الكنيسة القبطية مؤسسة وطنية

كمال زاخر موسى

بقلم: كمال زاخر موسى
تحسب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من أقدم المؤسسات المصرية إن لم تكن أقدمها على الإطلاق فقد تأسست على الثرى المصرى قبل ما يقارب الفى سنة، وتحسب من الكنائس الرسولية العظمى إذ تنسب الى واحد من أهم رسل السيد المسيح ـ ق. مرقس الرسول ـ مدون الإنجيل الثانى والذى عاصر الأحداث المحورية فى حياة المسيح، بل وقطع فى بيته العهد الجديد بين الله والناس عبر سر المائدة ـ المعروف بلغة الكنيسة بسر الإفخارستيا (الشكر) ـ ويعطى نموذجاً لإستقامة الراعى وبساطته ودأبه فى خدمته وتأسست الكنيسة فى مدينة الإسكندرية العاصمة الثقافية للإمبرطورية الرومانية الشرقية، لذلك يسمى الكرسى البابوى بالكرسى المرقسى السكندرى .

وكان للكنيسة دور رئيس فى الحفاظ على الإيمان المسيحى بحسب تسليم الآباء وترجم هذا فى القرون الميلادية الخمسة الأولى وكان لعلمائها اللاهوتيين بصماتهم فى ضبط السياقات التنظيرية والفكرية التى حفظت الإيمان قويماً لكل العالم المسيحى، حتى أن أحد بطاركتها ـ ق. اثناسيوس البابا العشرون فى عداد البطاركة ـ حسب بطل الإيمان ولقب بـ " الرسولى " نسبة الى رسل المسيح لقوة حجته وصلابته فى مواجهة البدع والهرطقات فى القرن الرابع، إبان مجمع نيقية المسكونى ( مؤتمر دولى ضم كل الكنائس عقد بمدينة نيقية ـ أحدى مدن تركيا اليوم ـ عام 325 م ) . ومازالت مدرسة الأسكندرية أهم مصادر البحوث اللاهوتية.

وعندما وجدت الكنيسة فى مأزق الخيار بين تأييد توجه الكنائس الأخرى وبين الحفاظ على هويتها القومية، إختارت بلا تردد الخيار القومى، ولعل هذا يفسر احتفاظها بلقب الكنيسة القبطية ، أى الكنيسة المصرية، وهو حديث ذو شجون ويحتاج لتحليل موضوعى يضبط واقعها وينقيه.
ويحتفظ لنا التاريخ بمواقف وطنية ناصعة أكدت الإنحياز القومى الوطنى بالمخالفة لكل التوقعات التى كانت تلعب على التوازنات والمصالح اللحظية والقراءة الضيقة الطائفية، فقد رفضت ان تنضوى تحت لواء الفاتيكان لتحظى بحماية دولية، ورفضت عرض البطريرك الروسى بمؤازرتها واسباغ الحماية عليها فى مواجهة موجات الإضطهاد ، وكان رد البطريرك المصرى حاسماً إذ سأل مندوب البطريرك الروسى : هل بطريركك سيموت يوماً أجابه نعم ، فبادره بقوله نحن فى حماية الله الذى لا يموت، وأغلقت صفحة عروض الحماية.

