كمال غبريال
بقلم: كمال غبريال
إشكالية الفتاوى الدينية ظهرت منذ بداية السبعينيات، مع تعاظم المد الديني في بداية الحقبة الساداتية، وقد كان عموم الناس قبلها، لا يسمعون عن مفتي الديار أو دار الإفتاء، إلا عند تحديد أوائل الشهور العربية، التي يعقبها أعياد أو صوم، كذا نسمع عنها مجرد سماع عابر، عند صدور أحكام بالإعدام، يسبقها إحالة أوراق المتهم إلى المفتي، كإجراء روتيني استشاري غير ملزم، كما ينص القانون.
ما يحدث الآن من الانزعاج الذي يصل أحياناً إلى حد الهياج، في أعقاب هذه الفتوى أو تلك، هو في الحقيقة ثمار ما قد زرع المصريون ونخبتهم وحكامهم خلال ما يقرب من أربعة عقود من الزمان. . وكان من الطبيعي مع ازدهار الفتاوى الإسلامية، أن يصاحب ذلك ازدهار لفتاوى مسيحية، وإن لم تحمل الآراء الكنسية تسمية فتوى، وإن كانت تحمل في مضمونها ذات النوعية من الأوامر الإلهية، أي تستند في رواجها بين الناس على مرجعية مقدسة، لا يملك الفرد إزاءها إلا السمع والطاعة، على الأقل في العلن، وإلا كان عرضة للعزل أو الحرمان أو الحكم بالكفر أو الهرطقة.
كنا في السابق نطلب رأي رجال الدين في الأمور الدينية، ونستدير بعد ذلك إلى أهل الاختصاص في كافة مجالات الحياة، لنسأل كل منهم في تخصصه، بالإضافة إلى العمل بالمثل الشعبي القائل: "اسأل مجرب ولا تسأل طبيب"، والذي إذا ما أخذناه على وجه حسن، فإنه كان ينبهنا إلى الاستفادة من خبرات بعضنا البعض، تلك التي اكتسبناها ونكتسبها من حياتنا اليومية، ونضيفها إلى ذخيرة معارفنا العملية، التي قد يعجز العلماء المتخصصون عن الإلمام الشامل بها. . يعني هذا أن ظروف الحياة العملية وملابساتها، كانت هي المرجعية التي نستند إليها، في تحديد طريقة معالجتنا لما يواجهنا من أسئلة وإشكاليات. . بعبارة أخرى كنا نقيم تصرفاتنا على أساس ثنائية الصواب/ الخطأ. . والصواب هكذا يكون ما يؤدي إلى نتائج عملية إيجابية على وجه العموم، والخطأ هو ما يفضي لنتائج سلبية، قد تعود بالضرر علينا، أو قد تضعنا في محل مساءلة قانونية.
لكن تصاعد المد الديني، سواء أرجعناه إلى انكسار أو انهيار المشروع العلماني الناصري، الذي وعدنا "بتماثيل رخام على الترعة وأوبرا، في كل قرية عربية"، وأوهمنا أننا نتملك "أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط"، فإذا بها أكبر قوة هاربة، تبعتها بعد ذلك حريق أوبرا القاهرة ذاتها، وطفح المجاري في شوارع العاصمة والمدن الكبرى. . أو أرجعناه إلى لعبة السادات، الذي أخرج المارد الإخواني من القمقم، بأمل توظيفه ليؤسس له جماهيرية، كان في حاجة إليها، ليواجه بها ورثة عبد الناصر والمتاجرون برصيده الجماهيري محل تعجب العالم أجمع. . فإن النتيجة واحدة، هي تحول الشعب المصري كله -بمسلميه ومسيحييه- إلى الدين، ليصبح هو النافذة أو الثقب الوحيد الذي ينظرون منه إلى العالم، ويتطلعون إلى رجاله، ليرشدوهم إلى ما فشلوا بجهودهم وعقولهم في تحقيقه من آمال.
لم يعد القياس والتفكير العقلي إذن هو أداة حل الإشكاليات والأسئلة التي يواجهها الإنسان المصري، خدمة للواقع العملي، بل صار التطابق مع النصوص المقدسة، أو ما يعرف "برأي الدين"، هو الذي يفصل في الثنائية الجديدة، أي الحلال/ الحرام، والتي حلت محل ثنائية الصواب/ الخطأ القديمة، بما يعني أيضاً أن الأرض وما عليها لم تعد هي الهدف المرتجى، بل صارت السماء والحياة الآخرة هي قبلة العقول والنفوس. . هكذا تغاضينا عن البؤس والبطالة والعوز والفساد وهو يتفاقم، والقمامة ومياه الصرف وهي تطمرنا وتغرقنا، ورحنا نتبارى في أداء الفرائض والطقوس الدينية، وجمع الحسنات الكفيلة بدخولنا الجنة أو ملكوت السماوات، وكل هذا لن يتحقق إلا باتباع ما يفتي لنا به رجال الدين أصحاب الفضيلة والقداسة!!
