نبيل شرف الدين
بقلم: نبيل شرف الدين
تخيل معى هذا المشهد: رجل مريض يقف أمام إحدى محطات المترو بالقاهرة، ينتحى جانباً ليخرج من جيبه حبة دواء ومن حقيبته زجاجة مياه، حتى يتناول الجرعة فى موعدها، وفجأة يرمقه بعض الغوغاء بعدوانية، ثم انهالوا عليه ضرباً: «يا فاطر يا كافر ما تخلّى عندك دم، إلحق يا بوليس.. مسكنا فاطر».
يرتبك الرجل ويسيل عرقه وترتعش أطرافه قبل أن يخرج صوته متحشرجاً: «أنا مريض يا ناس، ودى حباية الدوا بتاع القلب»، فيرد الغوغاء: «كلكم بتقولوا كده، إللى زيك لازم يتحبس علشان تحرّموا تفطروا».
يحضر شرطى متسائلاً: «فيه إيه؟»، فيتطوع أحدهم ممن تعلو جبهته «زبيبة» قائلاً: «يا باشا الجدع ده فاطر مسكناه بيشرب ميه عينى عينك فى النهار»، فيرد الرجل مرعوباً: «والله يا باشا أنا مريض، وحبة الدوا لازم أخدها فى ميعادها، فيرد الشرطى بسخرية: «حبة إيه يا نصاب، كلبشه يا عسكرى وهاته يللا ورايا».
يستغيث الرجل «أنا مريض يا ناس»، فينهره الشرطى: «هتشرّف عندنا ونبعتك للمستشفى ولما يقول الدكتور إنك مريض نخرّجك»، يصرخ الرجل «يا ناس هموت أنا عندى السكر والضغط»، فيعلق أحد الغوغاء بشماتة: «يا ريت تموت وتغور فى داهية، وتريّحنا من أمثالك الكفرة».
هذا المشهد لم يحدث حرفياً بالطبع حتى الآن، لكن حدث ما يُنذر به، فلم تكن مصادفة أن تشهد عدة مدن مصرية حملات للقبض على المفطرين فى نهار رمضان، وتغريمهم وإهانتهم وتجريسهم.
بدأت هذه الحملات فى أسوان بقرار من محافظها الذى يبدو أنه أنهى ـ بحمد الله ـ المشكلات المزمنة كالمسألة النوبية، فضلاً عن البطالة وهموم الناس التى لا تنتهى ليتفرغ لإقامة الحدود على «المجاهرين».
ثم اتجهت الحملة إلى مدينة تعيش على السياحة، ويرتادها ملايين السياح سنوياً، وهى «الغردقة»، حيث ألقت الشرطة القبض على عشرات المصريين خلال إفطارهم، وأخيراً وصلت للدلتا حين ألقت مباحث طلخا القبض على سبعة صبية «يدخنون فى النهار».
بصراحة إن ما يحدث لا يتسق مع روح الدستور المصرى ولا تراثنا القانونى والثقافى، فلم تشهد البلاد أبداً أى ملاحقات «رسمية» للمجاهرين بالإفطار، بل اقتصر الأمر على الاستهجان، وكان أكثر ردعاً، لأن عقوبته أقسى وهى «النبذ الاجتماعى»، لكن أن تتبنى الدولة ممثلة فى «تنظيم المحافظين» الذى أخشى أن يصدر مراسيم بتشكيل «هيئات للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».. فما المانع؟.
ليست مبالغة أن نبدى قلقا مشروعاً من محاكاة تجارب بعض دول الخليج، حين نقرأ أن مسؤولاً يتحدث عن قرار أصدره وزير الداخلية قبل سنوات بتغريم المجاهرين، ومصدر بالنيابة العامة يقول إن هذا يتفق وصحيح القانون، لأن المجاهرة «قلة أدب»، ويوضح المستشار أحمد مكى أن قانون العقوبات يجرم الجهر بالإفطار، ويعاقب حسب رؤية المحكمة، بينما يقول حقوقيون إن المجاهرة بالفطر منصوص عليها فى قانون العقوبات منذ أيام الملكية، وهى من الجرائم التى لا ترد لها مواد فى قانون العقوبات، لكنها تقع فى إطار القانون الجنائى الخاص، فهل ترى معى حالة «الفوضى القانونية»؟!.
كنت أحسبها من المُسلَّمات أن مسائل كالصوم والصلاة وجميع العبادات تخضع لسلطة الضمير الإنسانى، فلا دخل للمحاكم ولا الشرطة بها، فمن يخاف البشر ولا يخشى الله، لا يستحق شرف الصوم، لأن الهدف من الطاعات هو التقرب لله، وإلا سيصبح الصيام رياء للناس وامتثالاً للقانون فحسب.
كما لا يصح أيضاً أن نتجاهل حقيقة ساطعة أن بيننا ملايين المسيحيين، وهم غير مجبرين ـ إلا أخلاقياً ـ على الامتثال لطقوس دين آخر غير دينهم، كما أنه من الوارد أن يختلط الأمر بين مسلم مجاهر، وآخر مسيحى، فمثل هذه الحملات ستغذى الفتنة التى لم تعد نائمة، فقد توقف الشرطة مسيحياً مفطراً، وقد تلقى القبض على مريض لديه رخصة للإفطار، فهل يهان هذا أو ذاك ويسجن حتى إثبات براءته؟.
http://www.copts-united.com/article.php?A=7412&I=200