وفى العصر الحديث كان القمص سرجيوس خطيب ثورة 19 ولم يتردد فى اعتلاء منبر الجامع الأزهر داعياً للتوحد والتكاتف خلف الزعيم سعد زغلول وتحدى المستعمر بجسارة وحسم، وفى محنة 67 كانت كلمات الأب متى المسكين كصوت صارخ فى البرية سجلتها لنا مذكراته وكتبه ومقالاته وقتها، فقد جمع رهبان الدير وحثهم على الاستعداد للموت فى سبيل الوطن، وأصدر كتابين ( ما وراء خط النار ، و ميناء إيلات وصحراء النقب ) كانت رسالته فيهما ( على كل مواطن حقيقى أن يهب لحمل مسئولية الدفاع عن وطنه بكل ما أوتى من أمانة وشرف وشجاعة، مدفوعاً بروح الحب والبذل رداً لجميل بلده الذى يحمى حياته ويظلل على كنيسته) وقد كانا الكتابان محل تقدير الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وأرسل للأب متى المسكين خطاب تقدير وشكر.
ولا يمكن أن نغفل المواقف الوطنية للبابا شنودة الثالث بدءاً من محاضرته التى القاها بنقابة الصحفيين قبيل حرب 67 (اسرائيل فى رأى المسيحية) والتى احدثت دوياً هائلاً فى مواجهة محاولات اكساب الكيان الصهيونى شرعية استناداً الى قراءة مسيسة لنصوص الكتاب المقدس، ولعلنا لا ننسى تأكيده على مقولة المجاهد المصرى مكرم عبيد (مصر ليست فقط وطناً نعيش فيه بل هى وطن يعيش فينا) حتى صارت من الشعارات المصرية بالغة الحميمية.
وفى يقينى أن الحفاظ على الكنيسة القبطية ـ المصرية ـ يتجاوز بعده الدينى ليتلاحم مع البعد الوطنى ، ولهذا ننظر بقلق لموجات محاولة هز استقرارها ببث موجات متتالية من الشائعات المتعلقة بخلافة البابا ممن يطمحون لهذا ، الأمر الذى يتطلب تحركاً حاسماً لتأكيد مؤسسية الكنيسة وهى مهمة مجمع الأساقفة ـ المجمع المقدس ـ باعتباره السلطة العليا فى الكنيسة، عبر دراسة وتقنين العديد من المحاور منها :

ـ انشاء مركز إعلامى رسمى احترافى يتولى اصدار بيانات دورية، وبحسب مقتضى الحال، تجيب على تساؤلات الإعلام ، أو تعلن الرأى الرسمى للكنيسة فيما يدور على الساحة الكنسية والقبطية فيما هو متعلق بالكنيسة.

ـ اصدار مجموعة من القواعد القانونية الكنسية فيما يتعلق بـ :
1 ـ منظومة المحاكمات الكنسية، الإحالة وقواعد التحقيق وحق الدفاع ودرجات التقاضى وهدف المحاكمة بما يوفر اقصى حضور للعدالة، وتحديد ما يحسب مخالفة بدرجاتها والعقوبات المناظرة ، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
2 ـ ضبط لائحة انتخاب البابا البطريرك، بتأكيد عدم جواز ترشيح وانتخاب الاساقفة ـ ايباشية وعام ـ والمطارنة للكرسى البابوى وفق ضوابط القوانين الكنسية، ولهم فى القديس غريغوريوس النيزنزى نموذجاً .
3 ـ المجلس الملى ؛ بدءاً من المسمى الى الصلاحيات والمهام والتشكيل ومنهج عمله وضوابطه .
4 ـ الإدارة المالية وتحديثها، فى ضوء تعدد الموارد وتعدد المصارف والمشاركة فى البعدين التنموى والتنويرى .
5 ـ ضوابط العلاقة بين الرتب الكهنوتية المختلفة فى ضوء القوانين الرسولية والمجمعية المسكونية والمحلية وفى ضوء مستجدات العصر .
6ـ منظومة الرهبنة : القبول فيها وادارتها بما يحفظ لها خصوصيتها وعدم اقحامها فى الصراعات بين الفرقاء خارج اسوارها .
7ـ تأكيد الفصل بين العمل الكنسى الروحى والعمل السياسى إسوة بالضوابط التى تمنع على القضاة والجيش والشرطة التعاطى مع السياسة طالما كانوا بالخدمة كل فى مجاله .

وقد سبق وقدمنا للقيادة الكنسية كافة الاوراق والابحاث والتوصيات التى طرحناها عبر مؤتمراتنا المتتالية منذ عام 2006 وما بعدها والمتعلقة بكل هذا ، وعلى استعداد لإعادة تقديمها مجدداً للحوار حولها وتنقيحها سعياً لضبط واقع الكنيسة على القواعد القانونية الآبائية الصحيحة فى قراءة معاصرة منضبطة لها ، فهل من تحرك ايجابى بعيداً عن رباعية الاتهامات سابقة التجهيز : المؤامرة والتخوين والتكفير والتشكيك؟!
Kamal_zakher@yahoo.com