هكذا سمعنا عما قامت الدنيا عليه ولم تقعد، مثل فتاوى بول الإبل وبول الرسول، وعن وزواج المتعة والمسيار، وعن رضاع الكبير وتكفير البهائيين، وأحكام التكفير على الكتاب والمفكرين، كما سمعنا عن تحريم الولاية العامة على المرأة والأقباط، وعن وجوب عدم دخول الأقباط إلى الجيش، وضرورة دفعهم للجزية، وعن عدم جواز إقامة كنائس في المدن الجديدة، لأن من بناها على حد توصيفهم مسلمون، وسمعنا فتاوى تحرم على الأقباط زيارة الأماكن المقدسة لدواع سياسية، وعن الدم المقدس الذي لا يجب التبرع به لغير المسيحيين، وأخيراً نتجادل بأسى أو بدهشة، حول فتوى مساواة الكنائس بالملاهي الليلية، وأماكن تربية القطط والكلاب.
الآن عندما نسمع هذه الفتاوى الغريبة، والمفارقة للعصر ولواقع حياتنا، فليس لنا الحق أن نتذمر أو نستهجن، كما ليس من حقنا أن نحاكم من يصدر هذه الفتاوى بمعيار العقل، أو بمعيار اللياقة والمناسبة العملية لما قد أفتى به، ذلك أن الأمر لو كان أمر لياقة سياسية، أو صحة علمية، لكان جديراً بنا ابتداء أن نطلب الرأي من أهل السياسة أو أهل العلوم بمختلف فروعها وتخصصاتها، أي لكنا استفتينا فيها أنفسنا بأنفسنا، دون الحاجة للانطراح على أعتاب وكلاء الله على الأرض. .أما وقد ذهبنا إلى رجال الدين، وأبينا إلا أن نسمع ونسير على هدى آرائهم المقدسه، فإن هذا لابد ويعني أننا نطلب منهم الرأي وفق ما قد تخصصوا فيه، أي ليقوموا نيابة عنا باستنطاق النصوص المقدسة، وبالطبع نعرف أن وكلاء الله هؤلاء، وفي سبيل تعظيم هيمنتهم علينا وعلى حياتنا، قد ضموا إلى ما نؤمن به من نصوص مقدسة، ركاماً هائلاً من نصوص بشرية، كتبها أناس مثلنا، في عصور تختلف تمام الاختلاف عن عصرنا، مستخدمين آليات تفكير هي بجميع المقاييس آليات متخلفة، مقارنة بما نملك الآن من آليات للتفكير وللمعرفة، وهي التي يعتمدون عليها في استخراج ما نسمع من عجائب وطرائف!!
من غير الجائز ولا المقبول إذن، أن نطلب من رجال الدين، أن يفتونا مستخدمين مرجعيات غير التي ذهبنا نحن بالأساس إليهم من أجلها، تماماً كما لا يجوز أن يبدي مهندس رأياً في موضوع مستنداً إلى مراجع طبية أو اقتصادية، فأولاً هو لا يفهم في غير الهندسة، ثم أن من يذهب إليه، من المفترض أنه قد ذهب طالباً الاستناد إلى ما تخصص فيه هذا المهندس من علم، وليس الاستناد إلى علوم غيره أولى بها.
القضية إذن ليست قضية رجال دين يسيئون إلينا وإلى حياتنا بفتاواهم، وإنما نحن الذين نسيء إلى أنفسنا، بالنظر إلى جميع مناحي حياتنا، عبر نافذة واحدة هي الدين، مهملين ما اكتشفه الإنسان من آلاف السنين، وهو التخصص، الذي جعل لكل فرد مهمة هو الأقدر عليها، ونوعاً من المعارف ينبغي عليه أن يلم به، تاركاً لغيره ما يتخصص ويبرع فيه. . نحن سواء بوعي أو بدون وعي، قد قمنا بالارتداد على كل ما حققته البشرية من حضارة ومنجزات، وانكفأنا على أنفسنا، كسلحفاة انقلبت على ظهرها، ولا سبيل لكي تعدل من وضعها، إلا أن يأتي من يقلبها رأساً على عقب، فقد تستطيع عندها العودة إلى وعيها المفقود!!!
http://www.copts-united.com/article.php?A=7101&I=193