكن الخروج علي‮ ‬النص جعلها علي‮ ‬غير ذلك‮ .‬وللاسف ساعدها انهيار العملية التعليمية ذاتها فهل ترون ان كل شئ في‮ ‬مصر قوي‮ ‬وبخير ولا‮ ‬يتاثر من هذه السخرية اقصد المسخرة‭ ‬لا اظن‮ . ‬اذن لماذا ؟‮. ‬هو الهجوم علي‮ ‬العقل‮ .
 
‬الحقيقة علي‮ ‬البقية الباقية وما اقلها عند المصريين الان وهم‮ ‬يعانون ما‮ ‬يعانون من‮ ‬غلاء واهمال ويهربون الي‮ ‬الاخرة لكن لا‮ ‬يزال في‮ ‬الكثير منهم بقية من عقل وما زالوا قادرين اذا توفرت لهم القيادة الصحيحة علي‮ ‬العوده للدنيا والاحتفال بها وتنميتها‮ . ‬الذي‮ ‬تفعله النايل كوميدي‮ ‬هو محاولة واسعة ومركزة وقوية للاسف لتسطيح وعي‮ ‬الناس الذي‮ ‬صار مستعدا لذلك ليفعل بهم من‮ ‬يشاء ما‮ ‬يشاء‮ .

‬لقد اخترت هذه القناه لاروح عن نفسي‮ ‬قليلا فوجدت انني‮ ‬امام تفاهات لا تليق ابدا بمن‮ ‬يفعلها او وافق عليها ورحت افكر ان ذلك‮ ‬يمكن ان‮ ‬يكون قصورا في‮ ‬الفهم للتقليد او‮ ‬غيره من فنون الفرجه ثم رحت اقول لنفسي‮ ‬ربما هو اندفاع أكثر في‮ ‬منافسة قناة موجة كوميدي‮ ‬ثم لما اعياني‮ ‬التفكير لم اجد‮ ‬غيرانها محاولة نشطة ومركزة لتسطيح الوعي‮ ‬وساعدني‮ ‬علي‮ ‬ذلك ما فعلته هذه القناة من قبل حين جعلت شعبان عبد الرحيم المطرب الشعبي‮ ‬الذي‮ ‬احبه لكن في‮ ‬مكانه كشخص‮ ‬يروح عنا في‮ ‬بعض الاحيان اقول جعلته‮ ‬يحاور طائفة كبيرة من المثقفين والمعارضين وينطق بأشياء لا‮ ‬يعيها تلقن له عبر السماعة فضحك الناس علي‮ ‬شعبان والمعارضة والمثقفين معا وقلت هذه مرحله جديده بعد السخرية من قادة الفكر الذين لا اعرف كيف وافقوا علي‮ ‬ذلك الي‮ ‬مسخرة العلم والتاريخ وكل شئ‮ ‬وعدت الي‮ ‬الشعار القديم من‮ ‬يملك‮ ‬يحكم ولكن هذا لا‮ ‬يليق ابدا بمن‮ ‬يتحدثون عن المستقبل‮ .
 
‬اقول هذا اسفا لنفسي‮ ‬لا لاحد انا الذي‮ ‬لا اعرف الجمود فيما اكتب ولا اتردد في‮ ‬الدفاع عن الجديد لكن ما تفعله هذه القناة تجاوز كل شئ لانه‮ ‬يتجه بالعقول الي‮ ‬الدرك الاسفل من الاستخفاف والحياة معا وسوف نري‮ ‬اثار ذلك فيما بعد‮ .‬  
 نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع